معضلة الجمع بين الديمقراطية والاستقرار.. كيف نصوغ معادلة ناجحة تجمع بين العنصرين في أفريقيا والشرق الأوسط؟

مقدمة:

عاني الشرق الأوسط جنباً إلى جنب أفريقيا من معضلة الجمع بين عنصري الديمقراطية والاستقرار في معادلة واحدة[1]، فتارة يقود السعي إلى الاستقرار من قبل الحكومات إلى تأزُّم وضع الديمقراطية، وتارة يقود الانقسام والصراع السياسي باسم الحرية والديمقراطية إلى تأزُّم الوضع الأمني، وكثيراً ما ذهبت المجتمعات الشرق أوسطية والأفريقية على حد سواء إلى الغلو سواء في هذا الاتجاه أو ذاك، على المستوى الشعبي كان أو على المستوى النخبوي، لكي تبقى الأزمة بل وتذهب إلى التضخم ومن ثم تنتقل الدول من حال سيء إلى حال أسوأ بشيء من التخبط في اتخاذ الاتجاه المناسب، مما يقود بدوره إلى الفشل العام وعدم القدرة على الانتقال إلى نجاح تظهر ثماره بوضوح في تقدم المجتمع وازدهاره وذهابه بخطى ثابتة نحو الأفضل.[2]

 

في هذا المقال سوف أحاول وضع معادلة مثمرة تجمع بين الديمقراطية والاستقرار في آن واحد، تتناسب مع مجتمعات الشرق الأوسط وأفريقيا في العموم، لاسيما في وقت يعاني فيه الشرق الأوسط مع أفريقيا من تهديدات أمنية غير مسبوقة وارتفاع في معدلات الاحتقان السياسي والقمع[3] مما يهدد الأمن والاستقرار.

 

أولاً: وضع معادلة متوازنة للجمع بين الديمقراطية والاستقرار:

صيغة تكوين الأحزاب السياسية والاشتباك السياسي بينها على أرض ديمقراطية هي صيغة غربية بحتة[4]، استقدمها الاستعمار الأوروبي إلى قارة أفريقيا عند تمكنه من احتلال دولها بعد تنظيم مؤتمر برلين الذي انعقد خلال عامي 1884 و1885، والذي نتج عنه ما يسمى بالتكالب الاستعماري،[5] كما استقدمها إلى دول الشرق الأوسط بعد تمكنه من احتلالها في فترات متفاوتة،[6] لكي ينتقل فكراً سياسياً غربياً وغريباً إلى مجتمعات ليست مهيأة له[7]، وهنا حدثت الأزمة المستمرة منذ ذلك الوقت إلى الآن، والمتمثلة في عدم التناسب الذي نتج عنه عدم القدرة على التفاعل بين الفكر الغربي من جانب والمجتمع الشرق أوسطي والأفريقي على حد سواء من جانب آخر، ومن ثم الاتجاه إلى العُقم السياسي وتضخم الأزمات والتوترات الاقتصادية والأمنية.

 

لكن، مع التحولات الجذرية التي طالت المؤسسات الشرق أوسطية والأفريقية بسبب تأثرها بالأفكار المنقولة عن التنظيم الاستعماري، ليس بالإمكان، في الوقت الحالي، التنصُّل من السمات المأخوذة عن ذاك التنظيم، فمن المستحيل هدم مؤسسات الدول المعاصرة للعودة إلى الخلف والبداية من جديد. لذا بات من الضروري إيجاد معادلة مناسبة تجمع بين الديمقراطية والاستقرار وفي نفس الوقت تحقق التوازن بينهما، خاصة أن الديمقراطية هي إنتاج بشري قديم لم يخلقه الغرب المعاصر وقد ظهر قديماً بوضوح في اليونان القديمة.[8] إيجاد مثل هذه المعادلة الجامعة بين الديمقراطية والاستقرار، من جهة سوف يعمل على تخفيف الاحتقان السياسي الناتج عن القبضة الأمنية، ويصنع شرعية أمنية تجعل من الأمن مطلباً شعبياً دائماً غير مُهدَّد بالكراهية الشعبية أو بالشعور الشعبي بالظلم، ومن جهة أخرى يوفر البيئة اللازمة لما يمكن أن أسميه بـ “الإنتاجية السياسية” التي تتضمن التشابك السياسي الصحي والإيجابي، فضلاً عن التقدم الاقتصادي والاستقرار الأمني.

 

ثانياً: الابتعاد عن تلفيق وافتعال الديمقراطية للفوز برضا الغرب:

كثيراً ما اتجهت حكومات أفريقيا والشرق الأوسط إلى تلفيق وافتعال شكلاً أو سلوكاً ديمقراطياً لإرضاء الغرب بما فيه من دول عظمى ومانحين دوليين حتى تضمن استمرارية الأوضاع كما هي عليه بما تحتويه من معونات خارجية وثبات في المشهد السياسي[9]، فتكون النتيجة هي الفشل، لأن اصطناع الحدث وهو في جوهره غير موجود يعقِّد من علاقة المؤسسات السياسية بالمجتمع، ويجعل العلاقة بين الشعوب وحكامها بعيدة عن الانسجام والتطور المنشود، حيث تسيطر عليها حالة من الاغتراب الفكري والشعوري وتقود إلى عدم الثقة وهو من أخطر ما يهدد الاستقرار.

 

لذا فمن الضروري أن تتشكل الحياة الديمقراطية وضوابطها عن اقتناع بضرورتها من قبل مؤسسات الدولة وأجهزتها، لا عن شعور بالإجبار الغربي وإلا كانت النتيجة هي إنتاج مشهد تمثيلي بعيد عن الواقع، لا يُرضي الغرب بشكل كامل، ويتدنى بمستوى الثقة الشعبية في سلطات الدولة إلى أدنى مستوياتها، وهنا تشكل الديمقراطية المفتعلة خطراً كبيراً، ليس أقل خطراً من التوترات الأمنية، على الحياة السياسية ومُخرجاتها الاقتصادية والأمنية.

 

ثالثاً: أبرز التحديات في معادلة الديمقراطية والاستقرار:

التهديدات الأمنية تقف على رأس تحديات معادلة الديمقراطية والاستقرار، حيث أن الخوف من انفلات الوضع الأمني يدفع عدد من الحكومات في أفريقيا والشرق الأوسط إلى القمع والرفع من مستوى القبضة الأمنية وبالتالي انهيار الديمقراطية[10]، لكن ذلك القمع والمستوى المرتفع من القبضة الأمنية يُزيد بدوره من الاحتقان السياسي والشعور بالظلم نظراً لانسداد القنوات السياسية المؤدية للتعبير عن الرأي والتأثير في صناعة القرار بشكل حاسم ومثمر يشعر به أفراد الشعب فيتسرب إليهم الاطمئنان والهدوء والثقة في غد أفضل. وهنا تتحول القبضة الأمنية إلى مُهدِّد حقيقي للأمن ينضم إلى التهديدات الأمنية في صورها التقليدية.[11] إذن في تلك الحالة المأزومة والمعقدة، كيف يتم الجمع بين الأمن والعمل السياسي الذي يؤدي بدوره إلى الاستقرار والديمقراطية؟

 

هنا أنتقل إلى الحديث عن متطلبات المعادلة التي تجمع بين الديمقراطية والاستقرار وتضمن مناخاً آمناً للعمل السياسي والضبط الأمني والقانوني للدولة، حسبما أتصور، وهذا ما سوف أوضحه في الجزء التاالي.

 

رابعاً: متطلبات معادلة الديمقراطية والاستقرار في أفريقيا والشرق الأوسط:

 

لكي تكون معادلة الديمقراطية والاستقرار مُهيأة للتنفيذ على نحو متوازن، لابد من تفعيل العناصر التالية:

 

1- تجريم التدين السياسي:

لما كان التدين السياسي (استخدام الدين في العمل السياسي) فاشل في توحيد الشعوب وتحقيق المواطنة واحترام الأديان في كل نسخه عبر التاريخ القديم والحديث، حيث أنه يؤدي إلى احتقار الدين والتجارة به طمعا في حصد المصالح الشخصية والخاصة، فضلاً عن أنه يقسم المواطنين على أساس أيديولوجي ويدفع الشعوب إلى تقديس بعض العاملين بالسياسة بينما يدفع إلى معاداة من يخالفهم فيوصَفون بالكفر والخروج عن الدين، ومن ثم يمارس ضدهم العنف.[12] فليس هناك سبيل إلى مناخ مهيأ لديمقراطية حقيقية يقوم على المواطنة الحقيقية إلا بتجريم التدين السياسي، أيا كان الدين وأيا كان الهدف من ذلك الخلط، فذلك الخلط في حد ذاته جريمة تزدري الأديان والإنسان معاً.

 

2- تصالح الأنظمة الحاكمة مع المعارضة المدنية السلمية:

ذلك التصالح يعد البوابة الرئيسية المؤدية إلى عهد سياسي جديد، يجمع بين الأمن والمعارضة السلمية المسؤولة والفاعلة، دون أن يتحقق عنصر منهما على حساب تراجع الآخر. وهذا يقتضي بطبيعة الحال الإفراج عن المعتقلين السياسيين طالما لم يمارسوا العنف أو دعوا إليه.

وفي رأيي يمكن أن يبدأ ذلك التصالح باجتماعات مصارحة تجمع بين ممثلين السلطة الحاكمة وممثلين المعارضة السلمية، حتى يفرغوا مشاعر الغضب المتبادلة ويقفوا على مباديء العمل السياسي في المستقبل.

 

3- نشر التوعية بأخطار التحركات الاحتجاجية المتهورة والكشف عن أسلوب المعارضة الإيجابية الفاعلة والبناءة:

في كثير من الأحيان تدفع المشاعر الغاضبة إلى التهور في استخدام المعارضة، وهذا يقتضي توعية خاصة لأبرز المعارضين إلى جوار توعية عامة تقدم لجميع أفراد الشعب عبر شاشات الإعلام تدفع إلى فهم التعامل مع القنوات السياسية الشرعية والمشروعة، ومن جهة أخرى لابد من تحقيق بديل سلمي للمعارضة يفرغ شحنة الاختلاف والغضب إذا وُجد ويُشعر الشعوب أن المعارضة السياسة فاعلة ولها تأثير في المجتمع.

 

4- نشر التوعية بأهمية قبول الآخر وإيضاح الفرق بين قبول الآخر وقبول معتقده وقناعاته:

يعتقد البعض أن قبول الآخر يعني التفريط في المعتقد الشخصي والقناعات الخاصة، كما يعتقد بعض آخر أن إفناء الآخر هو السبيل لاستقرار حقيقي. وكلا الاتجاهين خاطيء يُنتج تطرف في التعامل مع الأفكار والبشر، ومن ثم يتبخر السلام ويحل بدلاً منه الانشقاق والحروب. لذلك فقبول الآخر يحتاج إلى حديث متخصص للتوعية بأبعاده وتأثيره الهام على المجتمع واختلافه الجذري عن التفريط. وهو يقتضي تحقيق العناصر التالية:

 

– وقف التطرف السياسي عن السلوك والخطاب السياسي والإعلامي.

– العفو عن السجناء السياسيين وتوعيتهم بالأسلوب الأمثل للمعارضة السياسية والمشاركة في العمل السياسي.

– تهيأة الساحة السياسية للاختلاف السياسي الحقيقي والتداول السلمي للسلطة.

 

5- دراسة إمكانية تأمين المستقبل القانوني والسياسي للحاكم:

واحدة من أبرز المعضلات في دول أفريقيا والشرق الأوسط، المستقبل الغامض للحاكم الذي أفرط في الاصطدام بالمعارضة الأمر الذي يؤدي إلى تشبثه بالسلطة[13]، مما يقتضي اللجوء للمتخصصين في القانون والعمل السياسي، لدراسة إمكانية إنتاج صيغة جادة لتأمين مستقبل الحكام حتى يكون الانتقال السلمي جاداً وسلساً وخالياً من الصدام والتحايلات والخوف من الانتقال السلمي للسلطة ومن ثم الانتقال إلى سيناريوهات مظلمة ودموية لكل من الأوطان والمواطنين.

 

 

References:

[1] Florence Indede, Inger Lassen, Charles Okumu, “Unpacking the concepts of stability, democracy and rights”, Globe: A Journal of Language, Culture and Communication (Aalborg: Aalborg University, Vol.6, 2018) P.13.

[2] shanta devarajan, An Exposition of the New Strategy, ‘Promoting Peace and Stability in the Middle East and North Africa’ (Washington, DC, world bank, 2016) P.1.

[3] Anthony H. Cordesman, “Risks and Instability in the Middle East and North Africa in 2016”, Center for Strategic and International Studies, 14 January 2016, 27 April 2021, Available at: https://csis-website-prod.s3.amazonaws.com/s3fs-public/legacy_files/files/publication/160114_cordesman_risks_and_instability.pdf

[4] Jeanet Bentzen, Jacob Gerner Hariri, James A. Robinson, THE INDIGENOUS ROOTS OF REPRESENTATIVE DEMOCRACY (Cambridge: NATIONAL BUREAU OF ECONOMIC RESEARCH, 2015) P.2.

[5] John M. MacKenzie, The Partition of Africa 1880–1900 (New York, NY, Taylor & Francis Group, 2005) P. 10.

[6] Juan R. I. Cole and Deniz Kandiyoti, ” Nationalism and the colonial legacy in the middle east and central asia: Introduction”, International Journal of Middle East Studies (Cambridge: Cambridge University Press, Vol.34, No.2, 2002).

[7] Robert H. Bates, “Democracy in Africa: A Very Short History”, harvard library office for scholarly communication (Cambridge: Harvard University, Social Research 77, No. 4, 2010) P.1135,1136.

[8] Kurt A. Raaflaub, Josiah Ober, and Robert W. Wallace, Origins of Democracy in Ancient Greece (California: University of California Press, 2007) P.3.

[9] GILBERT M. KHADIAGALA, “Fraudulent Elections Lead to Pseudo-Democracy”, in Moeletsi Mbeki (editor), Advocates for Change : How to Overcome Africa’s Challenges (Hampshire: Picador Africa, 2011) P.4.

[10] Yannis Stivachtis, “Political (In)Security in the Middle East”, E-International Relations, 15 April 2019, 27 April 2021, Available at: https://www.e-ir.info/pdf/78436

[11] Iffat Idris, Analysis of the Arab Spring (Birmingham: Governance and Social Development Resource Centre, 2016) P.2.

[12] Enri Hide, “Religion as a Legitimazing Instrument of Political Violence”, Mediterranean Journal of Social Sciences (Rome: Mediterranean Center of Social and Eductional Research, Vol. 5, No. 13, 2014) P.184.

[13] Erica Frantz, “How and Why do Dictatorships Survive? Lessons for the Middle East”, Bridgewater Review (Massachusetts: Bridgewater State University, Vol.31, Issue.2, 2012) P.17.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *