الشرق الأوسط والسياسات الدولية (2): تدافع الأجندات الروسية تجاه الشرق الأوسط

مقدمة:

يسعى الكرملين حثيثاً إلى تطوير سياسته في الشرق الأوسط، فتحركات موسكو في الشرق الأوسط ليست بالجديدة لكنها متطورة مع الزمن، وينتابها الحرص الشديد في ترسيم حدود تحركاتها.

المعركة الروسية الأهم في الساحة الشرق أوسطية هي تنافسها مع الولايات المتحدة الامريكية، فواشنطن تتعامل مع التوجهات الروسية الجديدة في الشرق الأوسط كعملية تدافع بينهما على ملفات عديدة، الطاقة والاستراتيجية والتحالفات السياسة وغيرها من الملفات ذات الحساسية الكبيرة للطرفين.

لم يخفى على السياسيين الروس توسُّع التوجهات الأمريكية في عدة اتجاهات مثل إفريقيا بعد تأسيس مركز أفريكوم للقيادة الأمريكية في قارة إفريقيا، إضافة إلى التحركات بإتجاه آسيا. ومن الواضح أن روسيا لم تعد تقبل بحيز محدود وثانوي في مستوى نفوذها بمنطقة الشرق الأوسط، وقد برز أكثر ما برز هذا التوجه في مستوى التدخل الروسي في أحداث الثورة الروسية. ومن الواضح أيضاً أن روسيا استوعبت الحدث على الساحة الليبية، وأن خارطة تحالفاتها باتت مهددة مباشرة لذلك جاء تدخلها في الحدث السوري مفصلي وموجه للأحداث منذ بدايتها حتى الوقت الحاضر.

 

أولاً: روسيا وأمريكا والتنافس المعلن:

خلال إدارة جورج بوش الابن، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في عام 2001، تغير مشهد السياسة الدولية وكان هناك ثلاث أحداث أساسية هامة، هي احتلال افغانستان ثم احتلال العراق والحرب على الإرهاب على أساس المحددات والاعتبارات الأمريكية.

وبالانتقال إلى التوجه العام لسياسات إدارة بايدن فهي تتسم بالهدوء في تحركاتها إذا ما قورنت بسياسات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. لكن التساؤل المطروح أمام المشهد القائم: هل لروسيا مصلحة في العهد الأمريكي الحالي؟

إن أحد أهم الاعتبارات الأساسية في نهج بايدن ترميم ما أفسده عهد سابقه دونالد ترامب، فقد اندفع ترامب نحو تعميق الامتعاض من السياسات الأمريكية المتهورة خاصة في القضية الأهم في الشرق الاوسط المتمثلة في الملف الفلسطيني – الإسرائيلي.

من جهة أخرى، تشير روسيا اليوم عبر سياساتها في الشرق الاوسط إلى أنها موجودة به بلا عودة، وتحاول أن توجد موطىء قدم إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية في كافة الملفات. وقد عرضت وثيقة الأمن القومى الروسية الصادرة فى ديسمبر من عام 2015 المصالح الوطنية للاتحاد الروسي والأولويات الوطنية الاستراتيجية والأهداف والمهام والتدابير في مجال السياسة الداخلية والخارجية التي تهدف إلى تعزيز الأمن القومي للاتحاد الروسي وضمان التنمية المستدامة للبلاد على المدى الطويل؛ کما سلطت الضوء أيضاً على أهمية الشرق الأوسط في السياسة الخارجية الروسية. (1)

لم تكن لتقبل روسيا باستمرار انزوائها في دورها وحراكها في الشرق الأوسط، وهذا استدعى منها تحركاً مغايراً في السنوات الأخيرة، لكن هناك عوامل تثبِّط من الدور الروسي في الشرق الأوسط فلم تستطع موسكو بهذا الدور أن تتوازى مع غيرها من دول النفوذ الدولي، أمريكا والصين وبعض دول الاتحاد الاوروبي. أول هذه العوامل، غياب الدعم الاقتصادي، فدول الشرق الأوسط في غالبيتها تحتاج دور داعم من تلك الدول وهو ما لم تستطع روسيا أن تقدمه لها، فأقصى ما تقدمه هو التخفيض في مديونيات الدول، أو المشاريع المعتمدة على القروض.

 

ثانياً: القوة الناعمة الروسية:

أطلقت روسيا فضائية روسيا اليوم العربية لتكون أقرب إلى وعي المواطن العربي. موسكو ليست بالضعيفة وتستطيع استثمار العديد من طاقاتها كقوة ناعمة، وإن كانت خسرت الأيديولوجيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي فلا زال التوجه الروسي المنافس للولايات المتحدة الامريكية يشكل حالة قبول للكثيرين من قاطني الشرق الأوسط. وإن كانت روسيا تعرضت لهزة معنوية كبيرة في حربها ضد جمهورية الشيشان نظراً للتعاطف الإسلامي مع الشعب الشيشاني، لكن الهجمة الأمريكية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر خلقت انجذاب جديد تجاه الخيار الروسي في عقل ووجدان المواطن في المنطقة كمكافئ للقوة الأمريكية في الشرق الأوسط خاصة بتزامن الأحداث مع صعود بوتين لسدة الحكم في عام 2000.

ظهر مصطلح ” القوة الناعمة ” لأول مرة في الخطاب الرسمي للدولة الروسية على لسان رئيسها فلاديمير بوتين عند توليه منصب الرئاسة  للاتحاد الروسي في عام 2006. (2) وإن كان هناك غياب واضح لروسيا ولسنوات كثيرة عن استخدام  القوة الناعمة لكنها أدركت أنه لا غنى عن الدخول إلى ذهن المواطن العربي ودول الشرق الاوسط عموماً، مع ذلك فهناك ما لم تتساير معه موسكو من أدوات القوة الناعمة متمثلة في المجتمع المدني ومؤسساته، ففي الزمن الذي تصاعد فيه دور المجتمع المدني وتشاركه مع الحكومات في تنفيذ برامج تنموية واقتصادية، لموسكو موقفها التاريخي تجاه مثل تلك القضايا فلم يعرف عن روسيا انتماء مؤسسات تنفذ وتدعم برامج أهلية، لتترك هذا المجال للدول الأوربية وواشنطن، وكان لهذا العزوف الروسي تأخر في نفاذها للمجال الشرق أوسطي الذي استُهدف بموازنات طائلة كبرامج مجتمع مدني وأهلية.

وقد عرضت وثيقة الأمن القومي الروسية الصادرة في ديسمبر 2015 المصالح الوطنية للاتحاد الروسي والأولويات الوطنية الاستراتيجية والأهداف والمهام والتدابير في مجال السياسة الداخلية والخارجية التي تهدف إلى تعزيز الأمن القومي للاتحاد الروسي وضمان التنمية المستدامة للبلاد على المدى الطويل؛ کما سلطت الضوء أيضاً على أهمية الشرق الأوسط في السياسة الخارجية الروسية. (3)

 

ثالثاً: روسيا في دمشق:

أكثر ما برز به الدور الروسي في الشرق الأوسط التدخل في الساحة السورية، بعنوان عريض: لا تراجع للدور الروسي في الشرق الأوسط.

لم نعتاد طبيعة هذا التدخل العسكري في الجغرافيا، ومؤشراته في عدة اتجاهات، سواء على مستوى التنافس الدولي، واختلاف الأجندات الروسية الخارجية. هذا التدخل أوجد فهماً جديداً لطبيعة التحرك الروسي القائم على الندِّية مع القوى الدولية خاصة الولايات المتحدة الامريكية، كما شكلت منظومة جديدة من العلاقات مع كافة الأطراف في الشرق الاوسط، منها الخليجية والإيرانية والتركية وغيرها.

الملف الذي حافظت روسيا على مسافة واضحة منه، قضية الشرق الأوسط الأساسية، القضية الفلسطينية وعملية السلام، فالتقليد السائد في السياسة الروسية أن هذا الملف تبقى أولوية التدخل فيه لواشنطن، واكتفت بالدور الداعم لكلا الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. إلا أن موسكو رغم دعمها الطويل للمطالب الفلسطينية، منذ العهد السوفيتي، لكنها لم تتوانى في تطوير علاقاتها مع إسرائيل. الأهم أن إسرائيل تدرك الآن أن روسيا في الشرق الأوسط ليست روسيا السابقة، وأصبحت صاحبة دور رئيسي في سياسات الشرق الأوسط الجيدة وأزماتها.

روسيا اليوم ترسخ دورها في الشرق الأوسط كقوة عظمى وتملي إرادتها وتوجهاتها في ملفات المنطقة، فتحاول إنتاج علاقاتها التي تراجعت ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وهي تعلم ان هذا يستدعي دوراً مختلفاً يقوم على الموازنة والجمع بين اليساسي والأمني والاستراتيجي والاقتصادي. مع ذلك لا تسير ماكينة التأثير الروسي بنفس السرعة التي تسير بها قوى دولية أخرى مثل الصين وأمريكا، فالحماسة وحدها لا تكفي في بسط أي نفوذ دولي، ولن يتعزز الدور الروسي إلا من خلال أدوات جديدة أكثر فاعلية تعزز الدور الروسي كلاعب مهم في الشرق الأوسط.

 

رابعاً: روسيا والاقتصاد في الشرق الأوسط:

روسيا في استراتيجياتها الجديدة، في العهد البوتيني خاصة، أخذت تتوسع أكثر في مشاريع الشراكة الاستراتيجية لا سيما الاقتصادية منها وظهر أكثر ما ظهر هذا التوجه في منطقتي الشرق الأوسط وإفريقيا، وسعت إلى تعميق استراتيجيتها التوسعية فتنوعت ما بين الاستثمارات الصناعية وتجارة الأسلحة والطاقة. وفي سياق نمو حجم التجارة الخارجية الروسية منذ عام 2015، تتزايد باستمرار حصة شركاء موسكو التجاريين في الشرق الأوسط: فإذا كانت تمثل 6.1٪ في سنة 2016، فقد وصلت إلى 7.1٪ في 2018. (4)

روسيا تواجه منافسة مطردة مع الولايات والمتحدة والصين والاتحاد الاوروبي لذلك فهي أدركت أن تحركها الاقتصادي في المنطقة يجب أن يستند على الاستراتيجية وليس الHيديولوجيا والمسلمات، ونتيجة لهذا الYدراك تنوعت علاقات روسيا الاقتصادية بين كافة الHطراف خاصة المتناقضة، كما هو الحال في علاقاتها مع إيران والمملكة العربية السعودية في ذات الوقت.

وعلى صعيد ملف الأسلحة فقد نوعت روسيا من صادراتها للأسلحة مع دول الشرق الاوسط وتطور التعاون إلى توطين صناعات روسية عسكرية في المنطقة، واستطاعت روسيا تقديم صورة غير معتادة لصناعاتها العسكرية وباتت الرغبة في اعتمادها تتزايد خاصة وأن نظام التعاقد في موسكو لا يخضع للبيروقراطية المألوفة في واشنطن والاتحاد الاوروبي في عقد صفقات السلاح.

إن دبلوماسية السلاح الروسي باتت وسيلة لا تراجع عنها لتحقيق تداخل وتواجد روسي في أجندات المنطقة، فقد استطاعت روسيا أن تسوِّق سياساتها العسكرية في المنطقة أولاً كبديل للسلاح الأمريكي والأوروبي. الفهم الروسي العسكري في المنطقة يتقاطع مع مستجدات المنطقة المتصاعدة. السلاح الروسي تعتبره موسكو أكثر وصولاً للدول في الشرق الأوسط، لذلك  ظهرت حالة من التدافع في المنطقة لاقتنائه خاصة في ظل التطور النوعي له.

وتسجل زيادة واضحة في حصة بلدان الشرق الأوسط خلال الفترة 2014-2018، فهم يتلقون ما بين 45٪ و48٪ من مجمل صادرات الأسلحة الروسية، من الجلي أن روسيا لن تتراجع في ارتباطها بالشرق الاوسط .

 

المراجع:

  1. https://jpsa.journals.ekb.eg/article_190053.html
  2. Stefan Meister, Putin’s Version of Soft Power: The Roots and Instruments of Russia’s Disinformation Campaign , German Marshall Fund of the United States ,2016. Pp. 7-12.
  3. https://jpsa.journals.ekb.eg/article_190053.html
  4. https://orientxxi.info/magazine/article3501

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *