الدور التركي الجديد في أفغانستان.. المحددات والآفاق

مقدمة:

في أعقاب الانسحاب الأمريكي-الغربي من أفغانستان بعد عقدين من الاحتلال وعودة حركة طالبان للحكم مجددًا بدت الرغبة التركية واضحةً في لعب دورٍ بارزٍ في الساحة الأفغانية، ولتحقيق هذه الغاية حاولت الحكومة التركية الإبقاء على قواتها العسكرية هناك من بوابة الرغبة في تأمين مطار العاصمة الافغانية كابول، إلا أن حركة طالبان المسيطرة على مقاليد الأمور في البلاد رفضت هذه الفكرة لكنها طرحت خيارًا بديلاً يتضمن السماح لتركيا بتشغيل المطار وإدارته لوجستيًا.

وبرفض حركة طالبان بقاء القوات التركية في أفغانستان ساد انطباعٌ في الأوساط السياسية والبحثية بأن تركيا ستخرج بشكل كامل ونهائي من أفغانستان، إلا أن مجريات الأحداث على الأرض لا تدعم مثل هذا الاستنتاج فثمة مصالح متبادلة بين الطرفين لا يمكن إغفالها وتجاهلها، فحركة طالبان الرافضة للوجود العسكري التركي في بلادها عبَّرت في العديد من التصريحات عن رغبتها في التعاون مع تركيا وبناء علاقات طبيعية معها.

من أجل الاحتفاظ بحكم البلاد تحتاج حركة طالبان إلى مساعدات دولية من أجل تسيير شؤون الحياة اليومية للمواطنين وتحقيق قدر معقول من الاستقرار لتحريك عجلة الاقتصاد وعودة الحياة إلى طبيعتها وهذا يفتح المجال أمام تركيا للعب دور الوسيط بين أفغانستان الجديدة والعالم، خاصةً الغرب.

ومع كل ذلك فإن طبيعة الدور المستقبلي الذي يمكن لتركيا أن تضطلع به في أفغانستان مازال يكتنفه كثير من الغموض والضبابية، لذا يسعى هذا المقال لجلاء شيء من هذا الغموض ضمن محورين رئيسين هما محددات هذا الدور وآفاقه الممكنة.

لماذا تسعى تركيا للعب دور جديد في أفغانستان؟!
قبل الشروع في مناقشة محددات الدور التركي المرتقب في أفغانستان وآفاقه يحسن بنا الإشارة إلى العديد من الدوافع التي تجعل تركيا حريصة على لعب مثل هذا الدور ومنها:

  1. تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي عبر امتلاك أوراق تفاوضية جديدة للتأثير في هذا المجال وزيادة حضورها الإقليمي والدولي، مما يسهم في ترميم علاقاتها المتوترة مع الغرب وتعزيز استقلالية سياستها الخارجية.

  2. توظيف العلاقات مع مختلف الاطراف الافغانية وخاصة حركة طالبان. فالفرص المتاحة أمام تركيا غير متوفرة لأي من الأطراف المتنافسة في أفغانستان، فهي دولة ذات أغلبية مسلمة سنية مما جعلها ترتبط بعلاقات جيدة مع الحكم السابق والعديد من الجماعات المسلحة الأخرى فضلًا عن حركة طالبان.

  3. دواعي جيوسياسية: لتعزيز أمنها القومي وزيادة تأثيرها المباشر في المحيط الإقليمي تسعى تركيا لتوظيف قوتها العسكرية في سياستها الخارجية، لامتلاك المزيد من أوراق التأثير لتعزيز موقفها بين الفاعلين الآخرين إقليميًا ودوليًا. ووجود أفغانستان ضمن نطاق جيوسياسي هام وحيوي بين الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وشبه القارة الهندية جعل تركيا تدرك الأهمية الكبيرة لهذا البلد، وأن وجود تركيا فيها يتيح لها فرصة لمد نفوذها السياسي وزيادة حظوظها الاقتصادية بين دول الجوار.

محددات الدور التركي في أفغانستان:

إن وجود العديد من المصالح المشتركة بين كل من الحكومة التركية وحركة طالبان أو أفغانستان كدولة لا ينفي وجود قيود ومحددات لهذا الدور من بينها:

1. التضاد بين مصالح القوى الدولية الكبرى:

هناك تضاد كبير في المصالح بين الولايات المتحدة والغرب من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى، وتحقيق التوازن بين هذه القوى المتصارعة أمر في غاية الصعوبة ولا شك في أن أنقرة تدرك حجم هذا التنافس وبقدر سعيها للتفاهم مع كل من روسيا والصين في الساحة الافغانية فإنها لا تتخلى عن مستوى معين من العلاقات مع الغرب بزعامة الولايات المتحدة التي لن تكون سعيدة بتجاوز العلاقات التركية مع كل من روسيا والصين قدرها الاعتيادي لأن ذلك يتضاد بشكل مباشر مع مصالحها الحيوية.

2. وجود علاقة بين الحكومة التركية وبعض المجموعات الأفغانية المناوئة لحركة طالبان:

توجد جماعات أفغانية مناوئة لحركة طالبان هي الأوزبك والطاجيك، بالإضافة إلى التركمان الذين ينتمون عرقيًا للأتراك، حيث تطالب تركيا بتمثيل هذه الاطراف بأي حكومة قادمة وهذه مسألةٌ لم تتضح بعد وسيكون لها انعكاسات على علاقات تركيا بحركة طالبان والحكومة الافغانية القادمة.

3. التنافس التركي الروسي في آسيا الوسطى:

إذ أن اضطلاع تركيا بمهمة عسكرية في أفغانستان سيكون له تأثير مباشر وتعزيز كبير لنفوذها السياسي ليس فقط في الساحة الافغانية ولكن في ما تعتبره تركيا العالم التركي في آسيا الوسطى والذي يشكل الجوار القريب لروسيا، الأمر الذي قد يدفعها للضغط على تركيا في الملفين السوري والليبي ودعم الحركات الكردية المناوئة لتركيا.

4. المنظمات والحركات المتطرفة:

هناك منظمات وخركات متطرفة قد تستهدف الوجود التركي والمصالح التركية في أفغانستان كتنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة وتفرعاتها كما أنها قد تتلقى دعمًا مباشرًا أو غير مباشر من خصوم تركيا ومعارضي وجودها هناك.

آفاق الدور التركي في أفغانستان وحدوده:

بالرغم من المحددات سالفة الذكر فإن ذلك لا يمنع من وجود آفاق لدور تركي قادم في أفغانستان سينجلي مع تطورات الأحداث هناك وتفاعلاتها الإقليمية والدولية نظرًا لوجود جملة من العوامل منها العامل الاقتصادي، الذي يعد محركًا هامًا في العلاقات الدولية، لذلك فإن الاقتصاد يشكل أرضيةً مشتركة للطرفين التركي والأفغاني، فالاحتلال الأمريكي غادر بلدًا دون بنية تحتية وبحالةٍ اقتصاديةٍ متدهورة، ولا شك في أن حركة طالبان تدرك أنها لن تقدّم تجربة حكم ناجحة ومستقرة دون تحقيق قدر مرضٍ من التنمية للشعب الافغاني وأن تركيا تشكل قوة إقليمية فاعلة ومؤثرة في محيطها الإقليمي، وتتمتع بعلاقات معقولة مع المجتمع الدولي ولديها تجربة غنية في مجال النمو الاقتصادي، وهذه الأمور تخلق حالة من المصالح الاقتصادية المشتركة فمعاناة الاقتصاد التركي في السنوات الأخيرة تجعل تركيا بحاجة للاستفادة من فرص الاستثمار وإعادة الاعمار في أفغانستان، فكلا الطرفين محتاجٌ للآخر مما يعزز بناء علاقات اقتصادية متينة بينهما.

من ناحية أخرى فإن أفغانستان الجديدة بقيادة حركة طالبان تحتاج للاعتراف والقبول لدى المجتمع الدولي لضمان إعادة الاعمار وتحقيق الأمن والاستقرار للشعب الافغاني وتبديد المخاوف من وقوع البلاد في دائرة العزلة والمقاطعة الدولية مجددًا، ويمكن لتركيا أن تلعبَ دورًا كبيرًا في هذا المجال، خاصة وأن حركة طالبان أظهرت سلوكًا جديدًا يتسم حتى اللحظة بقدر من التعقل والبراغماتية السياسية مما يعكس خبرات سياسية جديدة تراكمت لدى الحركة بناءً على تجربتها السابقة في الحكم قبل الاحتلال الأمريكي.

الخلاصة:
بالرغم من وجود عقبات وتحديات وربما مخاطر تعترض الدور التركي المستقبلي المرتقب في أفغانستان، إلا أن هناك فرصة كبيرة لوجود مثل هذا الدور تقوم على المصالح المشتركة بين الجانبين وحاجة كل منهما للآخر في ظل التنافس الدولي والإقليمي المحموم، إلا أن حدود هذا الدور وطبيعته مرتبطان بطبيعة وشكل العلاقة بين الحكومة التركية والحكومة الأفغانية القادمة التي ستشكل أساسها حركة طالبان، التي سوف تعمل مع الجانب التركي عبر التفاوض على بلورة خيوط هذا الدور ومجالاته وشكله، أما تفاصيل هذا الدور فمرتبطة بسيرورة الأحداث وتطوراتها على الأرض ومن الصعوبة بمكان توقعها أو التنبؤ بها خاصةً مع عدم تشكيل الحكومة الافغانية الجديدة حتى اللحظة، إذ أن مكونات هذه الحكومة تعدُّ عاملًا مهمًا في طبيعة بناء التحالفات وشبكة العلاقات الخاصة بها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *