أجرى الحوار/ كيرلس عبد الملاك
تقيم الدكتوره فاطمة بلغيث، الباحثة التونسية في اختصاص النسيج التشكيلي، اليوم، معرضها الفني الشخصي في النسيج التشكيلي، تحت عنوان “نشيج”، في دار الثقافة على الوعاجي بحمام سوسة بدولة تونس، في الساعة التاسعة ليلاً بتوقيت تونس، تحت إشراف وزارة الشؤون الثقافية التونسية. وبمناسبة تنظيم هذا المعرض أجرينا معها هذا الحوار.
من الجدير بالذكر أن الدكتوره فاطمة بلغيث، حاصلة على درجة الماجستير في التراث والآثار. ودرجة الدكتوراه في اختصاص نظريات الفنون. وهي عضوة بالمركز الأوربي لدراسات الشرق الأوسط.
– ماهو المقصود بـمصطلح “النسيج التشكيلي”؟
منذ القديم كان تاريخ التجارة والتبادل التجاري بين المقاطعات والقارّات في زمن الحروب وبناء الحضارات الأولى يقوم على نسيج الحرير والخيوط المذهّبة الثمينة. أمّا “النسيج التشكيلي” اللفظ الذي تولّد من صلب نسيج الزرابي التقليديّة، غير أنّه قد تطوّر بفعل الزمن وانفتاح المدارس الفنية على بعضها البعض وبفعل “التثاقف” أيضا فموادّ وأساليب إنتاج المنسوجة الواحدة قد توسّع بشكل كبير ولم يعد يقتصر على خيط الصوف والحرير، بل إنّه اليوم على مشارف الفن الرقمي. نعم بدأت خيوط النسيج تتسربل بنيّة الانحدار نحو لعبة الفيديو الرقمية وإنتاج الخيوط من صلب الإضاءة والتكنولوجيا…وهذا هو معنى فن “النسيج التشكيلي المعاصر” هو الامتداد والسقوط الأمامي نحو الممكن البصري المتعدّد الرؤى.
– كيف يتم تعريف “النسيج التشكيلي” في الإطار الأكاديمي؟
من الناحية الأكاديميّة “النسيج التشكيلي” هو مجال اختصاص من بين الاختصاصات الأخرى كالنحت والرسم والحفر والسيراميك، ومبدأ الممارسة فيه ينطلق نحو إعادة التأسيس لأفكار ومفاهيم جديدة ومستحدثة بدأت مع مدرسة باوهاوس الألمانية بداية من أني ألبرس (Anni Albers) ومن خلفها من بعد. إذ رغم التهميش الذي غدا فيه هذا الاختصاص في أغلب معاهد الفنون الجميلة بتونس والتي يبلغ عددها 14 مؤسّسة جامعيّة، ورغم تحييده كمادّة تشكيليّة فيها ممارسة تفتح على تعدّد الرؤى، إلّا أنّي لم أفقد أملاً واحداً في رجوعه كاختصاص قائم الذات
– ما هي العلاقة بين مجهوداتك الأكاديمية والنسيج التشكيلي؟
كانت أطروحة الدكتوراه التي أنجزتها تمتدّ إلى حيث تضافر الخيوط وتشابكها تحت مسمّى: “التثاقف في النسيج التشكيلي المعاصر في تونس: العلامات الثقافيّة والمرجعيّات العالميّة” وأنجزت قبلها بأعوام بحث لنيل شهادة الأستاذية في الاختصاص نفسه تحت عنوان “الكتلة في النسيج التشكيلي بين الفعل والفعل فيها”. وكم كنت أهوى الدخول في ورطة بخيوط منحنية دائريّة حدّ التكتّل. والدائرة بالنسبة لي في النسيج التشكيلي هي ليست شكلاً كما يراه الآخر بل إنّها قلب الرحى الذي يصنع لي دليلاً بصريّا يتكرّر بدون ملل.
– كيف تنظرين بنظرة فنية إلى مجال النسيج التشكيلي؟
الانحناءات الشكليّة هي بناء يشعرني بالراحة وهي الدليل عندي بأنّ الحياة لم تعرف الاستقامة يوماً كما البشر الذي يصنع آلة ليقتل بها أخاه بدم بارد. فحتّى كيس الماء الذي نخلق فيه في أحشاء أمهاتنا هو كتلة دائريّة ما إن ينفلق منها الماء وينبجس حتّى تغدو الصيحة الأولى غير مسترسلة متقطّعة في الهواء غير مستقيمة.
– حدثينا عن معرضك الشخصي “نشيج”؟
معرض “نشيج” هو أوّل معرض فردي لي في اختصاص النسيج التشكيلي المعاصر، بعد مشاركات عديدة في إطار فعاليات وتظاهرات فنية دولية ووطنية جماعيّة. وتقوم أعمالي في هذا المعرض بالأساس على تحويل الغطاء الصوفي الذي نسمّيه في تونس “العبانة” وفي بعض الجهات “البطّانيّة” إلى منسوجة تشكيليّة فيها نمط نسيجي مغاير ووظيفة مختلفة وبناء بصري يحتمل النقد والقراءة المتعدّدة.
– ماذا يعني مصطلح “نشيج”؟ ولماذا اخترتي هذا الاسم؟
“النشيج” في معظم المعاجم العربيّة هو الصوت المتردّد في الصدر. والبطانية/ العبانة هي صوت خيوط تردّ الصّدى لمعنى العائلة، والدفء، والطفولة، والأمّ، والأب، والأخوة، والعادات والتراث والنسيج. بين النسيج والنشيج يولد صوت الفنان التشكيلي وتخرج من الصّدر عندئذ علامات ثقافيّة جديدة، صور جديدة، هروب جديد، معنى جديد، حركة بلا قرار، نشيج متلعثم يرثي مكاناً ما وزماناً ما.
– في رأيك، هل يجد النسيج التشكيلي الاهتمام الواجب من قبل وزارة الشؤون الثقافية في تونس؟
هذا السؤال لا أجد فيه نفسي مطاوعة لتقديم إجابة متسرّعة أو لرمي أحكام ليس لها تبرير كما يفعل العديد من الفنّانين حيث يلقون التهم جزافاً لأسباب ربّما خاصّة. كلّ ما أعرفه أنّ وزارة الشؤون الثقافيّة في تونس تحاول السعي نحو بناء منظومة ثقافية متعدّدة الرؤى رغم قلّة الميزانيّة المحدّدة للمجال. وهي إذ تحاول أن ترضي جميع المؤسّسات الثقافية من مسرح ورقص وغناء وتراث وسنيما وفنون تشكيليّة إلّا أنّ البعض غير راض بما تقدّمه وربّما تعود الأسباب لعدم استقرار الحركة السياسيّة في تونس منذ اندلاع الثورة. و أنا من موقعي كـ (باحثة) وهو الوصف الذي يملأني ويشبعني ويلبّي غروري كمثقّفة أكثر من أيّ وصف آخر لا يمكن أن أستنكر أنّ وزارة الشؤون الثقافيّة بتونس كانت الداعم الأوّل مادّيا لمعرضي الشخصي “نشيج”، حيث تمكّنت سنة 2019 من فتح ورشة لممارسة النسيج التشكيلي بدعم من وزارة الشؤون الثقافيّة بتونس إيمانا منّي بأنّ هذا الاختصاص لابدّ أن يسترجع مكانته في دنيا الفنون التشكيليّة. ما أردت قوله أنّ “النسيج التشكيلي” كاختصاص أكاديمي ليس بحاجة اليوم لوزارة شؤون ثقافيّة حتّى يستعيد قواه من جديد بل إنّ الجهود المنتظرة هي من أهل الاختصاص الذين يفترض أن يكونوا في واجهة الدفاع عنه كمادّة اختصاص تشكيلي يوازي بقيّة الاختصاصات.
– كيف تري وضع الفنون في تونس والشرق الأوسط؟
إنّ الحديث عن وضع الفنون في تونس والشرق الأوسط حديث يستوجب الحضور صوتا وصورة مع مختصّين في المجال من شتّى دول الشرق الأوسط والمنطقة المغاربية أيضاً لأنّه سؤال بحجم الشرق الأوسط العظيم ولا أجد نفسي قادرة فعلاً على تحديد مكامن النقصان والقوّة. وأنا بصفتي عضوة في المركز الأوروبي لدراسات الشرق الأوسط كنت دائماً أتساءل: هل تونس تنتمي لدول الشرق الأوسط جغرافيا وتاريخيا وسياسيا وثقافيّا؟ القلم التحريري في الإجابة عن هذا السؤال ربّما يتعب دون الوصول لنتيجة حتميّة ومستقرّة وواضحة، لكنّي كنت قد كتبت دراسة حول “سوق الفنّ في الشرق الأوسط” وكانت من أهمّ النتائج التي توصّلت إليها أنّ غياب سياسية انفتاح سوق الفن بين الدول الشرق أوسطية وتونس هو عائق من بين العوائق التي تحدث في مجال الفنون التشكيلية اليوم. وسوق الفن وانفتاحه هو المؤشّر الوحيد الذي بقي ليحدث تغييراً في خارطة الحقل التشكيلي إذ لا يمكن للفنون البصريّة أن تستقيم دون سوق فن. نسيت أن أذكر أنّنا في تونس مازلنا إلى ليوم نناقش إمكانية تأسيس متحف للفنون الحديثة والمعاصرة يجمع بداخله آلاف اللوحات التي تثبت على أول لوحة رسمت في تونس وهي مخزّنة في أرشيفات ومخازن الوزارة يقولون أنّها اختنقن بفعل الغبار والسنين وحشرات الحياة فيها.