من الواضح أن الحياة الاجتماعية شرعت في التصدُّع منذ المراحل الأولى للعولمة، وها هي اليوم تنشطر مع العصر السيبرنطيقي، ومن المتوقع أن يعتريها المزيد من التشذِّي مع التقدم التكنولوجي!!
لقد اتخذت حياتنا الاجتماعية -إثر مفعولات الرقمنة-شكلين بارزين على الأقل هما: شكل الحياة الاجتماعية الفيزيائية، وشكل الحياة الاجتماعية الرقمية/الافتراضية. يبدو ظاهريا أن الأولى هي الأصل، وأن الثانية انعكاس ونسخة منها، إلا أن الأمر ليس بهذه الميكانيكية؛ بحيث أن ما يجري اليوم في الفضاء الرقمي من تفاعلات لا يعكس البتة الواقع الاجتماعي كما هو في ذاته، بل يبنيه ويعيد بنائه وفق ما يتماشى وقيم الرقمنة، ويصنعه تبعاً للمنطق الذي بات يحكم شبكات التواصل الاجتماعي! ولعل أهم ما صار يطغى على تفاعلات المجتمع الشبكي اليوم هو النفاق الاجتماعي الذي انتصر على الصدق، كما انتصر الحقد على التسامح والمحبة، والمجاملة على النقد، والسطحية على العمق، وقيم الولاء والعبودية على قيم الحرية والاستقلالية، والقبلية على المواطنة…إلخ.
من المُلاحظ أن القيم المزيفة والروابط الهشة التي تقوم عليها اليوم الحياة الرقمية أخذت تتجذَّر على حساب قيم وروابط الحياة الاجتماعية الفيزيقية الآخذة في التلاشي؛ إلى درجة أصبح معها من المشروع اليوم التنبؤ بحدوث تحوُّل جذري في أدوار وعلاقات التأثير التي استبدَل فيها الرقمي الواقعي وأزاحه من مكانته المعتادة! بعدما أصبح الكثير من مستعملي الشبكات الاجتماعية يميلون إلى تشكيل هويتهم في نظر الأغيار وعيون الغرباء عبر تقاسم محتويات تؤرخ لروتينهم اليومي، بشكل يوحي بأنهم يريدون أن يخبروا العالم بشيء ما عن أنفسهم! وكأن لسان حالهم يقول أنظروا ها نحن نسافر، وها نحن نسبح، وها نحن نرقص ونحتفل، وها نحن نستهلك، وها نحن نتناول طعاماً صحياً في مطعم فاخر…إلخ. إلا أن هذا الواقع المُصطنع يختفي وراءه واقع آخر حقيقي وغير مرغوب فيه. لقد بات جُل الناس يتقاسمون الأخبار الإيجابية والصور المصطنعة والمجاملات، ونادراً ما يتقاسمون واقعهم ومشاكلهم ومشاعرهم ومواقفهم الحقيقية، إلى درجة يبدو فيها واقع الناس على شبكات التواصل الاجتماعي مثالياً ومليئاً بالحب والسعادة، وخالياً من كل المشاكل والقلاقل!
فلماذا إذن يتحدث جُل الناس عن إنجازاتهم ويتفاخرون ويفتخرون بها ولا يتحدثون عن مشاكلهم وواقعهم الحقيقي؟ هل لأن الحياة الفيزيقية صارت خالية من المشاكل أم لأن الحياة الرقمية هي حياة مزيفة بالأساس؟
إن الحياة الرقمية ليست حياة خيالية أو غير واقعية، بل هي حياة مركبة وجديدة ومختلفة عن الحياة الفيزيقية التي ألفناها قبل أن تسطو عليها التكنولوجيات الجديدة. كما أنها ليست بمرآة للحياة الفيزيقية كما يظن البعض، ولا يمكنها أن تكون كذلك أبداً، لأنها لا تعكس الواقع كما هو، بل تقلبه وتشوهه بالشكل الذي تشوه فيه الأيديولوجيات الوقائع الاجتماعية، وهنا يتشابه منطق اشتغال الرقمنة مع منطق اشتغال الأيديولوجيا خاصة على مستوى وظائف القلب والتشويه والإدماج التي تناولها الفلاسفة (كارل مانهيام، كارل ماركس، ألتوسير، بول ريكور وغيرهم).
إن عملية القلب التي تعكسها الحياة الرقمية هي امتداد لعملية القلب التقني التي تحدث على مستوى العلبة السوداء لآلات التصوير الفوتوغرافي التي تتوسط بين الفيزيقي والرقمي. وفي خضم سيرورات القلب هاته يتشكل الأنا المصطنع، ويُعاد تشكيله دائماً على نحو اختزالي وخادع يسمح لكل أحد أن يسوِّق صورة مُصطنعة عن نفسه يروم من خلالها تشييد هوية ما غالباً ما تكون مفقودة في الواقع الفيزيقي. ولعل هذا ما تجسده طبيعة العلاقات المزيفة المهيمنة على شبكات التواصل الاجتماعي، التي تحولت بموجبها هذه الأخيرة إلى كرنفال من الأقنعة اللامتناهية، وإلى فضاء للمجاملات الزائدة عن اللوزم، وللنفاق المفرط والتملق، وما إلى ذلك من قيم العبودية التي تتعارض كلية مع قيم الحرية التي تنهض عليها روح التكنولوجيا والحداثة.
بهذه القيم المنحطة تحول جزء كبير من فضاءات الشبكات الاجتماعية الشاسعة إلى سوق ممتاز للنفاق المتبادل، وملعب للتمرن اليومي على رياضات وألاعيب النفاق والتملق. لهذا، فمجتمع النفاق والعبودية الجديدة التي باتت تؤسس لها شبكات التواصل الاجتماعي، تجعل من السؤال الذي طالما خيَّم على سماء الفلسفة الغربية خلال عصر التنوير، والذي يعود الفضل في طرحه إلى الفيلسوف والشاعر الفرنسي إيتيان دو لا بويسيه “Étienne de La Boétie”، وألكسيس دو توكفيل “Alexis de Tocqueville”، وريمون آرون “Raymond Aron” وآخرين، سؤالاً جوهرياً لا زال يتمتع بكامل راهنيته، بل صارت له في عصر العبودية الطوعية راهنية أكثر مما كانت له في العصور السابقة. هذا السؤال هو: لماذا يكافح الناس من أجل العبودية الخاصة بهم كما لو كانوا يكافحون من أجل خلاصهم (حريتهم)؟