السودان بين التحول الديمقراطي ومخاوف الحرب الأهلية

تشهد دولة السودان حالة خطيرة من عدم الاستقرار بسبب تزايد الاستقطاب السياسي بعد قرارات 25 أكتوبر الماضي للفريق البرهان التي اعتبرها شركاء الحكم المدنيون انقلاباً على مسيرة المرحلة الانتقالية التي تهدف إلى التحول المدني والديمقراطي في السودان، بينما يراها العسكريون وحاضنتهم السياسية من المنشقين عن قوى الحرية والتغيير إصلاحاً للمسار الثوري الذي تعرقل بسبب سيطرة أحزاب صغيرة على المشهد السياسي، في هذه المقالة سوف أحاول إلقاء الضوء على خلفيات الصراع السياسي في السودان وأثره على مستقبل الانتقال الديمقراطي، ومخاطر الانزلاق للحكم العسكري والمخاوف من تجدد الحرب الأهلية.

واجه السوادن منذ استقلاله في عام 1956 العديد من فترات الحكم العسكري، تخللتها سنوات قليلة من الحكم المدني الديمقراطي، وكانت الثورة السودانية التي أسقطت نظام البشير، الذي حكم بالحديد والنار وبيوت الأشباح، ضرورية لإنهاء معاناة الشعب واحلال الحرية والسلام والعدالة التي فُقدت بعد انقلاب عام 1989 بدعم جماعة الاخوان المسلمين، ولكن هذه الثورة لم تنجُ من محاولات إجهاضها منذ بدايتها على أيدي أبناء النظام القديم وفي مقدمتهم العسكريون الذين أمضوا سنوات عمرهم في خدمة البشير ونظامه الفاشي المتسربل بالشعارات الدينية، الذي أدخل السودان في نفق مظلم منذ قوانيين الشريعة الإسلامية التي فرضها الديكتاتور الأسبق جعفر النميري في سبتمبر 1983.

يعتبر الصراع بين المدنيين والعسكريين أحد المظاهر الأساسية للحياة السياسية في السودان فيما بعد الاستقلال، وكانت آخر حلقات هذا الصراع انقلاب 30 يونيو المشئوم الذي استمر ثلاثين عاماً، وُضع خلالها السودان في ذيل قائمة الدول على كافة مؤشرات التنمية، ونتيجة غلبة حكم العسكريين في أغلب الفترات واستمرار الحرب ضد الجنوب لم يتم الالتفات جدياً إلى ضرورات بناء وتدعيم مكونات الاقتصاد بشكل يُسهم في تحقيق التنمية للشعب الذي ظل يعاني من ضيق العيش والفقر والبطالة نتيجة الاختلالات الهيكلية للاقتصاد السوداني، بالإضافة إلى حالات الفساد والمحسوبية والنهب المنظم والكثيف لموارد البلاد من قبل “القطط السمان” من منتسبي الحركة الإسلامية والمؤتمر الشعبي وعلى رأسهم عمر حسن البشير الذي احتفظ بأموال الدولة في القصر الرئاسي فاتضح للناس خداع وزيف شعارات طهارة أيدي حكام الشريعة.

ومثلت ثورة ديسمبر السودانية حلقة جديدة من حلقات الصراع السياسي بين الحكم العسكري والحكم المدني الذي يشهده السودان حالياً، فبرغم التوصل لتوافق بين شريكي الحكم من العسكريين والمدنيين بعد الإطاحة بنظام البشير، استمر الصراع والخلاف بينهما خلال الفترة الانتقالية، فقد كان انقلاب قادة الجيش على البشير ووضعه تحت الإقامة الجبرية في 6 أبريل من عام 2019 محاولة لمواجهة الغضب الجماهيري واحتوائه في نفس الوقت، تمهيداً لقمعه فيما بعد بفض الاعتصام بوحشية في يوم 3 يونيو 2019، وجاءت قرارات البرهان الأخيرة في 25 أكتوبر الماضي لتضع نهاية لتعيد المخاوف من استيلاء العسكريين مجدداً على السلطة السياسية منفردين برغم المعارضة الشعبية واسعة النطاق المتمثلة في المظاهرات والعصيان المدني التي تعتبر ما حدث انقلاباً على مسيرة التحول الديمقراطي في السودان، وبرغم عدم القبول الدولي بهذه القفزة التي تدخل السودان في نفق مظلم ومرحلة جديدة من عدم الاستقرار، وتهدد بالتراجع عن أهداف الثورة السودانية في تحقيق الحرية والعدالة والسلام.

لقد شهد السودان خلال عامي الفترة الانتقالية العديد من الأزمات بسبب الخلافات بين شريكي الحكم طبقاً للوثيقة الدستورية التي تعرضت للكثير من التعديلات مما أفقدها إلى حد كبير الطبيعة الدستورية الحقيقية، فضلاً عن عدم مشاركة قوي سياسية هامة في السلطة السياسية التي تشكلت بموجبها الحكومة السودانية برئاسة عبد الله حمدوك، بالإضافة إلى عدم انخراط قوى عسكرية معارضة في عملية السلام في جوبا التي أشرف عليها المكوِّن العسكري بخلاف ما تنص عليه الوثيقة الدستورية، واستمرار تردي الأوضاع المعيشية للغالبية العظمي من الشعب السوداني وخاصة في المناطق المُهمشة، ولكن يلاحظ أن هناك تصميماً شعبياً على استمرار السعي من أجل بناء سودان جديد يليق بتضحيات الشهداء الذين قتلوا بالرصاص الحي وقنابل الغاز خلال ثورتهم لتحقيق الحرية والسلام والعدالة والحياة الكريمة، ولكن سرعان ما تصطدم هذه الآمال بالواقع المرير والمؤامرات التي تحاك ضد مسيرة الثورة، ليس بسبب التدخلات الخارجية فقط ولكن أيضاً بسبب الكثير من الصعوبات الداخلية الناتجة عن هشاشة بنية الدولة، وتفشي الفساد وسيطرة رموز النظام السابق على المفاصل الرئيسية للدولة، فضلاً عن غياب الاستقرار الأمني وبؤس الحالة الاقتصادية في البلاد، بما أثر على تنامي الشعور بخيبة الأمل بين قطاعات من السودانيين لعدم إحساسهم بحدوث تغييرات جوهرية في نمط حياتهم سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي.

وطبقا للوثيقة الدستورية كان من المفترض أن يتسلم المدنيون رئاسة المجلس السيادي بحلول شهر نوفمبر الجاري، ولكن قرارات البرهان عطلت الفترة الانتقالية بتشكيل مجلس سيادة جديد برئاسة البرهان ليدخل السودان في مرحلة جديدة وخطيرة، في ظل تنامي المعارضة لهذه القرارات المنفردة من جانب المكوِّن العسكري بدعوى تصحيح المسار.

وفي ظل تزايد حالة الاستقطاب السياسي وتبادل الاتهامات بالمسئولية عن تردي الأحوال الأمنية والاقتصادية، وفشل المساعي الإقليمية والدولية في عودة التوافق بين المكونيين المدني والعسكري والالتزام بالوثيقة الدستورية، وإصرار البرهان على السيطرة الكاملة على السلطة، فإن هذه الحالة تنذر بتطورات خطيرة وصراع مكشوف عبر المسيرات والمواكب والعصيان المدني، وهي ردود الأفعال التي لم تتوقف منذ إعلان قرارات البرهان برغم سقوط العديد من الضحايا بين قتلى ومصابين وتنيم حملة اعتقالات واسعة للمعارضين وقطع خدمات الإنترنت والاتصالات في السودان، بما قد يدفع البلاد لموجة جديدة من الصراع السياسي حيث ترفض المعارضة المدنية في الوقت الحالي التعاون مع المكوِّن العسكري وتطالب بإنهاء سيطرته على السلطة السياسية، وعدم الموافقة على انخراط العسكريين في أية ترتيببات مستقبلية للحكم في السودان، وهذا الصراع يمكن أن يتحول إلى صراع عسكري حيث مازالت بعض القوى المسلحة رافضة عملية السلام التي اقتصرت على قوى المعارضة المسلحة المؤيدة حالياً للمكوِّن العسكري.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *