مراجعة كتاب: “النخبة الإسرائيلية الجديدة: دراسة في أثر صعود التيار الديني على مراكز صنع القرار”

صدر في نهاية العام قبل الماضي (2020م) عن مركز الجزيرة للدراسات بقطر؛ كتاب هام حمل عنوان “النخبة الإسرائيلية الجديدة: دراسة في أثر صعود التيار الديني على مراكز صنع القرار“، للباحث صالح النعامي، وقد احتوى 126 صفحة من الحجم المتوسط.

ونحاول في هذه المراجعة التعريف بمضمون الكتاب وأهميته وسياقاته السياسية والفكرية، خاصة أن مؤلفه يعد باحثاً أكاديمياً خبيراً بالشأن الإسرائيلي من جهة، في ظل راهنية الحديث عن تطورات الوضع السياسي داخل دولة الكيان الإسرائيلي من جهة أخرى.

ومن الجدير بالقول أن الكتابات العربية التي تعنى بدراسات الشرق الأوسط عموماً تحظى بالأهمية المطلقة للأسباب التاريخية المعروفة، وهي في المجمل دراسات كثيرة جداً ومتنوعة في مجالاتها ومضامينها واتجاهاتها، وبالمقابل فإن نظيرتها التي ترصد التحولات السياسية داخل الكيان نفسه تعد أقل، وتكاد تميل إلى العدم، ومنه يستمد هذا الكتاب الذي بين أيدينا أهميته الظرفية القصوى، خاصة أن متابعة موضوع النخبة السياسية الإسرائيلية ذات التوجهات الدينية له الأثر البالغ في فهم آليات صنع القرار في دولة الكيان، وله تأثيرات مباشرة على أنماط التحول المجتمعي بالنظر للواقع الديمغرافي والوزن السياسي الذي باتت تعرفه الحالة السياسية في منحى محاولات النفوذ والهيمنة على مواطن صنع القرار.

إن موضوع الكتاب (كما جاء في مقدمته) هو متابعة اتجاهات تشكل النخبة الإسرائيلية في الفترة الممتدة ما بين سنوات 1977 و2018م، ورصد مختلف التحولات التي طرأت عليها وتحكمت في أدائها، وخاصة على مستوى التيار الديني القومي وأتباعه المنتمين من اليهود الشرقيين الذين تمكنوا من الوصول إلى السلطة، وذلك بعدما كانت تهيمن عليها فئة اليهود الغربيين العلمانيين، ومن ثمة تفكيك مختلف تمظهراتها وأدوارها، ولربما هي تجربة نخبوية متباينة مع العديد من دول العالم حيث ترتكز النخب فيها على ركائز سوسيوثقافية ومبادرات أيديولوجية متداخلة، ومن خلال آليات عمل تستهدف السيطرة على مواطن النفوذ والضغط.

وبرر الكاتب اختياره  للإطار الزمني للدراسة بكونه يتناسب والفترة التي عرفت وصول النخبة ذات الانتماء لتحالف تياري اليمين العلماني واليمين الديني لأول مرة، وذلك قصد الإلمام بمختلف التحولات التي طرأت على موازين القوة داخل مجتمع النخبة الإسرائيلية والى غاية سنة 2018م، وعدد الكاتب أسباب ذلك التحول في النقاط التالية:

أولاً: إن التحول في تمثيل أتباع التيار الديني القومي في النخبة الإسرائيلية كان نتاج مبادرة لدواع أيديولوجية، أقدمت عليها قياداته ومرجعياته الدينية، واعتمدت فيها على آليات عمل مختلفة لضمان اختراق مواطن النفوذ والتأثير بشكل يفوق الثقل الديمغرافي لهذا التيار، وبهدف التأثير على دائرة صنع القرار السياسي وعلى المجتمع، وفي المقابل فإن التحول في مكانة الشرقيين وزيادة تأثيرهم في النخبة السياسية لــم يكن نتــاج تحرك لدواع أيديولوجية، بل كان أحد تداعيات انتقال الحكم لليمين، حيث عمد هذا الأخير الصاعد للحكم حديثاً إلى تطعيم قوائمه الانتخابية وكتله البرلمانية وممثليه في الحكومات المتعاقبة بقيادات شــرقية، هذا إلى جانب أن نسبة تمثيل الشرقيين في النخبة السياسية لا يتجاوز تمثيلهم الديمغرافي.

ثانياً: بعد أكثر من سبعة عقود على وصولهم إلى فلسطين ونتاج الزواج المختلط فإن تتبع تمثيل الشــرقيين فــي مركبات النخب المختلفة، مقارنة مــع الغربيين من الصعب حالياً، على اعتبار أن الساسة من أصول شرقية يجاهرون بانتمائهم العرقي، في حين سيكون من الصعوبة بمكان تحديد تمثيل الشرقيين في مواطن النفوذ المختلفة، مع أن الدراســة تعرضت لبعض المعطيات التي عكست تمثيل الشرقيين في النخب المختلفة (حتى أواخر ستينيات القرن الماضي) عندما كان من الممكن تتبع تمثيل الشرقيين في هذه النخب.

ثالثاً: بســبب طابع أطروحاته الأيديولوجية ومواقفه السياســية ورؤاه الفقهية من الصراع مع العالم العربي؛ فإن التعرف على مظاهر وتداعيات تعاظم تمثيل التيار الديني القومي في النخبة السياسية الإسرائيلية يكتسب أهمية كبيرة لأنه يسمح ببناء تصورات خاصة إزاء مستقبل سياسات إسرائيل الإقليمية والخارجية، وتحديداً في كل ما يتعلق بعلاقتها مع العالم العربي.

رابعاً: على الرغم من التطابق في المواقف الأيديولوجية بين التيار الديني القومي والتيار الديني الحريدي، فإن التوجهات الانعزالية للتيار الأخير جعلته يركز فقط على التسلل إلى النخبة السياسية من خلال تمثيله في الحكومة والبرلمان لضمان مصالحه، بالإضافة إلى احتكار التيارين معاً بشــكل مطلق النخبة الدينية؛ وهذا ما جعل الباحث يعتمد مصطلح “التيار الديني” ليدل على التيار الديني القومي والديني الحريدي، وذلك عند الحديث عن تمثيل المتدينين في النخبة السياسية والدينية، في حين يستخدم مصطلح التيار الديني القومي عند تتبع مظاهر تمثيل المتدينين في النخب الأخرى.

مصادر الكتاب ومادته المعرفية المعتمدة كانت متنوعة وبلغات كثيرة كالإنجليزية والعبرية، ونذكر منها على الخصوص كتاب يجيل ليفي “القائد الإلهي: إعادة صياغة الجيش في إسرائيل” الصادر بتل أبيب سنة 2015م، والذي يعدّ من أهم الدراســات في مجالها، حيث اختبــرت آليات التحول التي طرأت على النخبة الأكثر تأثيراً في دولة الكيان والمتمثلة في النخبة العســكرية، وذلك من خلال تتبع تنامي تمثيل أتباع التيار الديني القومي في المواقع القيادية داخل صفوف الجيش، ومآلات قدرة هذا التيار على التأثير في دوائر صنع القرار في تل أبيب بما كان من شأنه خدمة التوجهات الأيديولوجية والسياسية لهذا التيار، ســواء على صعيد إحباط أية إمكانية لتحقيق تســوية سياسية للصراع من جهة وللحفاظ على الطابع اليهودي للدولة من جهة أخرى.

بالإضافة لدراسة “يتسحاك جايجر” المعنونة: “النخبة الحاخامية في التيار الديني الصهيوني بعد تنفيذ خطة فك الارتباط” الصادرة سنة 2010م، والتي فصلت في محاولة استجلاء تأثير التحولات السياسية والأمنية على موازين القوة داخل النخبة الإسرائيلية، وقدرتها على تعزيز تأثير النخب المنتمية للتيار الديني القومي، خاصة (كما ذكر الكاتب) أن هناك علاقة بين تنفيذ خطة “فك الارتباط” عام 2005م، والتي قام الكيان الإسرائيلي في إطارها بالانسحاب من قطاع غزة وإزالة المستوطنات اليهودية هناك، وبين تعاظم الدور السياســي للنخبة الدينية، وذلك من خلال تصديها لقيادة النضال ضد مشــاريع التســوية، ودون إهمال النتاج الفقهي من خلال إصدار الفتاوى العديدة التي تؤصل لتحريم “التفريط” بأي شبر من الأرض “اليهودية” المفترضة.

وعلى العموم فإن مضمون الكتاب جاء في خمسة فصول، ومقدمة وخاتمة، وذيله بقائمة للمصادر والمراجع الكثيرة المعتمدة، حيث قدم في الفصل الأول الدراسات السابقة والإطار المفاهيمي للموضوع، وهو مدخل منهجي مهم يوجه القارئ للأطر النظرية التي تؤطره.

أما الفصل الثاني الذي حمل عنوان النخبة الإسرائيلية القديمة فقد فصّل في الملامح العامة للنخبة الإسرائيلية القديمة منذ أيام تأسيس الفكر الصهيوني ومساعيه الأولى لإقامة الوطن القومي لليهود، وتضمن بالأخص الإشارة إلى الصراع الخفي بين أقطاب النخب العلمانية والمحافظة بشأن القضايا القومية، وكيف تمكنت النخب العلمانية الغربية احتكار الســلطة ومواطن التأثير المختلفة على المجتمع الإسرائيلي بعد الإعلان عن قيام دولة الكيان في الخامس عشر من مايو/أيار 1948م؛ حيث أن هذه الســيطرة لم تكن معرضة للتهديد، وذلك لغياب أية مجموعات عرقية وثقافية أخرى قادرة على تحدي هذا النفوذ ومنافسته في ذات الوقت.

وقد تابع الكاتب تطور الوضع خلال الفترة الممتدة بين عامي 1948 و1977م، حيث لم يكن للمتدينين والشرقيين القدرة على لعب أدوار مهمة في إدارة الحكم أو التأثير على الفضاء المجتمعي العام، من خلال الجهاز البيروقراطي والمؤسسات التعليمة والثقافية والإعلامية والقضائية التي كانت محتكرة من قبل العلمانيين الغربيين، وهي وضعية جديرة بالملاحظة في ظل المعطيات العامة للوضع في المنطقة، حيث بقي المتدينون متمركزين على هامش المجتمع السياسي وذلك حتــى صعود اليمين وســقوط حكم تحالف يســار الوســط عــام 1977م، وهذا علــى الرغم مــن أن الأحزاب والحركات التي مثلت التيــار الديني القومي قد تعاونت مع الحركة الصهيونية منذ بدايتها، وشاركت في جميع الائتلافات التي تداولت على الحكم.

وعن الفصل الثالث فقد عنونه النخبة الشرقية، حيث حاول من خلاله الكاتب تحليل مظاهر تمثيل الشرقيين في النخبة السياسية، والذين بدأ دخولهم وتوغلهم في مركز الحكم بشــكل فردي مــع صعود الليكود اليمينــي بزعامــة “مناحم بيغن” للحكم، حيث ســمح الحزب بارتفــاع نجم القيادات السياســية والحزبية الشرقية القادمة من مدن التطوير والضواحي والمناطق البعيدة عن  المركز، وذلك من خلال إدماجها في المؤسسات القيادية للحزب، لاسيما لجنته التنفيذية، إلى جانب تمثيلهم في كتل الحزب البرلمانية وضمن فريقه الوزاري، وفي الوقت ذاته شهد صعود وبروز الكثير من النخب السياسية الشرقية من خلال ترؤسهم الكثير من المجالس المحلية، أو من خلال أدوارهم في العمل النقابي.

في حين تضمن الفصل الرابع المعنون بصعود نخب التيار الديني القومي دراسة التحولات التي أسهمت منذ أربعة عقود في تعزيز قدرة التيار الديني القومــي على التســلل إلى مواطن تأثير ومراكز نفــوذ محددة، ليكون جزءاً أصيلاً من النخب التي تهيمن على هذه المواطن وتلك المراكز، وفكك الكاتب عوامل ذلك الصعود وتأثيراته التي حســنت من مكانة أتباع التيار الديني القومي في الفضاء العام، ومن ثمة مكنته من اختراق نخب بعينها، إلى جانب عرضه أهم المعطيات التي عكست تمثيل هذا التيار في النخب المختلفة.

ولعل من أبرز تلك المؤثرات (التي أشار إليها صاحب الكتاب) نذكر كل من الملمح الثقافي والانتصارات العسكرية والنظام التعليمي المتبع والمشروع الاستيطاني وتراجع العلمانية والتحولات الاقتصادية، وهي عوامل ومرتكزات جد مهمة بل أساسية في منحى متابعة وصول النخبة الجديدة إلى مركز صنع القرار خلال هذه المرحلة التي عرفت تحولات داخلية وخارجية عدة.

أما الفصل الخامس فجاء بعنوان: “تداعيات بروز النخبة الإسرائيلية الجديدة”، وتطرق فيه الكاتب إلى مجمل التحولات التي طرأت على تركيبة النخبة الإسرائيلية، والتي تمثلت حسبه في اندفاع التيار الديني إلى صدارة الفضاء العام، وهي إحدى صور التغيرات البنيوية فــي المجتمع الإسرائيلي التي أفضت إلى تعزيز النزعــة القومية المتطرفة؛ حيث أن هذا التيار يبدي التزاماً فقط إزاء منطلقاته الدينية والأيديولوجية المســتندة إلى التراث والشريعة اليهودية، والتي تسعى إلى إخضاع “الآخر” وخاصة الفلسطينيين، وتحطيم مشروعهم الوطني، وفرض رؤيته عليهم، وقد حقق هذا التيار الديني القومي حتى الآن إنجازات كبيرة على صعيد بناء مواقفه من الصراع مع الشعب الفلسطيني، وعلى دوائر صنع القرار في تل أبيب منذ عام 1967 والى الوقت الحاضر، عبر أساليب عدة جعلت من المستحيل توصل الطرف الفلسطيني لتسوية سياسية للصراع.

وترجع أهمية رصد وتحليل واستشراف تداعيات هذه التحولات (بحسب الكاتب) من كونها تؤثر بشكل كبير على طابع النظام السياسي الإسرائيلي، وعلى رؤيته في كيفيات التعامل مع قضايا الصراع العربي-الإسرائيلي عمومًا، والفلسطيني-الإسرائيلي على وجه الخصوص، وذلك باعتبار أن التيار الديني المتنفِّذ في مكامن صنع القرار يجاهر برفضه لقيم “الديمقراطية” و”التعددية” إذا تناقضت مع قيمه الدينية، وبسبب مواقفه الأيديولوجية ورؤاه الفقهية المتعددة. كما أن زيادة تمثيل التيار الديني القومي في النخبة الدينية والإعلامية والأكاديمية والقضائية والثقافية، فضلًا عن تمثيله المتزايد في النخبة السياسية والعسكرية، يزيد من قدرته على التأثير في توجهات الرأي العام الإسرائيلي، بشكل يعزز من فرص تجسيد منطلقاته الأيديولوجية من الصراع وتصوراته إزاء العلاقة بين الدين والدولة، وهو (بحسب المؤلف) ما يجب على صنَّاع القرار والنخب والرأي العام في العالم العربي أخذه بعين الاعتبار عند مقاربة العلاقة مع تل أبيب.

وتضمنت الخاتمة نتائج البحث، والتي أشارت خصوصاً إلى أن تطور النخبة الإسرائيلية الجديدة لــم يكن تطوراً ناجماً عن تحولات موضوعية نتجت عن تداول الســلطة، أو أملته السمات العامة للمجتمع الإسرائيلي والطابع الخاص لظروف ولادة الكيان الإسرائيلي ككيان سياسي، بل إنه يعد بالأساس نتاج تجسيد لمخططات وضعها ونفذها هذا التيار بهدف زيادة النفوذ والتأثير في الدولة والمجتمع، وبســبب طابع المواقف الأيديولوجية والــرؤى الفقهية التي تبناها التيار الديني القومي، فإن تعاظم تمثيله في تلك النخبة انطوى على تداعيات بالغة التعقيد على مستقبل الصراع مع العالم العربي وتحديداً مع الشعب الفلسطيني، وعلى المجتمع والنظام السياسي الإسرائيلي نفسه.

وكانت قائمة المراجع كما أسلفنا في البداية ثرية ومتنوعة المصادر ما بين كتب ومقالات وتقارير بلغات مختلفة، وكان أغلبها ذو علاقة مباشرة بالموضوع، مما زاد من قيمة الدراسة.

إن أهمية المعطيات الواردة في الكتاب من مادة معرفية ووسائل إيضاحية ومؤشرات إحصائية واستقصائية كثيرة، بالإضافة إلى التركيز على عمليات التحليل والتفكيك والتدقيق؛ لها دلالة على الجهد الكبير الذي بذله الكاتب في رصد وتجميع فصول كتابه، وعلى الدقة التي يوصف بها عمله برأينا، خاصة في ظل النقص الفادح في الكتابات العربية عن الموضوع (كما ذكرنا أعلاه)، وبالتالي فإن نقد قد يوجه لصاحب الكتاب في إطار الأفكار والتوجه؛ لن تركز على جوهر الموضوع بل ربما ستدور في فلك جوانبه المحيطة فقط.

إن الفكرة الأساسية التي نتوصل إليها من خلال مراجعة هذا الكتاب هي ضرورة الالتفات بعين فاحصة للدارسات العميقة التي تنفذ إلى مركز العلاقات البينية داخل المجتمع الإسرائيلي وفي أوساطه النخبوية؛ إذا ما رغبنا في إيجاد مسارات تسوية ممكنة، لأن تعاظم التمثيل السياسي للنخب السياسية والعسكرية ذات التوجهات الدينية  في دولة الكيان سيقلل فرص التوصل لتسوية سياسية للصراع، وقد يقلَّصها إلى حدٍّ كبير.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *