في راهن التنوع الثقافي العالمي ومستقبله !

 

 

تعرف الثقافة على أنها أهم المميزات التي يختص بها مجتمع ما بأفكاره و قيمه الوجدانية و ممارساته المادية وفنونه و آدابه وأنماط عيشه وتعبيراته وحكاياته وذاكرته، أي منظومة البنى الاجتماعية التي يتبناها عبر تاريخه الطويل.

ديناميكية الثقافة والهوية

تتقاطع الثقافة مع السياقات الزمانية والتحولات الجغرافية، ضمن تفاعل داخلي ذاتي أو من خلال تفاعل ذلك الحيز الحضاري في علاقته بالثقافات المتاخمة له، تفاعل يخلق أشكالا متنوعة من المعارف والأفكار تسهم في حراك ثقافة المجموعة الإنسانية المعنية.

فالهوية والثقافة والإنسان ثلاث محاور تتقاطع في رقعة جغرافية من خلال جملة من الرمزيات والهويات في سياق  تشكيل تاريخي وانثروبولوجي واجتماعي كثيرا ما يخضع لشد وجذب وفرز يعيد تشكيل الانتماء الثقافي جزئيا أو كليا.

علماء الاناسة يتناولون في هذا الصدد مسألة التقاطع بين الإنسان والمكان، وما ينتج عنها من تعددية رمزية، من بين ملامحها توليد التنوع والانفتاح الفكري والثقافي. فالخلفيات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية ضرب من ضروب إثراء الواقع الانساني، عبر خوض تجارب جديدة  تتمثل هذه الأبعاد، في سياق تفاعلي يتطلع إلى آفاق جديدة ويؤسس لتنوع بناء.

تنوع ثقافي يقتنص لحظاته المعبرة من مسار التراث الإنساني في صبغته المشتركة، وضمن طبيعته كعنصر ثراء وإبداع للمجتمعات الإنسانية. ولا ينبغي  حصر هذا المفهوم ضمن دائرة “الثقافة العالمة”، أي ما تتداوله النخب في منتدياتها من فنون و آداب و أفكار مقتصرة عليها. بل لابد من تمثل الثقافة الشعبية واستحضارها كعنصر ضروري لكسر هذه “القطيعة الثقافية” المصطنعة،  و تجاوز المفهوم الثقافي الكلاسيكي التقليدي، ومحاولة سبر أغوار المعارف العامية والمكانز الشفوية في تجلياتها الكثيرة وضمن مختلف لحظات ممارساتها الثقافية المتجددة منها أو المتواترة. أمر سيسهم الى حد كبير في تفهم خصوصيات هذه المجموعات من الداخل و التعرف على طبيعة تشكل هوياتها الثقافية من حيث تطورها وأشكال تأثيرها.

اليونسكو والتنوع الثقافي

اعتمدت منظمة اليونسكو في إعلانها الدولي للثقافة المنبثق عن قمة مكسيكو للسياسات الثقافية (سنة 1982) مفهوما واسعا للثقافة فهي : “…تمثل جملة العناصر المادية و الفكرية والوجدانية التي تسم مجموعة من الناس، و لا تشمل الفنون و الآداب فحسب، بل تتعدى دلك إلى أنماط الحياة و التقاليد و المعتقدات و الحقوق الأساسية للإنسان “.

حينئذ تبرز الثقافة من خلال هذا المفهوم متقاطعة مع المعطى الاجتماعي، وهو ما قد يفسر إلى حد كبير مسار تكونها، و قدرتها في الآن ذاته على التطور وبالتالي تفاعلها ضمن مبدأ التأثير و التأثر في علاقة بالثقافات الإنسانية الأخرى.

ليأتي بعد ذلك إعلان اليونسكو بشأن التنوع الثقافي(سنة 2001) الذي يعتبر إضافة متميزة فيما يتعلق بمفهوم الثقافة و السياسة الثقافية, باعتبار أن الثقافة كممارسة وكنسق عرفت تحولا مهما من مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة، ومن المركزية إلى اللامركزية.

مجمل هذه المبادرات والخطوات جعلت من مفاهيم وبراديقمات “التقدم” و”الثقافات البدائية” و”الانتروبولوجيا الاستعمارية”  التي سادت محاور الخطاب الثقافي الغربي في تراجع، تاركة المجال لصراعات نظرية جديدة انبنت أفكارها على صراع”الكتل الثقافية”.

تحديات ظهور الهويات الجديدة

تزامنت هذه التحولات مع ظهور هويات جديدة فاعلة، باتت وسيلة مستجدة للاحتجاج على العنف الاقتصادي والسياسي النيو ليبرالي المتوحش. تحولات تواجه عدة تحديات يشهدها العالم لعل أبرزها تصاعد حدة الرفض العنيف، من خلال بناء خطابات هووية تتمثل العنف كفعل وكرد فعل، في مواجهة الإقصاء والتمييز والعنصرية.

كل هذه التمظهرات السلبية الموسوعة بالصراع الثقافي، تسهم بشكل مباشر وغير مباشر في اضعاف الدعوات لبناء تنوع ثقافي حقيقي و تبني الحوار والتواصل كضمان للسلام الكوني في استشرافه لعالم متضامن و متعاون، و تنمية مبدأ التبادل بين الثقافات، في إطار مسار معولم قد يسهل التواصل بين مختلف فضاءاته الحضارية الكونية.

حيث يتأسس التنوع الثقافي، كما تراه اليونسكو ، على محور أول يهتم بالهوية و التعددية الثقافية باعتبارها تراثا مشتركا للإنسانية و عاملا من عوامل التنمية البشرية. ليتطرق في مرحلة ثانية إلى التنوع الثقافي وحقوق الإنسان  كضمان لتنوع فعلي، خاصة وان الحقوق الثقافية يمكن أن تمثل إطارا ملائما للتنوع الثقافي الشامل.

في مستوى ثالث، يتقاطع التنوع الثقافي مع الإبداع لان التراث الثقافي يمكن أن يكون مصدرا فريدا للإبداع، و كذا الفعل الثقافي المندرج ضمن رؤية أو إستراتيجية أو سياسة ثقافية محلية أو وطنية أو دولية.

في المستوى الرابع، يرتبط التنوع الثقافي بالتضامن الدولي بتشجيع الإبداع و إقامة شراكات بين بين مختلف القطاعات و الهياكل والمنظمات.

هكذا تتفاعل المفاهيم المختلفة للتعددية الثقافية بالفعل والقوة في محاولة الانعتاق من هيمنة الصراع الحضاري  الذي قلب العالم إلى فوضى، وأعاد توازنات العالم الكولينيالي السابقة بفعل شرعنة خطاب العنف بقوة القانون وهيمنة النزعة الإمبراطورية لدى أقطاب العالم، مؤشرات عدة تجعل الدعوات إلى تنوع ثقافي عالمي خلاق مجرد صيحات مكتومة في مواجهة مشاريع الهيمنة المعولمة التي تتخذ في كثير من الأحيان طابعا استعماريا جديدا وتفاعلات تجسدها حركات المقاومة الثقافية في أكثر من مكان بالعالم.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *