إن ما جرى ويجري في البلدان العربية من تغييرات مفاجئة حَوَّلَ النظر باتجاه رؤى جديدة حول السياسات والسلطات ومن أهمها إعادة النظر إلى الشعوب كمصدر للقرارات المصيرية للدول. وفي ظل التحليلات السياسية حول الأوضاع الجديدة احتل مفهوما الدكتاتورية والثورة وضعاً خاصاً لتفسير التغييرات. ولفهم هذه التغييرات سيكون البدء بتعريف تقريبي لهذين المفهومين مدخلاً جيداً:
• فالدكتاتورية هي حصيلة تراكم سلبي من الإنجازات والوعود والحلول (الإيجابية إن وجدت فليس مردودها للشعب بل للسلطة)، وإن مصدر سلطة الدكتاتورية يتجسد في أدبياتها التي تدون مآثرها وإنجازاتها بنَفَسِها الخاص ما يجعل منها بطولات مقدسة، ويسري سلوك التوعية بها بشكل قسري على الأجيال المتلاحقة.
• أما الثورة فهي حدث تطوري غير تراكمي، يبدل فيه نموذج سلطوي كلياً أو جزئياً بنموذج جديد للحكم متعارض معه يهدف إلى الإيفاء بمتطلبات لم تستطع السلطة القديمة حلها.
• لماذا تحدث الثورة ؟
إذا قلنا أن العلاقة بين الدكتاتورية والشعب تأخذ شكل الاحتقان المتزايد الذي يصل إلى أزمة، فشرارة قد تكون عرضية او مقصودة، وربما خطأ ما تنتهجه الدكتاتورية، هي كلها وسائل نحو تعبيد طريق الثورة.
• كيف تحدث الثورة؟
الجواب يأتي من معرفة الطبيعة السيكولوجية للإنسان حول التغيير. فبرغم أن الاستقرار هو هدف الإنسان، لكن خاصية عميقة في داخله تعلن التوجه نحو التغيير إذا ما تشكل ظرف يستدعيه. وإذا ما استعرضنا التاريخ في كافة المجالات سنجد أن الإنسان لطالما تمرد على السكون والتراكم السلبيين : كوبرنيكوس وغاليليو في الفلك، وهارفي وباستور في الطب، لوثر في الدين، داروين، ماركس على صعيد الفكر ..إلخ.
اما في مجال الحياة العادية فكون الإنسان منشغل بقوته اليومي وسبل عيشه، فإن إرادة التغيير القابعة في داخله سرعان ما تنشط إذا ما مورست ضغوط تمس إنسانيته. وإرادة التغيير هذه قادمة من أن الإنسان قد فهم منذ أن وعى بأنه طرف مهم في مجتمع طرفه الآخر الدولة سواء كانت ممثلة بفرد واحد أو مجموعة أفراد وجدت لخدمته والمحافظة على حقوقه. وهو أيضا قد فهم أنه إلى جانب كونه يعي أهمية المحافظة على مصالح مجتمعه، فإنه يعي أن له حقوق يجب أن لا تُمس، وإذا حدث العكس فإنه يعني انتهاكاً لحقوقه والتعرض لإنسانيته بسوء، وهو ما يمهد لتحفيز قد يصل إلى حد التمرد.
وقد عبر الماركسيون عن هذا بأن تناقضاً داخلياً في المجتمع يتفاقم، بحيث لا تستطيع الطبقة المسيطرة فعل شيء حياله، حيث تتفجر قوى التغيير الخلاقة للجماهير نحو هدف تحويل المجتمع إلى شكل آخر جديد غير معروف مسبقاً. وهذا إن عنى شيئاً فانه يعني أن المجتمعات التي تدخل في أزمة وطنية عامة تكون مرشحة لحدوث ثورة.
ويبدو أن الكثيرين قد تنبهوا إلى أهمية أن تكون الأزمة شرطاً أساسياً لصنع الثورة، واهمهم توماس كون، فهو لما بدأ بمقارنة الثورة العلمية بالثورة السياسية كان قد قدم تفصيلات مهمة حول دور الأزمة في صنع الأحداث، يقول: “تتشكل الأزمة مع تصاعد الإحساس الذي يكون غالباً قاصراً على قطاع من المجتمع السياسي، بأن المؤسسات القديمة لم تعد تفي على نحو ملائم بحل المشكلات التي تفرضها بيئة كانت تلك المؤسسات طرفاً في خلقها، والإحساس بسوء الأداء يؤدي إلى بوادر أزمة، من هنا يبدأ هدف ما يرتسم سائراً نحو تغيير المؤسسات السياسية بأساليب تحظرها هذه المؤسسات ذاتها”.
ولعل تصاعد الأزمة بهذا الشكل يشير إلى صورة نضوج العامل الموضوعي للثورة وفقاً للمفهوم الماركسي، فوفقاً للأخير طريق الثورة يلزمه عاملان موضوعي وذاتي.
• الموضوعي يتمثل في تفاقم الحرمان والبؤس بين الطبقات المضطهدة إلى أقصى حد، ما يؤدي إلى أزمة تمس كلا المستغِلين والمستغَلين، فالطبقات الحاكمة من جهة لا تستطيع أن تحكم بالطريقة القديمة، والطبقات المضطَهدة المتذمرة من جهة أخرى لا تريد العيش بالطريقة القديمة. ولو راجعنا أحداث أغلب البلدان التي حدثت فيها انتفاضات واحتجاجات سنرى كيفية تجسد العامل الموضوعي، فظروف الفقر والقمع والبطالة كانت تمهيداً لنضوجه، وسوء الأداء، وسوء إدارة المؤسسات، وسوء تقديم الحلول قد أنضجه لحد القطاف.
فوصول البلاد إلى أزمة يعني أن الاحتجاجات قد خلخلت الرؤى، حيث تبدأ رؤية الطبقات الحاكمة لأوضاع بلدانها من جهة تنحو نحواً يختلف عن رؤيتها السابقة والدليل إعلان الإصلاحات ومحاولات ترميم الأخطاء، وبالمقابل تبدأ رؤية الشعوب تتجه نحو نموذج جديد لحل متطلباتها بعد أن تعذر الحل مع المؤسسات القديمة. وهذه أجواء تعلن عن نضج العامل الموضوعي، حيث يصبح الوضع مهيأ لخلق إمكانية معينة لثورة ناجحة، ومفردة (إمكانية) هنا تقودنا إلى أن الثورة محتملة وليست يقينية، ذلك إن حدوث الثورة بنسبة عالية يعني أن عاملاً آخر يجب أن ينضج وهو العامل الذاتي.
ونضوج العامل الذاتي يستدعي وجود طبقة واعية تمتلك الاستعداد والقدرة على أداء العمل الثوري. ومع الثورات التي عاصرناها شهدنا هذا الوعي الذي كان موقع فيسبوك أحد عوامل تجسده، وبهذه المناسبة يمكن القول -إن كنا على صواب- أن هذه التقنية قريبة إلى ما قصده جاك دريدا في إحدى حواراته من الدعوة إلى أممية جديدة مختلفة عن الأممية الشيوعية كونها لا تخضع لحزب أو كيان سياسي، حيث المكان السياسي يفقد مركزيته أي يتفكك، يتمزق مع التقنية الحديثة، وهذه الأممية أسماها دريدا بـ أممية التضامن، كونها تعالج مشاكل تعانيها مختلف الشعوب كـ (البطالة والإقصاء والمنفيين والحروب الاقتصادية وتهريب الأسلحة والنزعة الإثنية وسلطة الدولة والشبح والمافيا والمخدرات) واعتبرها الطريق الأمثل للنضال السياسي.
القصد إذن أن العامل الذاتي ينضج بوجود طبقة تشخص المشاكل وتعي صعوبة حلها مع نموذج السلطة القديم من جهة، ومن جهة أخرى فإن لديها الوسائل لتجسيد هذا الوعي وكان موقع فيسبوك هو أحد أهم هذه الوسائل. فمع نضوج هذا العامل إضافة إلى العامل الموضوعي تكون الثورة قادمة.
واخيراً ووفقاً لما شهدناه من ثورات وانتفاضات فإن سؤالاً يفرض نفسه وهو إذا كانت مسببات الثورات متشابهة تقريباً، فهل هذا يعني أن حدوث الثورات التطبيقي سيكون متشابها ايضاً؟
نقول إن الثورات التي حدثت كان واقع حدوثها مختلف لسببين:
الأول: طبيعة المجتمع الدينية والإثنية والثقافية، وطبيعة مشكلاته وخلفيات أزماته مع الدولة.
الثاني : مستوى الدكتاتورية, حيث اتضح مما شهدنا أن للدكتاتورية مستويات: فهنالك مستوى يتمثل في تسلط فرد مستقل عن الشعب، يعيش في عالم إرستقراطي, متعالي على هموم الناس، من أهم أهدافه إثراء نفسه وتأسيس حاشية تتمركز حوله كحزام واقي، وإن أعطى للشعب نوع من الانفتاح يكون انفتاح خادع. وهنالك مستوى للدكتاتورية آخر يكون فاشي، فهو إضافة لما طرح في المستوى الأول يخترق المجتمع بعسكرته (أي عسكرة المجتمع) فيجند ميليشيات من الشعب ضد الشعب، هي عيون له مايؤدي في حال إزالتها إلى دم كثير ومشاكل جديدة لاسيما وأنها تعمل بالدرجة الأولى على شق الشعب إلى موالٍ وغير موالي. وهنالك دكتاتوريات تتحالف مع الشيطان حتى تحافظ على وجودها وإن كان على حساب انهيار مجتمعاتها بشعوبها. وهذا النوع الأخير وإن كان يشمل أغلب السياسات إلا أنه أصبح واضحاً بشكل كبير ورائجاً مع الدكتاتوريات الناشئة ما بعد الثورات. بل وأفرغت الثورات من معانيها وأفقدت الشعوب واحتجاجاتها المشروعة من جوهرها.