قراءة في مشهد النزاع السوداني الداخلي

مقدمة:

لأكثر من عشر سنوات يتوالى سقوط استقرار الكيانات العربية تباعاً من اليمن إلى ليبيا وسوريا والعراق وتونس وإن اختلفت مستوياتها. أطراف متعددة في كل دولة تحاول سحب المشهد لصالحها باعتبارها جهة الصواب والاستقرار.

على امتداد تاريخ السودان الحديث عانى من مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة غيّبت فرصته في تحقيق دور فاعل في دوائر الفعل والتأثير السياسي الإقليمي والعربي، ولكنه بلا منازع يحتل مكانة متقدمة في فرص تحقيق التنمية المحلية وإنجاز مشروع التكامل العربي إذا اريد له رؤية النور، وتحديداً في قدرة مواردها على تحقيق الأمن الغذائي العربي وليس السوداني فقط.

أولاً- لعنة الإمكانيات:

الحديث هنا عن مساحات من الأراضي الزراعية تبلغ 170 مليون فدان صالحة للزراعة، وثروة حيوانية، ونصف مراعي الوطن العربي، ومخزون ضخم من المياه يصل إلى 400 مليار متر مكعب، والكافية للتوسع في مشاريع الزراعة والاكتفاء الذاتي الغذائي، إضافة إلى الثروات المعدنية المكتشفة هناك والواعدة.

أحداث السودان الدامية اليوم بين الجيش وقوات التدخل السريع لن تخرج في تفسيرها الأساسي عن تحييد السودان وإخراجه من معادلة الاستقرار والتنمية المحلية والعربية، وجاء أخطر وأقسى مشاهد ارهاق السودان مع فصل جنوب السودان والذي استحوذ على ثلثي مساحة رقعة السودان، البلد الأكبر عربياً والبالغة قبل التقسيم مليوني كيلومتر مربع، وكذلك استحوذ الجنوب على النصيب الأكبر من منابع النفط السوداني.

وتوالت الأحداث تباعاً من أزمات دارفور، إلى كردفان، فسد النهضة الإثيوبي، واضطرابات شرق السودان، ثم الانقلاب العسكري على الرئيس السابق عمر البشير، وهي بمجملها مخرجات لنظام سياسي ساهم بسياساته ولأسباب موضوعية أخرى في تردي حالة الدولة السودانية ووصولها مؤخراً للنزاع العسكري الماثل أمامنا.

ثانياً- مسار النزاع:

الدارج في الحروب أن من يمتلك الجو يسيطر على الأرض، لذلك فإن الجيش السوداني يحقق تفوقاً مستمراً على قوات الدعم السريع، ورغم أن قوات الدعم السريع تضم عشرات آلاف العناصر في صفوفها، لكنهم ممتدين على مساحات واسعة من أراضي السودان، وهذا يعني تحييد جزءاً من تلك القوات خارج نطاق المواجهة.

لكن يبدو أن هناك خطوتان أساسيتان تسعى إليهما قوات الدعم السريع. الأولى، تحقيق مكاسب على الأرض خاصة بالاستيلاء على مساحات مؤثرة من الأراضي والانطلاق منها باتجاه عمق العاصمة الخرطوم. والثانية، حرصها على السيطرة على رموز سيادية للدولة وهذا ما تحقق بالسيطرة على القصر الرئاسي ومطار العاصمة الرئيس، مما يعني أن تلك القوات تسعى لضرب رمزية الدولة، وبالتالي تتابع السقوط لباقي المؤسسات.

العمليات على الأرض تشير إلى حظوظ أقوى عند الجيش لحسم النزاع، ولكن المهمة ليست بالسهلة فعملية الاستنزاف للجيش السوداني مستمرة وإذا ما توفرت أسلحة نوعية لقوات الدعم السريع من المحتمل أن تتزايد فرصه في إطالة أمد المواجهة وكذلك تحقق مكاسب على الأرض، ويبقى هذا مرهوناً بسرعة الجيش السوداني في تحقيق التقدم والسيطرة على الوضع القائم.

ثالثاً- إرهاصات النزاع:

لعل الخطر الفادح الأول على السودان انقسام شطري السودان، والسماح بما آلت إليه السودان اليوم من فتح شهية الانفصال ومجابهة الدولة في أكثر من منطقة. والخطر الثاني، هو صناعة نظام البشير تشكيلاً عسكرياً خارج نطاق المؤسسة العسكرية الرسمية.

اليوم يتناحر رجلان على سيادة البلاد في الوضع الطبيعي، يُفترض أنهما جزء من منظومة الدولة بل حماة لها، فما الذي كان يمنع البرهان من نقل سلس للسلطة أو على الأقل رؤية مسارها ولو بخطوات محدودة؟ بدلاً من أن يعتقل رئيس الوزراء عبدالله حمدوك ويجهض مجلسه المدني والمجتمعي، بالإضافة إلى إخفاقه في إدارة العلاقة مع قوات الدعم السريع. فإذا استصعب دمجها في الدولة كان من الأولى العمل على احتوائها لتكون شريكاً فاعلاً في البلاد.

رابعاً- حقل الأزمات السوداني:

النزاع السوداني المسلح اليوم ليس وليد اللحظة الزمنية لأن بنية النظام السياسي السوداني شهدت أزمات متعاقبة وممتدة ويمكن الوقوف على عدد من تلك الأزمات التي ساهمت كثيراً في سقوط الاستقرار السياسي هناك.

1- توالى على السودان عدة انقلابات متتالية منذ الانقلاب الأول للفريق إبراهيم عبود عام 1958 والإطاحة به لاحقاً بعد ست سنوات بسبب الضغوط الجماهيرية عليه، وتلاه انقلاب جعفر النميري والذي تغلب على محاولة انقلاب فاشلة حتى الإطاحة به بانتفاضة شعبية، وترأسها الفريق عبد الرحمن سوار الذهب وبعد عام سلم الحكم لحكومة مدنية برئاسة الصادق المهدي الذي انقلب عليه عمر البشير وتولى رئاسة البلاد حتى أطاح به الجيش عام 2019 تحت ضغوطات الشارع السوداني، وهذه الانقلابات بحد ذاتها أرهقت الدولة وبددت مقدراتها وأضعفت تماسك النظام السياسي السوداني وبقيت البلاد رهينة حالة عسكرية دكتاتورية مع تغير القيادات.

2- ضعف مركزية الدولة، فالسودان دولة ممتدة ومتراجعة تنموياً والنهضة فيها بالكاد تغادر حدود العاصمة الخرطوم أو حتى أجزاء محددة منها، وبالتالي فإن التواصل والاتصال مع باقي نواحي السودان محدود جداً، ويغيب دور الدولة مع الابتعاد عن المركز، وهذا أدى إلى تراخي السيطرة المباشرة للدولة، وظهرت أزمات الولاء والاندماج للدولة المركزية.

3- الانتماء الأيديولوجي للرئيس السابق عمر البشير لحركة الإخوان المسلمين وضع البلاد في أزمتين أساسيتين، تمثلت الأولى في التناقض مع محيطها الإقليمي خاصة بعد ثورات الربيع العربي. وتمثلت الثانية في وقوع السودان في إخفاقات ما يعرف بنموذج (الحزب الأكبر) في إدارة الدولة الذي أدى إلى التجييش الحزبي في مواقع الدولة، والسيطرة على الجهازين العسكري والبيروقراطي والسياسات الاقتصادية الفئوية، وتنامي ظهور التشكيلة الاقتصادية / السياسية داخل الحزب.

4- الشعب السوداني يعاني من متلازمتين تسببتا بمشكلات متجذرة في بنية الدولة؛ النزعات القبلية، وغياب عدالة التوزيع. فالقبلية متجذرة وتشكل فسيفساء الشعب السوداني وتؤثر على تشكيلة النظام السياسي السوداني وبؤر الصراع فيه على امتداد القبائل ذات الحظوة والسيطرة إلى القبائل المهمشة، ومع انتشار السلاح بيد القبائل خلقت حالة مرنة من فرص ظهور التشكيلات العسكرية القبلية ضد الدولة.

وعلى صعيد عدالة التوزيع وهي المشكلة الأبرز في صراعات السودان، يرى كثيرون أن جوهر الصراعات السودانية غياب سياسات عدالة التوزيع خاصة في الأطراف، وتزداد كلما ابتعدنا عن مركز الدولة، وما انقسام البلاد وانفصال الجنوب إلا أحد تمثيلات تلك السياسات، كما حدث في شرق السودان من صدام مسلح مع الدولة بين عامي ١٩٩٤ -٢٠٠٦ مع تشكيل حزبي قبلي عُرف باسم مؤتمر البجا، لإزالة التهميش عن الإقليم.

5- على صعيد الازمة الراهنة فقد صنع النظام السابق لعمر البشير بتشكيله قوات عسكرية خارج هيكلية الدولة أزمة موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت، وما الصدام المسلح بين قوات البرهان وحمدتي إلا نتيجة حتمية لتلك السياسة.

خامساً- سيناريوهات النزاع السوداني:

السودان ما بعد الأحداث الحالية، ستشهد بيئة سياسية جديدة ستتغير فيها الشراكات السياسية ومفاعيل التوجهات وصنع القرار السياسي، ولكن ليس هنا الخطر الماثل وإنما في الهشاشة السياسية للدولة، ومن الواضح أن مكونات النظام السياسي السوداني تلاشت فرصها في السيطرة على الأحداث خاصة أن هناك فواعل إقليمية ودولية باتت أدوارها معروفة في تصعيد الصراع، وهي بطبيعة الحال التي ستبحث عن مكاسب ملموسة لحليفها في أي تسوية لاحقة إذا لم يحقق أي من الطرفين هزيمة بالآخر.

1- سيناريو الدولة الفاشلة: قد تؤدي الأحداث إلى بقاء قوام الدولة لكن كدولة متشظية وتفقد سلطاتها الثلاث إنفاذ قراراتها على الدولة والشعب، وتسود حالة من تعدد القوى السياسية المناطقية الحاكمة، والتي تربطها علاقات ندية مع سلطة الدولة.

2- السيناريو الأفغاني: من العسير وصول طرفي النزاع للتوافق أو التنازل، وبما يغذي النزاع من طموحات الطرفان فقد يعيش السودان حالة الدولة الأفغانية المنقسمة بين طالبان والتحالف الشمالي ولكل منهما مناطق نفوذه وتحالفاته، ويبقى انتهاء هذا السيناريو منوطاً بمعركة فاصلة بين الطرفين أو تسوية تُفرض عليهما.

3- سيناريو التقسيم: وهو الأخطر خاصة مع وجود نزعة انفصالية واضحة في دارفور وصلت لدرجة الحديث عن خصوصية حضارية وتاريخية للمنطقة، وكذلك وجود إرهاصات لقوى سياسية عديدة تجده حلاً أفضل على غرار الجنوب للحصول على ما تعتبره إنقاص من حقوقها خاصة الاقتصادية لصالح طبقة سياسية وجزء بعينه من الدولة.

4- سيناريو دولة تحت الوصاية: وهذا السيناريو الأوفر فرصاً بحيث يكون هناك مخرج سياسي تشرف عليه أطراف دولية وإقليمية لا سيما تلك الداعمة لطرفي النزاع الحالي، وتبقى ساعة تحقيقه مرهونة إما بتقدم أحدهما عسكرياً على الآخر أو فرض توافق محدد في الغالب لا يكون للطرفين دور أساسي في طرحه.

الخلاصة:

لا يتجه السودان اليوم للمجهول بقدر خروجه منه، مجهول حكم العسكرتاريا والرجل الواحد وغياب التنمية والديمقراطية وترسيخ دولة الحزب المشفوعة بخطاب ديني حزبي تم تجييره لصالح النخبة الحاكمة هناك، ولا يفي من سؤال الحكم الرشيد سوى النذر اليسير، ورغم ما يعرف عن الشعب السوداني من تمسكه بإرثه الحضاري لكنه تواق للخلاص والنجاة بالوطن ومقدراته لصالحه وصالح أجياله القادمة.

والسؤال المطروح: هل خروج السودان من هذا المجهول يعني خلاصه؟ قطعاً لا، لدى السودان خارطة طريق واضحة الآن باتجاه مزيد من التراجع والفوضى.

لن يخرج السودان من هذه الدائرة إلا منهكاً، ومسلوب القرار الوطني المستقل وسيادته الحرة، وراضخاً للوصاية والتبعية. وإذا ما أضفنا النزعات القبلية وإحيائها فنحن أمام سيناريو لمجالس صحوة على غرار تلك التي أنشأتها القبائل في العراق لمواجهة داعش، والفرق هو أن المواجهة هنا ستكون ضد الدولة وضد المكونات الاجتماعية حيث يكون لكل منها سلطة نفوذها وقواها على مناطقها، وتبقى الحقيقة أنها جزء من اللعبة الأكبر لاستهداف السودان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *