د. أيمن السيد عبد الوهاب: القوى الإقليمية والدولية توظِّف الجماعات الإرهابية للضغط على المنطقة ومصر قدمت نموذجاً قادراً على إعادة الاستقرار

أجرى الحوار: كيرلس عبد الملاك

 

قال الدكتور أيمن السيد عبد الوهاب، نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ورئيس تحرير مجلة أحوال مصرية، في مصر، إن تحولات الشرق الأوسط التي بدأت منذ عام 2011 نتج عنها تحديات طالت الدولة والمجتمع على حد سواء، وبالتالي باتت إعادة اللُّحمة المجتمعية وطبيعة العلاقة بين مكوناته تحتاج إلى وقت كما تحتاج إلى بناء مؤسسات، مشيراً إلى أن عمليات نقل الإرهابيين توضح أن القوى الإقليمية والدولية توظف هذه الجماعات للضغط على المنطقة لاستمرار اهتزازها وعدم استقرارها واستنزاف مواردها وأيضاً التخلص من هذه التنظيمات.

وأضاف عبد الوهاب، في حوار خاص مع منصة رؤى شرق أوسطية، أن الخروج الأمريكي المفاجئ بدون ترتيبات وبناء قوي، مثلما حدث في أفغانستان يؤدي إلى ظهور فراغات تحتاج إلى من يملأها، وهو التحدي الذي سوف يحدد، إلى حد كبير، درجة الاستقرار في المرحلة القادمة. مشيراً في الوقت ذاته إلى أن مصر قدمت نموذجاً عظيماً في عام 2013، كان قادراً على إعادة استقرار المنطقة إلى حد كبير، لكن حالة الفراغ والفوضى والاضطراب وتدخل القوى الدولية والإقليمية لم يساعد على إنجاح الفكرة المصرية المرتبطة بالدولة الوطنية في الدول الأخرى.

وكشف أيضاً وجود منحنى خطير تتعرَّض له الحضارة الأوروبية أو الغربية بشكل عام، فإما أن تكون قادرة على تجديد نفسها بما يتوافق مع الواقع الحالي أو سوف تنتهي، إذا لم تراعي الخصوصية في إطار التعدد. مؤكداً وجود اعترافات أمريكية انطلقت بعد الانتخابات الأمريكية الأخيرة تكشف عن وجود مشكلات في الديمقراطية الغربية، فهي ليست الحالة المثالية.

وأكد نائب مدير مركز الأهرام، أن منظومة حقوق الإنسان مرتبطة ببعضها البعض، وأن المشكلة تظهر حينما نتعامل معها بنوع من الانتقاء. فالحقوق الاجتماعية والثقافية والسياسية تمثل منظومة متكاملة. حتى وإن كنت في مرحلة ما تعطي أولوية لنوعية من الحقوق فهذا يرجع إلى أن الاحتياج مرتفع لها، مشيراً إلى الحاجة إلى تحقيق قفزات علمية في مصر والشرق الأوسط، لأن العلم أحدث بالفعل قفزات كبيرة جداً ونحن في حاجة إلى السعي لمجاراته، سواء فيما يتعلق بالعلوم التطبيقية أو العلوم النظرية.

 

وإلى نص الحوار:

 

تعرَّضت دول الشرق الأوسط لتحولات سياسية منذ عام 2011 نتج عنها آثار أمنية عصيبة.. في رأيك، ما هو الوضع الحالي لآثار هذه التحولات؟

هذه الآثار مازالت ممتدة إلى الآن، ولدينا نماذج متعددة يمكن أن نرصد من خلالها هذه الآثار، مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر، هذه أبرز الدول التي شهدت أنواعاً من التحولات، وهناك دول أخرى شهدت تحولات بمستوى أقل مثل المملكة المغربية. وقد نتج عن هذه التحولات تحديات طالت الدولة والمجتمع على حد سواء، وبالتالي باتت إعادة اللُّحمة المجتمعية وطبيعة العلاقة بين مكوناته تحتاج إلى وقت كما تحتاج إلى بناء مؤسسات. 

بشكل عام نستطيع أن نقول إن هناك تحولات وتطورات مستمرة في الشرق الأوسط، درجة الصراع قد تكون أقل من السابق لأن هناك مؤسسات قد تم بناءها. الحالة اليمنية تحديداً مازالت محتدة قليلاً لأن طبيعة التدخلات الإقليمية والدولية فيها وارتباطها ببعض التنظيمات الإرهابية يُعقِّد المشهد ويجعله قريباً من وضع دولة العراق.

أتصور أن هذه التطورات التي تتباين من دولة إلى أخرى وتمس كل من الدولة والمجتمع سوف تقطع شوطاً جديداً، مدى النجاح فيه يرتبط بدعم مؤسسات الدولة الوطنية، وتحصين المجتمعات بمعنى زيادة التماسك المجتمعي، والتركيز على التفاعلات المجتمعية المتباينة وخصوصاً في الدول التي تتسم بالتعدد العرقي والطائفي مثل سوريا والعراق، والتي تحتاج إلى مجهود أكبر لزيادة التماسك واللُّحمة المجتمعية.

 

ما مدى أهمية البُعدَين الدولي والإقليمي في إطار تطورات وتحولات الشرق الأوسط والتحديات التي يواجهها في الوقت الحالي؟

لابد أن نأخذ في الاعتبار التأثير الإقليمي والدولي على عمليات التطور أو التحول أو المستجدات التي تشهدها بعض الدول في الشرق الأوسط. في الغالب الأعم، التدخلات الإقليمية من دول مثل إيران وإسرائيل وتركيا وإثيوبيا تُزيد من اشتعال عدد من الملفات وتُزيد من حدة الصراع، خاصة أن هذه الدول تسعى لفرض نفوذ، وتسعى إلى تغيير توازنات القوى، وتسعى إلى اكتساب مكانة إقليمية توظَّف دولياً، وهنا يأتي البعد الدولي الذي يرتبط بكل هذه التفاعلات بسبب حالة التنافس على الموارد بين القوى الدولية، هذه الحالة التي أصبحت حاكمة لأوضاع دول الشرق الأوسط. والجديد في هذا الأمر، أن بعض القوى الدولية تحاول رفع تكلفة حصول الأطراف الأخرى أو القوى الأخرى على الموارد، بمعنى عدم اقتصار هدف القوى الدولية والشركات العالمية على الاستحواذ على موارد المنطقة وتعظيم فوائدها لكن امتداد أهدافها إلى محاولة جعل الأطراف الأخرى تتحمَّل تكاليف أكبر فتكون مكاسبها أقل، وربما تصل إلى درجة الاستنزاف، وهذا يعكسه بوضوح ملف الإرهاب، حيث أن دعم واحتضان قوى دولية وإقليمية للتنظيمات الإرهابية صار أبرز أدوات استنزاف القوى الدولية بعضها البعض.

عمليات نقل الإرهابيين من سوريا والعراق إلى سيناء ثم إلى ليبيا ثم إلى منطقة الساحل والصحراء، توضح أن تلك القوى الإقليمية والدولية توظف هذه الجماعات للضغط على المنطقة لاستمرار اهتزازها وعدم استقرارها واستنزاف مواردها وأيضا التخلص من هذه التنظيمات، حيث أن بعض هذه التنظيمات تضم رعايا دول أوروبية فكان من الضروري أن تجد هذه الدول مكاناً آخر لهذه التنظيمات بالإضافة إلى وسيلة نقل حتى تتخلص منها. وهذه حسابات خاطئة لأن هذه التنظيمات تعود مرة أخرى إلى الدول التي صنعتها ودعمتها، والدليل على ذلك هجمات 11 سبتمبر عام 2001، حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي صنعت تنظيم القاعدة واحتضنته وأعطته كل مقومات الحياة، وفي النهاية دفعت تكلفة هذه الرعاية، بحادثة إرهابية وقعت على يد هذا التنظيم بحسب المعلومات المتاحة لنا الآن.

توظيف التنظيمات الإرهابية من بعض القوى الإقليمية والدولية، هو تحدي كبير جداً لأفريقيا تحديداً في المرحلة القادمة، بسبب اتساع حجم انتشار هذه التنظيمات وأفكارها في القارة الأفريقية وخصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار التركيبة العرقية والقبائلية المتعددة في أفريقيا، لذلك فإمكانية الاختراق ستكون أكبر كثيراً خاصة في ظل القيم الأفريقية الأقرب إلى قيم التصوف.

كل هذه التحولات تضعنا أمام حالة تحدي كبيرة وحالة اضطراب سوف تستمر لفترة طويلة، خصوصاً مع التوجهات الأمريكية في إعادة التمركز، وكما رأينا في حالة أفغانستان مؤخراً، فإن الخروج الأمريكي المفاجيء بدون ترتيبات وبناء قوي يؤدي إلى ظهور فراغات تحتاج إلى من يملأها، هذا التحدي أعتقد أنه سوف يحدد، إلى حد كبير، درجة الاستقرار في المرحلة القادمة. 

 

كيف ترى دور مصر في ظل هذه التحولات الكبيرة في الشرق الأوسط؟

مصر في عام 2013 قدمت نموذجاً عظيماً كان قادراً على إعادة استقرار المنطقة إلى حد كبير، لكن حالة الفراغ والفوضى والاضطراب وتدخل القوى الدولية والإقليمية لم يساعد على إنجاح الفكرة المصرية المرتبطة بالدولة الوطنية في الدول الأخرى. أعتقد أن مصر قدمت نموذجاً للاستقرار السريع، حيث ركزت على فكرة الدولة، وأهمية إعادة بناء مؤسسات الدولة الوطنية، وأتصور أن المرحلة الآنية تحتاج إلى هذا العنوان بأن يتحول إلى واقع، ليكون التساؤل الرئيسي: كيف يمكن إعادة بناء الدول العربية في إطار مفهوم الدولة الوطنية؟ هذا المفهوم “الدولة الوطنية” أعتقد أنه يصلح للاستخدام مع كل حالات التحولات التي نراها الآن في معاناة من الاضطراب.

النموذج المصري تميَّز بوجود القوات المسلحة المصرية، بالإضافة إلى التماسك المجتمعي في مصر، وعدم وجود التعدد العرقي أو الإثني أو القبائلي الموجود في كل من سوريا والعراق. أعتقد أن مصر عندما تحدثت مبكراً عن موضوع الدولة الوطنية تحديداً تجاه سوريا والعراق، الكثير من الدول رفضت هذه الفكرة لأن ليس من مصلحتها تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط. 

مصر أيضاً لديها تجربة مع الإرهاب، الخبرة المصرية في مكافحة الإرهاب ومواجهته خبرة هامة جداً، وقد حاولت مصر أن تنقل هذه الخبرة إلى منطقة الساحل والصحراء، لذلك كانت حريصة على إطلاق دعوة مبكرة إلى إنشاء القوة العربية المشتركة لكن للأسف تم رفض الفكرة. وقد سعت مصر أيضاً إلى تعزيز الاستقرار في منطقة الساحل والصحراء من خلال احتضانها مقر القوات المعنية بمكافحة الإرهاب لكن حسابات بعض القوى الإقليمية والدولية لم تدعم هذه الفكرة الدعم الكافي لمواجهة خطر وجود التنظيمات الإرهابية في تلك المنطقة وهي منطقة شديدة الأهمية، لامتلاكها الثروات الطبيعية وإطلالها على البحر الأحمر الذي يتسم بالتنافس الدولي. كل ذلك يؤكد أن المرحلة المقبلة هي مرحلة إعادة ترتيب وحسابات شديدة التعقيد بين القوى الدولية وبعض القوى الإقليمية، تحديداً التنافس الأمريكي الصيني، مع اقتراب روسيا بخطوات بطيئة، ما يحمل تداعيات كبيرة جداً على أفريقيا. لذلك من الضروري أن نعود ونؤكد فكرة الدولة الوطنية، أن تكون الدول الأفريقية حريصة على مواردها وأن تكون حائط صد أمام هذه التحديات، وهذه المسألة لن تكون سهلة على الإطلاق بسبب تكلفتها وكون استنزاف موارد القارة الأفريقية مغري للجميع للتكالب عليها. وهذا يدفع إلى البحث في كيفية التوافق مع القوى الإقليمية والدولية حول ضبط آليات التنافس واستنزاف الموارد.

 

بعد أن أدت سياسات الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى وصول طالبان إلى حكم أفغانستان.. كيف تتوقع السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط في الفترة المقبلة؟

هناك مقولة مهمة جداً لهنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، تلخص الكثير من الغموض في السياسة الأمريكية، وهي:“ليس من مصلحة أمريكا أن تحل أي مشكلة في العالم، لكن من مصلحتها أن تمسك بخيوط المشكلة وتحركها حسب المصلحة القومية الأمريكية”. وهنا يظهر تساؤل: هل من مصالح الولايات المتحدة الأمريكية حل هذه المشكلة أم أن مصالحها تتحقق بالتواجد واستنزاف القوى الأخرى وتقليل التكلفة التي كانت تتحملها في مرحلة سابقة؟ ومع ذلك سوف تعيد الولايات المتحدة نقاط الارتكاز الخاصة بها لكي تحافظ على مصالحها الاستراتيجية بالتواجد المباشر أو غير المباشر. لذلك أنا أعتقد أن حالة الاضطراب التي تحدث الآن في آسيا ليست بعيدة عن فكرة الاستنزاف وحالة التنافس الصيني الأمريكي التي سيكون لها امتدادات. نحن أمام مرحلة سوف تشهد تطورات متسارعة، وسوف يكون هدفها إعادة توازن القوى في المنطقة مع المحافظة على المصالح الاستراتيجية لهذه الدول، والتي سوف تحتاج إلى وقت لتفعيل التوافق بين القوى، ويبقى التساؤل: إلى أي مدى سوف يحدث توافق؟ هذا هو التحدي الذي تدفع ثمنه دول الشرق الأوسط حتى الآن.

 

ما مدى واقعية مصطلح الاستعمار الجديد الذي يستخدمه البعض للتعبير عن حال الدول النامية فيما بعد الاستعمار التقليدي؟

لا أريد أن أستخدم هذا المصطلح، ولكن ما حدث بعد انتهاء الحرب الباردة هو الدخول فيما يسمى بالعولمة ومحاولة إعادة صياغة التفاعلات الدولية في إطار نجاح النموذج الغربي والثقافة الغربية والحضارة الغربية، بعد أن قدم الغرب نفسه باعتباره النموذج الناجح القادر على نقل العالم نقلة حضارية. كل ذلك أتى في إطار فرض النموذج، فرض الثقافة، على كل البشر على وجه الأرض.

ما حدث في حقيقة الأمر، أن بعض القضايا أثبتت عدم نجاح هذا النموذج سواء على المستوى الاقتصادي أو المستوى الثقافي أو المستوى السياسي. ظهور الصين ومجموعة النمور الآسيوية الآن يعد حالة جديرة بالمتابعة باعتبارها نموذج آخر مختلف عن النموذج الغربي. نحن اليوم أمام ما يمكن تسميته بالمنحنى الخطير الذي تتعرض له الحضارة الأوروبية أو الغربية بشكل عام، هذه الحضارة الغربية إما أن تكون قادرة على تجديد نفسها بما يتوافق مع الواقع الحالي أو سوف تنتهي. لابد أن تراعي الخصوصية في إطار التعدد. ما رأيناه في أزمة وباء كورونا العالمية أن كل دولة اهتمت بأحوالها ومصالحها الخاصة ولم نجد تطبيقاً صريحاً لرفع الحدود في إطار تحول العالم إلى قرية صغيرة كما كان يُقال في إطار العولمة. الفلسفة الخاصة بقضية العولمة تم المساس بها في أكثر نقاطها قوة، ويبقى الجزء الناجح فيها حتى هذه اللحظة الذي يربط العالم ببعضه هو الذي يتعلق بالتطور التكنولوجي والذكاء الصناعي وهو الذي يقدم الحلم للمجتمعات النامية. 

لكن تبقى الإشكالية في الفكر الغربي الحالي والدليل عليها ما يمكن تسميته بـ “المابعديات”، مثل: ما بعد الدولة، ما بعد المجتمع، ما بعد الحداثة. أنا أعتبر أن هذا السياق الفكري يعبر عن أزمة فكر في الحضارة الغربية، لأنه يبرز عدم القدرة على توصيف الحالة، بالتالي ينتقل إلى حالة أقرب ما تكون إلى حالة فراغ يحاول أن يرسم ملامحها. لذلك أصبح هناك اهتمام في العديد من الأروقة العلمية في أوروبا بالعودة إلى الفلسفة لشعور الناس بأنها فقدت أرواحها بتراجع الدراسات أو الرؤى الفلسفية. إذن نحن أمام مأزق حضاري. هناك دورات للحضارات، وهناك حضارات سقطت وانهارت. الحضارة التي تستطيع أن تجدد نفسها وتقدم شيئاً للإنسانية هي التي تستطيع أن تستمر، لكن إذا ما فرضت الأنانية والذاتية والمادية هذا يسلب روحها. أعتقد أن هذه إحدى الإشكاليات الكبرى في الحضارة الغربية.

اليوم نرى حجم التغير الذي طرأ على منظور الإنسان في التعامل مع الإنسان باعتباره آلة بالإضافة إلى أنه سلعة، حيث تم التلاعب في الأدوار من خلال أنسنة الآلة وميكنة الإنسان. أعتقد أننا نحتاج إلى اشتباك مراكز الأبحاث في منطقتنا مع هذا الفكر بشكل كبير وواسع.

الغرب كان يحاول تقديم نموذجاً حضارياً جامعاً للعالم كله، اليوم لدينا نموذج آخر، هناك بعض التخوفات منه وعدم اقتناع به، لكن في النهاية لدينا نموذجين حضاريين، النموذج الآسيوي بجانبه الروحاني وجانبه السلطوي. وهناك نموذج آخر أصابه الكثير من العطب وهو النموذج الغربي.

 

ما رأيك في الديمقراطية الغربية؟ ومدى صلاحية تطبيقها في العالم أجمع؟

هناك اعترافات أمريكية انطلقت بعد الانتخابات الأمريكية الأخيرة تكشف عن وجود مشكلات في الديمقراطية الغربية، فهي ليست الحالة المثالية. لا شك في أن الانتخابات الأمريكية الأخيرة تركت بصمات سلبية على عملية الديمقراطية، لذلك ظهرت تساؤلات من عينة: هل الديمقراطية التمثيلية هي الملائمة أم أننا نحتاج إلى نظام جديد يجمع بين الديمقراطية المباشرة والديمقراطية التمثيلية؟

من الأمور التي تم تصديرها لنا في إطار النموذج الغربي وما يتضمنه من أفكار ليبرالية وقضايا الحريات وما إلى ذلك، صناعة العدو الجديد وهو الإسلام، وبالتالي ظهر الإسلاموفوبيا وشيطنة الدين، في حين أن الغرب اليوم لديه نفس المشكلة ولا يوجد أحد يتحدث عنها سواء لمواجهة اليمين المتطرف أو الحركات الشعبوية التي تنمو ولها تأثير، وأعتقد أنها ظاهرة سوف تنمو أكثر في المستقبل إذا ظلت المعادلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة على حالها، وبذلك صنع الغرب حاجزاً نفسياً مع منطقة الشرق الأوسط، وهذا أمر في غاية الأهمية. 

الدين مُكوِّن أساسي في المنطقة، وهو لا يُعارض الديمقراطية ولا يُعارض الحرية وقيمه قائمة على فكرة التسامح  وقبول التنوع. لكن الإشكالية في استغلاله وتوظيفه سياسياً من الغرب نفسه قبل المنطقة العربية. الغرب هو من “حضَّر العفريت” ولا يستطيع صرفه. على سبيل المثال، تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر تم من خلال الحضَّانة الإنجليزية، وحتى اللحظة الآنية، إنجلترا تحتضن أكبر عدد من التنظيمات المتطرفة والمتطرفين، وأيضاً الولايات المتحدة الأمريكية هي صانعة تنظيم القاعدة لمحاربة الاتحاد السوفيتي. نحن أمام توظيف سياسي سيء للفهم الخطأ للدين. وقد صارت ظاهرة الإرهاب أكثر تعقيداً، خاصة عندما نرى غربيين ينضمون إلى تنظيم داعش. مع الأخذ في الاعتبار مستواهم الاجتماعي الجيد ومستواهم التعليمي الجيد، هم يبحثون عن مغامرة وفكرة لامعة يحققون فيها بطولة مزيفة وربما يعانون من حالة تمرد عام. هؤلاء تم تجنيدهم في أقل من أسبوع، ولا نستطيع أن نعتبر تجنيدهم قد تم على المستوى الفكري. 

قضية انضمام الأجانب للتنظيمات الإرهابية مشابهة لقضية الإلحاد الجديد. اليوم، تيار الإلحاد الجديد في أوروبا لم يعد يعتمد على التيار الفكري، الفلسفي، العميق، الذي كان موجوداً في الماضي، لكنه ينطلق من منظور الحرية المطلقة: “افعل ما شئت”. 

هذه الثقافة وهذا التحول إذا كان يمثل نوعاً من الخصوصية المجتمعية الغربية، والتي يعاني منها الآن في بعض المناطق، فإن منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية لديها خصوصية أيضاً في هذا الشأن، ومحاولة تغيير هذه الخصوصية والهوية  أنا أعتقد أن تكلفتها على دول الغرب أكبر كثيراً من الفوائد التي كانت تتخيلها، وهذا ما حدث اليوم من خلال ظهور نوع من الاضطراب المجتمعي نتيجة التشوهات التي أصابت المنطقة. المجتمعات الأوروبية عندما كانت تتطور من مرحلة المجتمع الزراعي التقليدي إلى الصناعي وهكذا، كان المجتمع كله ينتقل على مستوى التفاعلات والقيم والمؤسسات المجتمعية، أما في منطقتنا ونتيجة لعدم استمرارية التنمية وإعادة توزيع ثمار التنمية والتعدد العرقي حدث خلل داخل المجتمعات العربية، هذا الخلل جعل أنماط وسياقات التفكير ومنظومة القيم يعتريها التباين، فظهر تعدد في السياقات الحاكمة للمجتمع، لذلك مازلنا نعاني من مراحل عدم التنمية المستدامة ومراحل عدم التطور الكلي للمجتمع سواء في مؤشرات التنمية البشرية أو المؤسسات التقليدية والمجتمعية، لقد كان لدينا العائلة والقبيلة حاكمة، كبير العائلة يأمر فيُطاع، اليوم ضعف مفهوم العائلة ودورها ونفوذها لم يعد كبيراً بنفس السياق القديم، في مقابل هذا لا توجد مؤسسات مجتمعية جديدة تستطيع أن تحل محل المؤسسات القديمة التقليدية التي كانت تعمل على ضبط المجتمع والتأكيد على منظومة القيم. لذلك فمجتمعات الشرق الأوسط صارت تعاني من درجات من السيولة والتعدد غير المنضبط إذا جاز التعبير. هذا كله يعيدنا إلى الفكرة الرئيسية وهي الخاصة بالدولة الوطنية وفي قلبها البنيان الاجتماعي والتماسك الاجتماعي ومن ثم تحصينه. نحن أمام حالة تحدي كبيرة على المستويات الفكري والبحثي والواقعي. وفي تقديري، سوف نظل في مرحلة عدم الاتزان أو الاضطراب الحالية لفترة ما وسوف يكون تحديد مقدار هذه الفترة مرهوناً بمعرفة حجم وقدرة دول المنطقة على إعادة ضبط التفاعلات بين بعضها البعض، وتحديد المصالح، وتحديد التهديدات، وتوافق دول المنطقة مع القوى الإقليمية والدولية حول كيفية صياغة الإشكاليات والتفاعل معها.

إذا حدث توافق بين القوى الدولية الكبرى والشركات العالمية الكبرى حول استغلال الموارد والاستفادة منها، في هذه اللحظة نستطيع أن نتحدث عن أجندة أو روشتة قابلة للتنفيذ، لكن في ظل التنافس والدخول فيما يشبه حرباً باردة جديدة، فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة العظمى، إلا أنها على مستوى التفوق الاقتصادي تشاركها قوى متعددة على رأسها الصين والاتحاد الأوروبي والهند، يوجد تنافس بين هذه القوى ولم يوضع تحديد لطبيعة العلاقة التي تحكم هذا التنافس.

 

ما هي رؤيتك لمستقبل الأوبئة في العالم بعد أزمة كوفيد-19 العالمية؟

الأوبئة سوف تمثل تحدي كبير في المرحلة المقبلة، خاصة في ظل التغيرات المناخية وتوظيف بعض الدول مع الشركات العالمية لهذه الأزمات واستغلال الدول الفقيرة. إدارة الموارد سوف تحدد مستقبل الصراع العالمي، ليحل التساؤل: من يسيطر على الموارد وبالتالي يستطيع أن يحتل القمة لفترة طويلة؟ 

 

كيف ترى مستقبل الإسلام السياسي بعد تأزُّم وضع حركة النهضة في تونس؟

أعتقد أن الإسلام السياسي ظاهرة تُستنزف، لن تنتهي في الوقت القريب، هي تتعرض لموجات. الأفكار من هذه النوعية على مر التاريخ تمر بمراحل نمو وانكماش، الذي يتحكم في هذه المسألة وجود حضَّانة للأفكار، فطالما وجدت الحضَّانة تظل هذه الأفكار لامعة وقابلة للتنفيذ وقابلة للتوظيف، وهذه هي النقطة الأهم. هذه الحضَّانة تتشكل من مصالح القوى الدولية التي تتضافر مع مصالح بعض الأطراف الإقليمية، لكن عندما يجد الغرب عدواً جديداً سوف تنتفي قضية الإسلام السياسي، أو على الأقل سوف تتراجع. الدليل على ذلك أن الفكرة القومية كانت قوية وحاكمة واستطاعت تحجيم الإسلام السياسي إلى حد كبير. لكن النمو الذي طرأ على أفكار الإسلام السياسي منذ أوائل السبعينيات تم من خلال الحضَّانات، وحتى هذه اللحظة يتم استثمار هذه الأفكار لأن لها فوائد. وبالتالي عندما تقل الفوائد من منظور القوى الدولية سوف تتراجع وتنكمش. سوف تكمن لكنها لن تموت، لأن الأفكار في العموم لا تموت.

الفكر المتطرف هو موجود طوال الوقت، في كل المجتمعات والثقافات، لكنه يحتاج دائماً إلى دعم حتى يتقوى، لذلك أنا أحمل الغرب جزء كبير من مسؤولية دعم الإسلام السياسي، صحيح مجتمعاتنا تتحمل بعض المسؤولية، لكن الحضَّانة القوية توفَّرت من خلال سياسات القوى الدولية. وإلى الآن يوجد دعم لهذه الأفكار المتطرفة، وإن كان هناك مرحلة انتقالية نتيجة إعادة النظر في السياسة الأمريكية وإعادة ترتيبها، لكن نموذج طالبان يطرح نموذج للإسلام السياسي، فهل سوف يكون هو النموذج الأكثر بريقاً باعتباره نموذج محلي نجح في الوصول للسلطة خاصة في ظل القبول الدولي له بدرجات متفاوتة؟ الإجابة على هذا التساؤل تتوقف على قدرة هذا النموذج على إدارة الدولة والتواصل مع القوى الدولية.

الفكر المتطرف في نهاية الأمر لا يكون له جذور قوية، إلا إذا قمت بتغذيتها. 

 

لقد أطلقت مصر في وقت قريب الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان.. كيف ترى إمكانية تطبيق هذه الاستراتيجية في الواقع المصري؟

أعتقد أن هناك إمكانية لتطبيق هذه الاستراتيجية. إذا ما ربطنا إطلاق هذه الاستراتيجية بمجموعة الاستراتيجيات الأخرى التي أطلقتها مصر أيضاً سوف ندرك مقدار التحرك في الدولة المصرية ومسار التحول. تم وضع الاستراتيجية الوطنية لتنمية الريف، والاستراتيجية الوطنية لتنمية الأسرة المصرية، واستراتيجية حقوق الإنسان. إذا قرأت الاستراتيجيات الثلاث معاً، سوف تجد أن المُكوِّن الحقوقي أو المنهج الحقوقي التنموي حاضر بقوة. وهو ما يكشف حجم التطور داخل المجتمع المصري، بالإضافة إلى استهداف المناطق التي عانت من التهميش وعدم عدالة توزيع ثمار التنمية والإهمال إلى حد كبير، فبالتالي أتصور أنه بكثير من الدعم المجتمعي الداعم للتغيير سوف تنجح هذه الاستراتيجيات. المدخل الحقيقي لإنجاح هذه الاستراتيجيات هو كل من المكوِّن الثقافي والتوعوي والدعوي الذي تستطيع من خلاله تغيير طريقة تفكير الناس، فعلى سبيل المثال، لن تستطيع إحداث تغيير في قضية الزيادة السكانية ولن تستطيع مواجهة التطرف إلا إذا اقتنع الناس.

الجزء الذي يحمل دائماً تحدي في مثل هذه القضايا هو قدرة الأطراف على الاستقبال وقدرة الدولة على استمرار هذه الجهود. الناس لديها رغبة في التغيير، لكن المجتمع المصري ليس كتلة واحدة، فبرغم تواجد القرى المصرية بجوار بعضها البعض، إلا أن كل قرية لها خصوصية، ما أتصوره أننا نحتاج إلى عمل نماذج تنموية متعددة لهذه القرى، بحيث يكون لكل قرية دليلها الخاص، وهذا موجود بالفعل في استراتيجية تنمية الأسرة المصرية لأنه يركز على موضوع تنظيم الأسرة. ينبغي إدراك أن التغيير لا يتم بين يوم وليلة وبالتالي لابد من العمل على استدامة الاستراتيجيات بالإضافة إلى الرفع من المكوِّن الثقافي والتوعوي لكي تستطيع به أن تواجه المشكلات المتأصلة في المجتمع.

 

كيف ترى خوف البعض من إتاحة الحريات السياسية خشية إعادة سيناريو عام 2011 بما يحمله من انفلات أمني؟

منظومة حقوق الإنسان مرتبطة ببعضها البعض، المشكلة تظهر حينما نتعامل معها بنوع من الانتقاء. الحقوق الاجتماعية والثقافية والسياسية تمثل منظومة متكاملة. حتى وإن كنت في مرحلة ما تعطي أولوية لنوعية من الحقوق فهذا يرجع إلى أن الاحتياج مرتفع لها. لا يستطيع أحد أن يبحث عن حقوق سياسية وهو يفتقر إلى حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولا وجود لحقوق سياسية بدون الحقوق الأساسية. لكن الأولوية لا تمنع التكامل، والتدرج في إتاحة الحقوق في غاية الأهمية. سرعة مع عدم وجود توافق يؤدي إلى إحداث خلل وتشوهات في المجتمع، مما يجعل كل مجموعة فيه تبحث عن مصلحتها الخاصة. إذن فمصر هنا تعيد رسم فكرة المنظومة المجتمعية. أعتقد أن مصر تطبق خطط هامة جداً في إطار البناء الإنساني والمجتمعي. وأعيد مرة أخرى أن التحدي أمام هذه الخطط يتعلق بالاستمرارية وتوفر الإرادة المجتمعية. على سبيل المثال، النقاش الدائر في مصر حول مفهوم الإصلاح الديني، جزء من الصعوبة التي يواجهها تتعلق بطبيعة اللغة وتحرير المفاهيم، وهو ما لم يحدث من قبل. الناس حينما تتحاور في هذا الموضوع برغم انتمائها إلى مجتمع واحد إدراكها للمفاهيم يختلف، وهذا ما صنع حالة كبيرة من الشحن في ملف شديد الأهمية مثل هذا.

 

كيف ترى وضع البحث العلمي في مصر والشرق الأوسط؟

أعتقد أننا نحتاج إلى رفع معدل البحث العلمي. اليوم، العلم هو المفتاح للوجود في المستقبل وتحقيق التقدم، أيضاً مع حجم التحديات التي تواجهها الدول، نحتاج إلى تحقيق قفزات علمية في مصر والشرق الأوسط، لأن العلم أحدث بالفعل قفزات كبيرة جداً ونحن في حاجة إلى السعي لمجاراته، سواء فيما يتعلق بالعلوم التطبيقية أو العلوم النظرية. إذن فنحن في حاجة إلى زيادة الأبحاث العلمية بالإضافة إلى جودة العمل البحثي إلى جوار الاشتباك بشكل أكبر مع الواقع الدولي. في المنطقة العربية، معدل الاشتباك مع الأبحاث الدولية والمؤسسات الدولية العالمية في الغالب يكون ضعيف أو موسمي. وبعد انتشار وباء كوفيد-19 انخفض ذلك الاشتباك أكثر. أتمنى أن نأخذ دفعات أكثر في المرحلة المقبلة، لأن ذلك ما يصنع القبول الحضاري للدول. لابد من توفر النقاش والحوار العلميين لكي يتصفان بالجدية فلا يكونا مجرد تنفيس أو تعبير عن آراء مرسلة، وخصوصاً ما يتعلق بالدراسات التطبيقية والعلوم التي تحتاج طفرات بحثية في المنطقة. لكن أيضاً في مجال البحوث النظرية، تحتاج دول المنطقة إلى فهم الواقع والقدرة على التعامل مع الواقع الغربي، فيكون هناك قبول علمي. إحدى الإشكاليات التي تواجهها دول المنطقة مع العديد من مراكز الفكر والأبحاث الغربية، هي وجود نموذج واحد، يرى الحل بطريقة واحدة من خلال ذاك النموذج، فلكي تقنعه بالنموذج الخاص بك هذا يحتاج إلى نوع من التطوير والدعم، لذلك أقول إن البحث العلمي سواء في الجانب التطبيقي أو فيما يتعلق بالأبحاث الاجتماعية والنظرية يحتاج إلى دعم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *