بين الإصلاح الاقتصادي وآفاق التنمية المجتمعية في فلسطين

مقدمة:

يجد موضوع الإصلاح الاقتصادي اهتماماً ملحوظاً في سياسات الدول في الوقت الراهن، ورغم تشعب قضايا الإصلاح الاقتصادي لكن يبقى للبعد الاجتماعي مكانته الخاصة وأهميته في عالم باتت معايير الرفاه والتنمية فيه عنوانا لمعايير رقي وتقدم النظم السياسية.

وهناك باستمرار حالة من الجدل حول طبيعة العلاقة بين ما هو اقتصادي وما هو اجتماعي في مضمون عمليات الإصلاح الاقتصادي، ورغم الاجتهادات الكثيرة للوقوف على كنه تلك العلاقة إلا أن القاعدة الأهم في تفسير تلك العلاقة ترتبط أكثر ما ترتبط بالظروف الموضوعية للدول والمجتمعات زمانياً ومكانياً وبناء عليها يتحدد مستوى العلاقة ومدى التداخل بينهما.

ولا يمكن الحديث عن عملية إصلاح اقتصادي ما لم تلامس القضايا المجتمعية على اختلافها من صحة وتعليم ورفاه وتنمية مجتمعية … الخ، لكن الفرق يبقى مرتبطاً بمستوى المعايير الاجتماعية في سياسات الدولة ذاتها، لأن التلازم بينهما حاصل لا محالة، كالتلازم بين المسألة السكانية ومعدلات النمو والتضخم، وكذلك خط الفقر والبطالة ومعدلات الإعالة والإنفاق وغيرها.

إن عملية التقييم الاجتماعي الشامل لعملية الإصلاح تُسهم في الوصول إلى مشروع إصلاحي مثمر وواقعي، كما تُجنبنا الفشل والكثير من المشكلات الاجتماعية، أما عدم الموائمة بين خطط الاصلاح الاقتصادي وبنية المجتمع قد ينتج عنه تداعيات اجتماعية خطيرة، لأن القرارات الاقتصادية بدون رؤية اجتماعية مصيره غالبا الفشل واتساع المسافة بين الخطط وما يتحقق على أرض الواقع، وهذا يثير تساؤلا على قدر من الضرورة لنا كفلسطينيين، وهو: هل إصلاح الاقتصاد الفلسطيني سيؤدي إلى اصلاح اجتماعي؟

 

أولاً: بين الإصلاح الاقتصادي والإصلاح الاجتماعي في فلسطين:

إن مشروع الإصلاح الاقتصادي الفلسطيني يحتاج أن يكون متعدد المداخل ولا يهتم بالمجال الاقتصادي فقط، خاصة وأن المشكلات الاجتماعية في غالبيتها وفقا لمدارس فكرية متعددة ترتبط أكثر ما ترتبط بالظروف الاقتصادية ومخرجاتها.

إجمالا يمكن حصر خمس مراحل مر بها الاقتصاد الفلسطيني في القرن العشرين أثرت على حياة المواطنين مباشرة. مرحلة ما بعد النكبة في عام 1948، يليها احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في عام 1967, ثم تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية في عام 1994، يليها انتفاضة الاقصى في عام 2000، والانقسام الفلسطيني في عام 2006.

أما العامل الأكثر تأثيراً في مراحل الاقتصاد الفلسطيني يتمثل في السياسات والأجندات الإسرائيلية المفروضة منذ عام 1967، والتي لم تكن لتسمح يوماً باقتصاد وطني فلسطيني نامي وله مقوماته الوطنية المستقلة خارج حبائل التبعية، أخطرها الربط غير العادل بين الاقتصادين، وخلق آليات التبعية والسيطرة، واستغلال الأيدي العاملة الرخيصة، وتحويل المناطق الفلسطينية إلى سوق للمنتج الإسرائيلي، وفرض السياسات الضريبية غير العادلة، والتحكم بنشاط التصدير الفلسطيني، وتدمير مقومات النهوض بالقطاع الصناعي، وإخراج المعابر من دائرة السيادة الفلسطينية, إضافة إلى حرمان الاقتصاد الفلسطيني من موارد بلاده الطبيعية كمدخلات أساسية في عملية الإنتاج والتصنيع.

لذلك فإن الحديث عن مشروع إصلاح للاقتصاد الفلسطيني يبقى في حقيقته مجرد من واقعية التطبيق ومحكوم بالعجز البنيوي، وهنا يحق التساؤل عن تناقض السياسات الرسمية الفلسطينية. ففي عام 2008، أعلنت وزيرة الاقتصاد الوطني آنذاك عبير عودة أن فلسطين بدأت بتطبيق برامج الإصلاح الاقتصادي وتبني سياسة السوق الحر، ليأتي على الفور تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) لعام 2008 بإقراره الهام بهذا الخصوص، “من غير الدقيق إرجاع هذا التردي في الاقتصاد الفلسطيني الى الأحوال السياسية والأمنية وحدها. فالحقيقة أن القضايا الأساسية التي تحدد الآفاق الاقتصادية الفلسطينية لم تتغير خلال العقود الأربعة السابقة بل إنها استمرت وتفاقمت. وأبرز سمة بهذا الخصوص هو ضيق هامش السياسة الاقتصادية المتاح للسلطة بموجب نصوص بروتوكول باريس لعام 1994 والمبني على اتفاق أوسلو المرحلي. فهذا الاتفاق قد ثبت التشوهات الهيكلية في الاقتصاد الفلسطيني التي بدأت تتراكم مع الاحتلال الإسرائيلي للضفة وقطاع غزة عام 1967”.

وأمام هذا التقدير الذي تبنته الأونكتاد، وهي المنظمة الدولية التي وجدت أساسا للعمل على ملائمة اقتصاديات الدول النامية لدمجها في الاقتصاد العالمي، لازلنا أبعد ما يكون عن تحديد خياراتنا الاقتصادية خاصة إذا تعلقت بالتفاعل مع الاقتصاد الدولي، وبعبارة أخرى إن طروحات الاصلاح والتخطيط الاقتصادي في ظل سياسات الاحتلال لا تعني سوى تغييرات شكلية لا تطال مضمون الوضع الاقتصادي الفلسطيني ومتطلباته الاجتماعية والسياسية.

مع عدم التقليل من أهمية النتائج الممكن تحقيقها إذا التزمت السلطة الفلسطينية باتخاذ إجراءات صارمة في محاربة الفساد، وتحقيق عدالة التوزيع، ومحاصرة الهدر في الإنفاق، واتباع سياسات متوازنة، وتشجيع النشاطات الاقتصادية الصغيرة والوسيطة، والعمل على خلق بيئة استثمارية جالبة، والتحكم في قوى السوق وضبطها في إطار بيئة عادلة وفعالة، وهذا يحتاج إصلاحات متعددة وتشاركية في إعداد البرنامج الاقتصادي المناسب ضمن كافة المعطيات القائمة. لكن يبقى البُعد الإسرائيلي هو الأهم في التأثير على الاقتصاد الوطني الفلسطيني، وإلى جانبه قضية التمويل الدولي وتأثيرها على سياساتنا الداخلية في إدارة عجلة الاقتصاد الوطني، وكلاهما مترابطان لأن منهجية الاقتصاد الفلسطيني في ظل المنح الدولية لاقتصاد عالمي معولم يخضع بالضرورة لأجندات المانحين، وهنا يأتي التساؤل الأهم، أين تقع التنمية البشرية والمجتمعية في أجندات التمويل الدولي؟

 

ثانياً: حاضر ومستقبل الاقتصاد الفلسطينيي:

المؤشرات الاقتصادية العامة لحياة المواطن الفلسطيني سوف تستمر في التراجع تحت سقف التزايد المستمر في العجز الكلي (الجاري والرأسمالي)، وانخفاض نسبة الناتج المحلي الإجمالي، وتراجع الإيرادات خاصة إيرادات قطاع غزة التي أصبحت خارج موازنة السلطة الفلسطينية، وهي أيضا خارج دورة الإنفاق العام على قطاعات الحياة المختلفة في قطاع غزة.

يضاف إلى ما سبق ارتفاع الدين المحلي والخارجي، ووفقاً للجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء في تقريره الصادر يوم 20/12/2020 حول آداء الاقتصاد الفلسطيني فقد بلغ رصيد الدين العام حوالي 3.5 مليار دولار أمريكي في نهاية الربع الثالث من عام 2020 بارتفاع حوالي 24% مقارنة مع الربع الأخير من عام 2019 الذي وصل إلى حوالي 2.8 مليار دولار أمريكي.

إضافة إلى انتكاسة قطاعات بعينها نتيجة ظروف موضوعية لكل منها كالزراعة مثلاً، التي تشهد في قطاع غزة خاصة تراجعات مستمرة من حصار، ومنع للتصدير، وأزمة مياه الري، وارتفاع تكاليف الزراعة، وانحسار السوق، ومشكلة التيار الكهربائي مصدر الري الأساسي.

وكان للعام 2020 تراجع ملحوظ في الناتج المحلي الإجمالي بلغت نسبة 12% مقارنه مع عام 2019، ارتباطاً بجائحة كورونا فكانت أزمة جديدة تضاف إلى ازمات الاقتصاد الفلسطيني.

لم يستطع النظام السياسي الفلسطيني معالجة أغلب المشكلات الاقتصادية التي واجهته، فمثلا بعد حروب ثلاثة شهدها قطاع غزة تزايدت العائلات الفلسطينية المنتمية لما دون خط الفقر، وأقصى ما استطاعت معالجته ضمها إلى برنامج المساعدات التابع لوزارة التنمية الاجتماعية وهو عملياً لا يؤمِّن الحد الأدنى من الدخل للأسرة المستفيدة.

إن التحدي الأكبر أمام السلطة الوطنية الفلسطينية حالياً هو دعم مؤسسات الخدمات والرعاية الاجتماعية المُساندة للفئات المهمشة والفقيرة، وتعزيز شبكة الضمان الاجتماعي، وزيادة هامش الإعانة للأسر الفقيرة كمياً ونوعياً، وضمان خلق فرص عمل ومشاريع وبرامج اقتصادية تزيد من فرص الدمج للعاطلين عن العمل والمعيلين لأسرهم في دورة الاقتصاد الوطني، وإعطاء اهتمام متزايد بإلحاق الإناث بسوق العمل التي بلغت نسبته حسب إحصائية مركز الإحصاء الفلسطيني لعام 2019 تقريباً 18% وهي نسبة منخفضة عن المتوسط العربي البالغ 25%.

وتلك الأهداف بمجملها لن تتحقق إلا من خلال نموذج إصلاح اقتصادي وطني يشترك فيه القطاعين الحكومي والخاص، في إطار رؤية تتجاوز فيها السلطة الوطنية الفلسطينية عقدة التحكم الإسرائيلي بمساره وأهدافه، ويبد أن إنهاء الانقسام السياسي وتبعاته على شقي الوطن يمثل أحد أهم خطوات بناء تلك الرؤية.

 

خاتمة:

إجمالاً، السلوك الاقتصادي الذي شهده عهد الكيانية الاول والمأسسة الفعلية لمشروع للدولة الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو عام 1994 جاءت أبرز ملامحه ممثلة في البرنامج الإنمائي للاقتصاد الوطني الفلسطيني للفترة الممتدة بين عامي 1994 ـ 2000،  وجاء هذا البرنامج كخطوة لمحاولة تقديم أفق للاقتصاد الوطني الفلسطيني والتنموي، وقد أشرف على وضع أسسه البروفيسور يوسف الصايغ، بالتعاون مع خبراء وأكاديميين واقتصاديين عرب ودوليين، وقد تم اقتراح موازنة مالية للبرنامج بلغت تقريبا 11.6 مليار دولار أمريكي.

واحتلت الأولويات الاجتماعية لذلك البرنامج حيزاً هاماً ومباشراً، وقد تمثل هدفها الرئيسي في إعادة بناء المجتمع الفلسطيني بعد اتفاق أوسلو، وحدد البرنامج عدة تحديات تقاطعت في نتائجها وانعكاساتها مع النظامين الاقتصادي والاجتماعي وهذا الأخير يعتبر المؤثر الاساسي على حياة الإنسان الفلسطيني.

وحُصرت أهم التحديات التي تحتاج إلى معالجة في الأخطار الناجمة عن الاحتلال، وخلق فرص عمل، وتطوير البنية التحتية، وتشجيع قطاع التصدير والإسكان. وسعت محاولات عديدة لتنفيذ رؤية البرنامج لكن الموازنة المرتفعة له وقفت عائق خاصة أمام إمكانيات السلطة الوطنية الفلسطينية.

إن بقاء الوضع الراهن للمجتمع الفلسطيني ما بين فكي الانقسام والاحتلال من جهة، وتراجع الآداء الرسمي في الضفة الغربية وقطاع غزة تجاه سد حاجات المواطنين لن ينتج عنه إلا مزيد من التراجع السوسيو/اقتصادي للمواطن الفلسطيني، وهذا التراجع يرتبط بالضرورة بتراجع على المستوى القيمي والثقافي ما يعني إنتاج مجتمع مأزوم فعلياً.

لا تلوح في الأفق فرص فعلية لمعالجة مشاكل السلطة الوطنية الفلسطينية والحد من تفاقم مشكلات المواطن الفلسطيني، وهذا يستدعي تحرك باتجاه آخر سيكون على رأس هذا الاتجاه إنهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي، والخلاص من تبعاته الاقتصادية على المواطن الفلسطيني.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *