التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لسياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي

لقد تزامن دور الدولة في التخطيط الاقتصادي ودعم التعليم والصحة والضمان الاجتماع أي ما يُعرف “بالكينزية” مع ظهور الكتلة الاشتراكية السابقة ونهوض الصين، وتنامي حركات التحرر الوطني ذات الخلفيات اليسارية والاشتراكية في كل من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وبعد انهيار المنظومة الاشتراكية السابقة وتجارب التطور اللارأسمالي تعاظم سعي الرأسمال العالمي للسيطرة التامة على جميع اقتصاديات العالم، حيث شكل كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية أدوات تمكين الرأسمال العالمي لربط جميع اقتصاديات العالم به، وهذا الأمر لا يرتبط بإزاحة دور الدولة عن رعاية التعليم والصحة والضمان الاجتماعي فحسب، وإنما يتسع لأكثر من ذلك، حيث تسعى تلك المنظمات من خلال سياساتها إلى جعل اقتصاديات العالم اقتصاديات تابعة، وتعزيز الشروط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وحتى الثقافية لذلك.

 

لمحة عن الإقراض في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

يشكل نمط الإنتاج الريعي الصفة السائدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقد أسهم هذا النمط وما وفره من عوائد كبيرة في ترهل القطاع الحكومي من جهة، كما أسهم من جهة أخرى في إضعاف نمو البرجوازية الوطنية، ما أدى إلى إبطاء التراكم الرأسمالي الوطني الضروري، فالنظام الاقتصادي التابع يحرم البرجوازية المحلية الصناعية والبرجوازية الصغيرة والحرفيين من تحقيق النمو والتراكم الرأسمالي الوطني المطلوب.

لقد نشأت البرجوازية الوطنية العربية مرتبطة بأزمة الرأسمالية العالمية، فلم تكن طبقة قائدة لمشروع وطني ديمقراطي تنويري، هذه الأزمة كرّستها الأوضاع السياسية غير المستقرة، والتي حالت دون نشوء برجوازية صناعية وزراعية قوية ومؤثرة على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

إن النظام الرأسمالي يسعى لإخضاع العالم لمسار تطوره ولجعله تابعًا لذلك المسار، للتخفيف من أزماته المتكررة عبر ربط جميع اقتصاديات العالم به، أي ما يسمى بالتكييف الاقتصادي، ويكفي أن نعرف أن الولايات المتحدة الأمريكية لها وحدها حق الفيتو في قرارات صندوق النقد الدولي، إذ إن عمليات التوزيع العامة لمخصصات حقوق السحب الخاصة تتطلب موافقة مجلس المحافظين بنسبة 85% من مجموع القوة التصويتية، وتمتلك الولايات المتحدة الأمريكية 16.5% من مجموع القوة التصويتية، والذي يضمن قدرتها على التحكم بالنهج العام الذي يتبعه الصندوق، ويكفل هيمنتها الاقتصادية والسياسية عليه، كما أنه يفرض أولوية لمصالح الرأسمال الأمريكي حتى بالنسبة لمصالح الدول الرأسمالية الأخرى.

أما على صعيد القروض المقدمة للدول العربية، فقد حصلت مصر واليمن من صندوق النقد على قرض بقيمة 12 مليار دولار و552.9 مليون دولار على الترتيب، بينما يتلقى الأردن وتونس في الوقت الحالي قروضًا بقيمة 1.3 مليار دولار و2.9 مليار دولار على الترتيب.

ووقع المغرب على أربع اتفاقات مع صندوق النقد منذ عام 2012، حيث حصل في 2012 على قرض بقيمة 6.2 مليارات دولار، وفي 2014 حصل على قرض بلغ 5 مليارات دولار، وفي 2016 حصل على قرض بقيمة 3.5 مليارات دولار، وأخيرًا في 2018 حصل على قرض بقيمة 2.97 مليار دولار.

 

شروط الإقراض

يميل أسلوب الإنتاج الرأسمالي نحو التطور الأقصى للقوى المنتجة من جهة، ومن جهة أخرى فإن علاقات الإنتاج والملكية التي تميزه (العمل المأجور أو بالأجر، الاستيلاء الخاص على الثروة المنتجة بالإضافة للإنتاج بهدف الربح بدلًا من تلبية الاحتياجات الاجتماعية) تُعرقل بشكل دوري تطور تلك القوى المنتجة، وتؤدي إلى إنتاج فائض في رأس المال، وانخفاض معدل الربح للرأسمال المتراكم الذي لن يجد استثمارًا يحقق له الربح الضروري والفائض المطلوب في السلع، فتراكم السلع التي لا يمكن بيعها بسعر كافٍ يحقق عائدًا مناسبًا لرأس المال المستخدم لإنتاجها.

يعتمد صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في سياستهما على تكييف اقتصاديات الدول المستدينة من خلال خفض النفقات الاجتماعية، ورفع الدعم عن الوقود والمواد الغذائية والحاجات الأساسية التي تقدمها الدول لمواطنيها، تلك السياسة التي يعتمدها بخفض الإنفاق، وتشمل بالأساس خدمات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، والتي تسهم في اتساع عمل القطاع الخاص في هذه الميادين يؤثر سلبًا على الفئات الاجتماعية منخفضة الدخل، كما أن انتقال الخدمات الصحية والتعليمية من القطاع الحكومي إلى القطاع الخاص لا يوفر فرص عمل إضافية.

كل ذلك في مسار اقتصادي سياسي للانتقال التدريجي من الدولة الراعية، النموذج الذي ساد في الستينات والسبعينات والثمانينات، إلى اقتصاد السوق التابع وتقليص الخدمات الاجتماعية ورأسملة الصحة والتعليم.

من جانب آخر إن رفع الدعم عن الوقود والمواد الغذائية والحاجات الأساسية الأخرى يجعل من الإنتاج المحلي منافسًا غير متكافئ مع السلع المستوردة، وهذا يعود بالأساس للتفاوت في مستوى تطور أدوات الإنتاج، والذي سيحول دون تطور إنتاج القطاعات الصناعية والزراعية، وسيرفع بالتالي من معدلات البطالة ويزيد من اعماد الاقتصاد على الإنتاج والسلع الأجنبية.

إن سياسة التجارة الحرة ورفع الدعم الحكومي عن إنتاج السلع الوطنية واحدة من وصفات خفض النفقات والتي تجعل من الإنتاج المحلي منافسًا ضعيفًا أمام السلع الأجنبية، ما يشكل عائقًا أمام تطور الإنتاج الصناعي والزراعي واتجاه الرأسمال المحلي نحو النشاط التجاري، الذي يهدف بالأساس إلى غزو الأسواق بالسلع الأجنبية، بالإضافة للنشاط العقاري والمضاربة.

 

هيكلة الاقتصاد أم مزيد من التشويه الاقتصادي

إن الاقتصاديات الريعية أو شبه الريعية السائدة في المنطقة العربية شكلٌ مشوهٌ للاقتصاد، لأنها اقتصاديات غير إنتاجية، ولا تسعى لتطوير قوى الإنتاج وإحداث التراكم الرأسمالي الضروري، فالاقتصاد الريعي يعيق التطور الطبيعي للبنى الاقتصادية، حيث يمتاز بنسبة عالية من الدخل المتأتي من الريع، ونسبة عالية من الإنفاق مصدره الدولة، إن هذا التورم في دور الدولة ليس نتيجة لدور حكومي إنتاجي وخدمي كبير، كما يتصوره البعض من “اليساريين العرب”، وإنما هو عجز عن خلق نشاط اقتصادي إنتاجي كبير ومؤثر، كما أن هذا الانفاق الكبير يخلق جهازًا إداريًا مترهلًا مواليًا للدولة وسلطتها الحاكمة، وبالتالي فإنه ينعش البرجوازية الطفيلية غير الإنتاجية ويشكل تحالفًا بين البرجوازية الطفيلية – البيروقراطية – الكومبرادورية على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.

وفي الاتجاه نفسه تسعى سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى الحفاظ على هذا التحالف، فلا تركز على الفساد في الإدارات الحكومية، ولا على الهدر الناتج عن الرواتب المرتفعة لكبار المسؤولين الحكوميين والامتيازات التي يحصلون عليها، لأنها تمثل رُشى لديمومة ذلك التحالف بما يخدم الأهداف البعيدة لتلك السياسات.

هذه السياسات ستعيق على المدى المتوسط والبعيد إمكانيات نشوء أو حدوث تراكم رأسمالي وطني، بالإضافة لتحطيم الإنتاج الحرفي والمهني وتجعل من الاقتصاد رهينًا للتشابك أو الترابط مع المنظومة الرأسمالية العالمية ليصبح متنفسًا لأزماتها، إن هذا التشبيك هو علاقة الرأسمال القوي بالرأسمال الضعيف، علاقة المركز بالمحيط، والقائد بالتابع، والتي ستدفع باتجاهين: الأول فتح الأسواق للبضاعة الأجنبية، والثاني فتح الأبواب أمام الرأسمال الأجنبي لشراء الأصول المحلية بتكلفة منخفضة.

ماذا علينا أن نفعل؟

لا يمكن مواجهة تلك السياسات وما تسعى إليه من سيطرة وتحقيق أرباح بالشعارات والأماني، وإنما يجب تنفيذ إجراءات سياسية واجتماعية واقتصادية كفيلة بالحد من تلك تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، ويمكن إيجاز هذه الإجراءات بعدة خطوات:

  • دعم الإنتاج الوطني الصناعي والزراعي في الحقول التي تتناسب مع الظروف الموضوعية للبلد من حيث المواد الأولية والخبرات
  • تشجيع الرأسمال الوطني على التوجه للقطاعات الصناعية والزراعة وتوفير التسهيلات الضرورية لنموه
  • تطوير السياسة التجارية للبحث عن الأسواق لتصريف الفائض من المنتجات المحلية
  • سن التشريعات المعاصرة الضرورية لتنظيم عمل الشركات التجارية والصناعية والزراعية المساهمة، لتوفير فرص لاستثمار الرأسمال الوطني الصغير، ومدخرات متوسطي الدخل في المشاريع الإنتاجية الكبيرة

ملاحظة “هذه الدراسة خضعت لمراجعة أ.م.د عائدة فوزي احمد، د. شكري الصيفي ، د. إيمان نصرى داود شنودة، د. عماد بسام غنوم، د. النوري الاديب

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *