مقدمة:
لا زالت الصين تسعى حثيثاً لفرض دورها السياسي والاستراتيجي في أنحاء العالم على اختلافها ضمن موازين متعددة ومتشابكة. إن طبيعة تحرك الدور الصيني عالمياً محكوم بالعديد من المُحددات على رأسها الثقافة والتراث الضاربان في القدم منذ فلسفة كونفوشيوس إلى تعاليم الفلسفة الطاوية وعقيدة سور الصين العظيم في التحصين والتوجس الدائم من الآخرين.
وتنشط السياسة الخارجية الصينية في منطقة الشرق الأوسط في الوقت الراهن ارتباطاً بعدة عوامل سياسية واقتصادية واستراتيجية، المهم في دراسة سلوك السياسة الخارجية الصينية أنها تنسجم مع تحركاتها لبسط نفوذها المتعاظم والذي ذهبت بكين في صياغته اعتماداً على الدور الاقتصادي أولاً من خلال مشروع طريق الحرير الجديد الذي تترسم بنياته في أربع جهات الأرض ولكل منها ظروف ومحددات، فقد وصلت الاستثمارات الصينية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما بين عامي 2005 و2020 إلى ما قيمته 196.93 مليار دولار.
ويتحكم في علاقات الصين بدول الشرق الأوسط محددان واضحان، اولاً: عدم التدخل في الشئون الداخلية وتجنب حتى دور الوسيط فيها، وإن كان هذا مبدأ عام في السياسة الخارجية الصينية لكنه في الشرق الأوسط له خصوصيته، فمثلاً غيبت الصين دورها في الصراع العربي الإسرائيلي واكتفت بالحد الأدنى من التصريحات السياسية. وثانياً: اعتماد الصين في نمو علاقاتها مع دول الشرق الأوسط على الأولويات الصينية أساساً.
وقد نشر معهد جيتستون الأمريكي تقرير للمحللة السياسية جوديث بيرجمان، جاء فيه أنه بعد جولة وزير الخارجية الصيني وانج يي الأخيرة في الشرق الأوسط التي استمرت نحو أسبوع، لا يوجد مجال للشك في أن الصين تسعى بنشاط إلى توسيع نفوذها في المنطقة، ليس فقط في المجال الاقتصادي ولكن أيضاً في المجالات العسكرية والدبلوماسية والسياسية، متحدية بشدة الدور طويل الأمد للولايات المتحدة كقوة مهيمنة في المنطقة.
أولاً: الربيع العربي وإثبات الحضور الصيني:
انطلاق شرارة الربيع العربي في عام 2011 استدعى القوى الدولية لاستحضار أجنداتها في المنطقة، لأن الشرق الأوسط يمثل قلب العالم وخزان وقوده وملتقى ثلاث قارات، فجاء التحرك الصيني رغم حذره حريصاً على علاقات التحالف القائمة بينه وبين الدول التي شهدت ثورات الربيع العربي وإن كان بدرجات متفاوتة، فما شهدناه من حراك سياسي للصين تجاه الملف السوري لم يسبقه حراك مشابه في الدول الأخرى خاصة دولة ليبيا التي ربطتها علاقات تحالف في عهد الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، ولعل استدراك الموقف لما حدث مع الحليف الليبي كي لا يتكرر مع الحليف السوري هو ما استحث صانع السياسية الصيني لأن يُبرز دور صيني أكثر فاعلية في تحركاته ودعمه لحليفه السوري، وقد أشارت المحللة السياسية روزماري فوت إلى أن بكين أوقفت التدخل الذي أقرته الأمم المتحدة في سوريا باستخدامها حق النقض (الفيتو) بشكل متكرر، سبع مرات بين عامي 2011 و 2019، وهي خطوة غير معتادة على الإطلاق نظراً لأن الصين لم تستخدم حق النقض (الفيتو) إلا في ست مناسبات فقط بين عام 1971، عندما أصبحت عضواً في مجلس الأمن الدولي، وعام 2009.
التعامل الصيني مع ارتدادات الربيع العربي يتـأسس في أحد أوجهه على استراتيجية عدم ترك الفراغ لأن قوى أخرى سوف تسد الفراغ سواء الولايات المتحدة الامريكية أو روسيا أو دول أوروبية. ومع ذلك بحثت الصين على توافقات مع حليفها الروسي في المنطقة سعياً لتشكيل جبهة مواجهة مع المشروع والتحركات الأمريكية أساساً والأوربية بدرجة أقل، لكن ما تعيه السياسة الخارجية الصينية أن عمليات تفكيك بعض الأنظمة العربية سوف يأخذ بالحسبان التحركات والتواجد الصيني، لذلك سعت بكين لدراسة المشهد وإعادة ترتيب أوراقها وفق المعطيات الجديدة.
ثانياً: مسارات الحزام والطريق في الشرق أوسطية:
منذ انطلاق مشروع الحزام والطريق الذي تسعى الصين من خلاله إلى مد نفوذها وتحالفاتها في العالم والتحرك الصيني في المنطقة يتزايد تباعاً، فمن ناحية تتحرك الصين تجاه السوق الاقتصادي والتجاري الضخم لمنطقة الشرق الأوسط، ومن ناحية أخرى تتحرك الدولة الصينية تجاه المسارات الاقتصادية التي لا تستطيع أن تغامر بأهميتها والمطلة على أوروبا مروراً بآسيا وأفريقيا، وهذا الأخير يشهد تحرك نشط جدا، وقد باتت القارة الأفريقية ساحة مواجهة سياسية واقتصادية دولية جلية تماماً، تشكل الصين في تلك المواجهة أحد أبرز اللاعبين الدوليين.
وقد توسعت الصين في المنطقة حتى مع الدول غير العربية ونسجت علاقات استراتيجية وعسكرية واقتصادية وسياسية بعيدة الأمد مع دول مثل تركيا واسرائيل وإيران، فقد جذبت إيران في يوليو من عام 2020 بسبب التفاوض بشأن التعاون السياسي والعسكري والثقافي والاقتصادي مع الصين ما عرف باسم (الميثاق) بقيمة تبلغ 400 مليار دولار كصيغة للتعاون المشترك.
ثالثاً: الطاقة وعين الصين على الأبيض المتوسط:
في ظل عدم وجود بدائل صينية فعلية للوقود الأحفوري فإنها تدرك أهمية بقاء حاملات النفط المتجهة لبكين في دولة تتعاظم صناعاتها واستهلاكها ودورها العالمي، فالصين تحصل على 50٪ من نفطها من دول الخليج، وتعتمد بشكل متزايد على استيراد الغاز الطبيعي من قطر. ما يستدعي مزيد من الحذر الصيني تجاه أي محاولة لتجفيف إمداداتها من وقود الشرق الأوسط. وفي الوقت الراهن باتت الصين تهتم بعلاقاتها بدول الخليج أكثر من أي وقت مضى وهو في طور نمو بارز ومتعدد الاتجاهات، يُظهر الاهتمام الصيني بمصادر الطاقة في المنطقة.
رابعاً: آلية التحرك الصيني في المنطقة:
إن تحليل التحرك الصيني في الشرق الأوسط ينم عن إدراك وإقرار بكين بمتلازمة الارتباط بين النهوض الصيني الدولي وتواجدها الشرق أوسطي، لأن مفاتيح السياسة الدولية ومن ضمنها الصينية لن تستطيع إكمال نموذجها في مسار التنافس الدولي دون الشرق الأوسط ومقدراته الاقتصادية والطاقوية والجيوبوليتيكية. ففي عام 2020، قام كلٌ من جيك سوليفان، الذي يشغل الآن منصب مستشار الأمن القومي للرئيس جوزيف بايدن، وهال براندز بدراسة مسارين يمكن للصين أن تختار من بينهما في إطار التحرك نحو “الهيمنة العالمية“. يركز أحد الاحتمالين على الهيمنة الإقليمية، ويركز الآخر على بناء نظام أمني واقتصادي عبر أوراسيا والمحيط الهندي. في الحالة الأخيرة، سيكون التركيز على تحويل القوة الاقتصادية إلى نفوذ سياسي، وترسيخ الإبداع والقدرة على تشكيل المؤسسات الدولية الرئيسية.
كان للرئيس الصيني شي جين بينج عام 2014 خلال المؤتمر الوزاري السادس لمنتدى التعاون بين الصين والدول العربية رؤية للتعاون الصيني العربي في عدة مجالات أهمها الطاقة والبناء والبنية التحتية والتجارة والاستثمار والطاقة النووية والفضاء والطاقة الجديدة. وشجع على ضرورة تنامي مبادرات التعاون الاقتصادي البيني من 240 مليار دولار في 2013 لتصل إلى 600 مليار دولار في 2023.وإلى جانب الوازع الاقتصادي فقد أولت الصين أهمية كبيرة للقوى الناعمة، فالمواطن المتسوق في منطقة الشرق الاوسط لا يغيب عن ناظريه المنتج الصيني حتى للمنتوجات ذات الخصوصية الثقافية والدينية للشعوب في المنطقة. إضافة إلى مشاريع البنى التحتية، من الموانئ إلى المستشفيات والمصانع وانتشار السيارات الصينية، وهو ما تجد الصين فيه عملية تأثير في عقلية مواطني الشرق الاوسط وتعاطفهم تجاه الصين إضافة إلى الإعلام الصيني الموجه باللغة العربية والأفلام والمسلسلات المدبلجة.
الخاتمة:
التدافع الدولي تجاه الشرق الاوسط يحتم على الصين أن لا تبقى غائبة أو متراجعة في مسار الأحداث، فرغم التحولات الأمريكية في السنوات الاخيرة خاصة منذ الفترة الرئاسية الثانية للرئيس السابق أوباما والتحول تجاه الفضاء الآسيوي إلا أن ذلك لم يعد يفقد الإدارة الأمريكية حساسية الموقف في الشرق الاوسط تجاه كل من روسيا والصين، اللاعبان الأكثر قابلية للتأثير في مشهد التحالفات والتحولات لمعطيات القوة والتأثير عالمياً.