الاتفاق النووي الأمريكي-الإيراني (1974 – 1976) في تقارير هنري كيسنجر

مقدمة:

حرصت الحكومة الايرانية على تمتين علاقاتها مع الولايات المتحدة الامريكية خاصة بعد الاجتياح الانكلو – سوفيتي للبلاد عام 1941م , اذ استغل الشاه محمد رضا بهلوي التناقضات الدولية التي افرزتها الحرب العالمية الثانية وسيطرة بريطانيا والاتحاد السوفيتي على أجزاء واسعة من ايران و اجتمعت لديه العديد من المسوغات والاسباب التي دفعته لحث الخطى للانضواء تحت المظلة الامريكية, كما ان الشاه كان يطمح في ان يكون الرجل الاول لدى الادارة الامريكية في منطقة الخليج العربي , في المقابل كانت  الولايات المتحدة الامريكية تعد ايران مرتكزاً اقتصادياً مهماً وسوقاً رائجة لبضائعها ومصدراً لا ينضب للحصول على الوقود والطاقة ومرتكزاً اساسياً من مرتكزات استراتيجيتها في منطقة الشرق الأوسط.

 

تمثل الدراسات الوثائقية أهمية فاصلة في متابعة الحدث التاريخي وتوظيفه في المحاور الثلاث , السياسية والاجتماعية والاقتصادية . في وقت احتل التقرير الاقتصادي المرسل مكانة مهمة في توجيه مسارات السياسة الإيرانية وتزايد النفوذ الأمريكي الذي خطط له هنري كيسنجر , فالمتتبع للحالة الإيرانية يجد ان التوظيف السياسي الأمريكي تحرك بأتجاه محمد رضا بهلوي بعد تململه من السياسة البريطانية غير المجدية في دفع البلاد نحو التقدم وتنمية القدرات.

 

اعتمد البحث على تقارير ومراسلات وزير الخارجية الامريكية هنري كيسنجر خلال المدة 1973 – 1976م , وقد مثل كيسنجر جزء مهم في توجيه السياسة الخارجية الامريكية ومرتكز قوي اعتمدت عليه الإدارة الامريكية في بناء علاقاتها مع دول العالم , وكثيراً ما كان يجتمع ويلتقي مع العاهل الإيراني والمسؤولين الإيرانيين ويتبادل معهم اطراف الحديث حول تطوير العلاقات بين بلده وايران.

 

المبحث الثالث : مضامين الاتفاق النووي والتعاون التقني الامريكي – الايراني:

تجاوزت مظاهر التعاون الأمريكي – الإيراني كل الحدود وتخطت كل التوقعات فهي لم تقتصر على قطاع دون اخر بل شملت كذلك التعاون في القطاع النووي والتكنولوجي . وكان في مخيلة الحكومة الإيرانية الاستفادة من الخبرة الامريكية في هذا المجال , لتنمية وتطوير مشاريع الطاقة النظيفة . فبتاريخ الخامس من تشرين الاول عام 1974م في احد مؤتمراته الصحفية قال الشاه انه يرغب بالاستفادة من الخبرة الامريكية في مجال الطاقة وتدريب القوى الايرانية العاملة في مجال التكنولوجيا واضاف “اننا كنا نرغب بعقد اتفاق لمدة خمس سنوات في مجال الطاقة … نحن نتطلع للاعتماد على انفسنا بعيداً عن المساعدة الخارجية في هذا الجانب“. فلقد كان الشاه يخطط لعمل برنامج في مجال الطاقة النووية للاغراض السلمية يكون بديلاً عن النفط كمصدر للطاقة ولكي تكون ايران في مصاف دول امتلكت او بدأت بتنفيذ برامج الطاقة النووية في منطقة الشرق الأوسط كمصر او إسرائيل . ففي برقية من آثرتون (Atherton) مساعد وزير الخارجية الامريكي لشؤون اسيا والشرق الادنى الى وزير الخارجية كيسنجر يوم التاسع عشر من تشرين الاول عام 1974م , قال ان الادارة الامريكية ملتزمة بشأن مشروع الاتفاق النووي مع مصر واسرائيل و ان اللجنة المشتركة للتعاون في مجال الطاقة النووية تعمل على اعداد مشروع اتفاق مع ايران يتضمن نفس الشروط والاحكام التي تضمنها الاتفاق مع مصر واسرائيل , واقترح ان تتم المصادقة اولاً على مشروع الاتفاق مع مصر واسرائيل ومن ثم اكمال مشروع اتفاق ايران , حتى تكون الحكومة الايرانية امام امر واقع فيما يتعلق بالشروط الواردة في الاتفاق.

 

لقد امتلكت الولايات المتحدة خلال مرحلة سبعينات القرن العشرين ثلاث محطات نووية , وكانت الرغبة تحدو الادارة الامريكية بفتح محطة رابعة تلبية للاحتياجات المحلية والعالمية بالتعاون مع الحكومة الايرانية, غير ان نقص التمويل كان في مقدمة الاسباب التي افشلت المشروع . ففي برقية من ديفيد اليوت (Deved .Alyot) رئيس هيئة اركان مجلس الامن القومي الى وزير الخارجية كيسنجر بتاريخ الثاني من اذار عام 1975م , تضمنت التطورات الاخيرة التي شهدتها مشاريع انتاج الطاقة النووية في ايران , وقال ديفيد في رسالته ان مشروع المحطة الرابعة يحتاج الى ثلاثة مليار دولار وان اي تأخير في هذا المجال سيؤدي الى هروب المستثمرين والعملاء الاجانب الذين قدموا عروضاً للمشاركة في بناء المشروع , وقال انه خلال شهر كانون الاول عام 1974م , قدم مستثمرين عن اليابان عرضاً بالمشاركة بالمشروع بنسبة 25 – 30 % ومستثمرين عن فرنسا والمانيا بنسبة 12%  واضاف ان اللجنة المشتركة لشؤون الطاقة تنظر في عرض مقدم من الحكومة الايرانية نسبته تصل الى اكثر من 30% , اي بنسبة ستة مليارات دولار على مدى خمس سنوات([3]) وقال ان دخول ايران بهكذا نسبة سيجعلها مصدراً رئيسياً لانتاج الوقود النووي وستنافس الاتحاد السوفيتي في هذا المجال ,لان نسبة الـ 30% تفوق احتياجات ايران المتوقعة في المستقبل اضافة الى القلق من عدم موافقة الكونغرس الامريكي من عقد اتفاق نووي مع ايران ان علم بالنسبة المطروحة.

 

وتلافياً للوقوع في إشكالات وتعقيدات قد تُعرقل تنفيذ المشروع , شكلت الادارة الامريكية لجنة مختصة لدراسة الاتفاق من كل جوانبه وابعاده , وكانت اللجنة قد توصلت الى قناعة ان المشروع النووي المشترك مع ايران قد تكون له تداعيات واثار سلبية خطيرة على الامن القومي الامريكي , ففي برقية لوزير الدفاع الامريكي شيليزنجر (Shelezenger) الى الوزير كيسنجر بتاريخ الخامس والعشرين من نيسان عام 1975م , تخوف من نتائج التوقيع على مثل هكذا برامج وصفها بالخطيرة , وقال في معرض حديثه انه على الرغم من حرص بلاده على تحسين العلاقات مع ايران ولكن نظراً لاحتمالات عدم الاستقرار في منطقة الشرق الاوسط فأن الاتفاق المقترح للتعاون النووي قد تكون له تداعيات خطيرة على الامن القومي الامريكي في المستقبل و اقترح تأخير توقيع الاتفاق او على اقل تقدير تحديد نسبة تخصيب اليورانيوم , لان التوقيع على هذا العقد في مثل هكذا ظروف يتنافى مع السياسة الخارجية الامريكية التي تهدف للحد من انتشار الاسلحة النووية ومفاعلات الطاقة في العالم واضاف “ان توقيع الاتفاق مع ايران سيؤدي الى تخزين مادة البلوتونيوم في اكثر مناطق العالم حساسية ..”  وانه لا بد من تشديد الرقابة على الاستخدامات المتعددة لهذه المادة وضمان عدم استخدامها لصناعة القنابل المتفجرة وان لا تخرج شروط اي اتفاق نووي مشترك مع ايران او غيرها عن مبادئ ومقررات معاهدة الحد من انتشار الاسلحة النووية , وقال ان على الادارة الامريكية ان تضع ضمن شروط الاتفاق صلاحية زيارة الخبراء الامريكيين للمفاعلات النووية الايرانية عند نهاية تاريخ الاتفاق وذلك منتصف عام 1980م , وامكانية تجديد ومعالجة المفاعلات النووية الايرانية سيما وان ايران كانت عضواً في معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية فقد شهد يوم الخامس من اذار عام 1975م , التوقيع على بنود الاتفاق النووي الإيراني – الأمريكي بشكل مبدئي وقد وقعه كل من كيسنجر وهوشنك انصاري وقد اقر الاتفاق على حرية تبادل المعلومات حول استخدام الطاقة النووية للاغراض السلمية وتوفير المواد الأولية وتجهيز مفاعلات الطاقة الايرانية، ويعد هذا التاريخ نقطة تحول في تاريخ العلاقات الاقتصادية بين البلدين .

 

لم تكن تلك المشاكل والمخاوف الامريكية وحدها تعترض سبيل التعاون النووي والتقني بين ايران والولايات المتحدة الامريكية , بل اوجز روبنسون (Robenson) وكيل وزارة الخارجية للشؤون الاقتصادية جملة من المعوقات برسالته الى كيسنجر المؤرخة يوم الثالث من تموز عام 1975م , وهي كالاتي :

 

  • النقص الحاصل في التوريد المالي وانخفاض ميزانية المشروع , سيما وان الحكومة الايرانية اعلنت مطلع عام 1975م , عن سياسة تخفيض الانفاق على المشاريع الاجنبية ومشاريع الطاقة بشكل عام وان التأخر في صرف مستحقات المشاريع الملحقة بالاتفاق اثر على معظم مشاريع الاتفاق مثل استقدام الخبراء والاستعانة بالخبرات الاجنبية , حيث ان ما يقارب الـ 4000 خبير امريكي تم التعاقد معه في هذا المجال , خاصة وان ايران بدأت بالاعتماد على سياسة توظيف فنيين من القطاع الخاص بدلاً من الشركات التي تقودها الحكومة الامريكية , وان تقليص عدد تلك المشروعات ناجم وهذا ناجم عن انشغال الحكومة الايرانية في الصرف على مشاريع وهمية , وربما تقترح ايران تنفيذ مثل هكذا مشاريع عبر برنامج تنمية طويل الامد.

 

  • اصرار الوكالات والشركات المتعاقدة على دفع وسداد كافة مستحقات وتكاليف برامج تدريب وتقديم المساعدة الفنية لايران . ويقول روبنسون انه عمل ما بوسعه لرأب الصدع وحدة الخلاف بين الشركات والحكومة الايرانية , واضاف نحن بصدد توفير الاعتمادات المالية الكافية لدفع مستحقات تلك الوكالات وقد حصلت في الوقت نفسه موافقة اسرائيل لدفع جزء من تلك المستحقات مقابل مشاركتها في الاشراف على ادارة مشاريع التعاون التقني مع ايران , لان الوزير انصاري كان قد اعلن سابقاً ان بلاده غير مستعدة لدفع تلك الاموال على المدى القريب .

 

  • مشكلة توفير مكان لإسكان الخبراء مع عائلاتهم , ففي ظل النقص في الاموال وارتفاع اسعار العقارات الى 250% سنوياً عن اسعارها السابقة , ومطالبة اصحاب البنايات بدفع ايجار البنايات لمدة سنة مقدماً , علاوة على مشكلة تأثيث تلك البنايات , وقد اعتادت الحكومة الايرانية دفع بدل ايجار للفنيين , لتغطية نفقات السكن غير ان تلك المبالغ لم تعد كافية لتسديد مبالغ الايجار , وعليه اقترحنا على الحكومة الايرانية توفير سكن مقابل الغاء دفع تلك الاجور كما تم مفاتحة السفارة الامريكية في ايران بتأجير بناية كبير تستوعب موظفي السفارة والخبراء .

 

  • مشاكل تتعلق بالنظام الاداري والنقل الداخلي وتوفير المترجمين والملابس الخاصة للعمال والمهندسين , علاوة على تكفل عوائل الخبراء سيما مسألة تعليم ابنائهم.

 

وهكذا لم تفلح الحكومة الإيرانية في اقناع الإدارة الامريكية في تطوير مشاريع الطاقة النظيفة والتعاون التقني والتكنولوجي في ظل الكثير من المعوقات والمشاكل التي كانت تعترض سبيل مثل هكذا مشروعات قيمة بالنسبة للاستراتيجية الإيرانية على الرغم من ان ايران كانت تمارس بعض الأنشطة في مجال الطاقة النووية غير انها لم تصل الى مستوى الطموح .

 

المبحث الثالث من بحث منشور بعنوان:

“الاتفاقات الاقتصادية الأمريكية الإيرانية في ضوء وثائق وزارة الخارجية الأميركية”

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *