بانتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي مع بداية تسعينيات القرن الماضي، خلت الساحة الدولية أمام الولايات المتحدة الأمريكية لتمديد سيطرتها على العالم أجمع فنشأ نظام عالمي جديد يُعرف بنظام القطبية الواحدة الذي تهيمن من خلاله التوجهات والمصالح الأمريكية (خاصة) والغربية (عامة) على العالم، الأمر الذي أدى إلى ترسيخ ما يُعرف بالعولمة الغربية، بالإضافة إلى تصاعد مصطلح الاستعمار الجديد في إشارة إلى الهيمنة الغربية المفروضة على جميع دول العالم فيما يشبه الاحتلال، على نهج غير مباشر للاستعمار التقليدي الذي كانت فيه لبريطانيا وفرنسا اليد الطولى.
جاء اقتحام روسيا لأوكرانيا مؤخراً ليحاول تغيير المعادلة، فعلى الرغم من مأساوية الحدث على المستوى الأخلاقي والبشري، إلا أنه من جهة السياسة الدولية والنظام الدولي يعد خطوة روسية نحو وقف الهيمنة الأمريكية والغربية على العالم، نظراً لكون أوكرانيا تميل إلى التبعية الغربية بينما تنتمي تاريخياً للمعسكر الشرقي باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الاتحاد السوفيتي سابقاً، وهو ما دفع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها إلى الاستنفار والتدخل من خلال دعم أوكرانيا إعلامياً وعسكرياً وسياسياً حتى لا تنجح تلك الخطوة التي تهدد الهيمنة الغربية على العالم وبالتالي تهدد المصالح الغربية المتوسعة دولياً. فالتدخل الغربي في الأزمة الأوكرانية لا يمكن رؤيته من منطلق أخلاقي بحت، لأن أوكرانيا ليست الوحيدة المعتدى عليها من بين دول العالم، هناك فلسطين المعتدى عليها دائماً منذ زمن طويل دون أدنى تحرك أمريكي أو غربي فاعل لوقف هذا الاعتداء. والسبب ببساطة يتمثل في أن المصالح الغربية لا تتحقق بحل أزمة فلسطين.
هنا يظهر تساؤل هام: هل تنجح روسيا في وقف الهيمنة الأمريكية على العالم؟
في بورصة التوقعات لا يمكن لإنسان حسم توقع معين حسماً مطلقاً، لكن من خلال متابعة التطورات السياسية والعسكرية الأخيرة، يتضح أن سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية أضحت تعاني من ضعف ملموس في إطار علاقاتها بعدد من الدول، في مقدمتها روسيا والصين وأكثر الدول العربية تأثيراً. وهذا الضعف يقوم على رفض التسلط الأمريكي والغربي على توجهات هذه الدول، ما يفتح الباب أمام إمكانية تصاغر الهيمنة الأمريكية الدولية وانكماشها المستمر خاصة في ظل ضعف الدول الغربية حتى الآن عن إيقاف الحرب الروسية الأوكرانية برغم التوسع الروسي العسكري داخل أوكرانيا، بالإضافة إلى قدرة المملكة العربية السعودية ودول الإمارات والعراق والكويت على اتخاذ قراراً اقتصادياً يخالف الإرادة الأمريكية من خلال تجمع (+OPEC).
لكن مع ذلك، يظل للوجود الأمريكي والغربي ثقله الدولي، وأدواته المتعددة في فرض السيطرة، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه، تلك الأدوات التي ربما لم تظهر بوضوح بسبب الخوف من اندلاع حرب عالمية ثالثة تميل إلى الطابع النووي، بالإضافة إلى تزايد الضعف الأوروبي الغربي الاقتصادي.
في تقديري هناك عدد من الخطوات لابد أن تتخذها روسيا بمعاونة حلفائها لوقف الهيمنة الأمريكية على العالم في إطار من الثبات والاستمرار، وهي كالتالي:
1- فوز روسيا في معركتها في أوكرانيا دون السقوط في وصف المحتل أو المعتدي:
ولتحقيق هذا الهدف، تحتاج روسيا إلى رسوخ عسكري، واتحاد مع حلفائها أمام التدخلات الغربية، بالإضافة إلى حل إشكاليتها الأخلاقية مع شعب أوكرانيا وشعوب العالم الذين رأوها محتلة ومعتدية من خلال وسائل الإعلام الغربية الضخمة، المسيطرة على العالم. فعليها أن تظهر بمظهر البطل الذي يواجه بطش الغرب لا المجرم الذي يعتدي على الشعوب المسالمة، وهذا الأمر يحتاج إلى موقف عسكري وسياسي نظيف وشفاف ورسالة إعلامية منضبطة الأبعاد ودعم إعلامي ضخم يتحدث بلغات متعددة.
2- فوز روسيا في معركتها الاقتصادية ضد الغرب:
لا يخفى على الخبراء والمطلعين أن واحداً من أكبر أسلحة الغرب وربما أكبرها على الإطلاق، هو السيطرة الاقتصادية على العالم، وبدون هذا السلاح يصبح الغرب تابعاً لمن يوفر له المال والاستقرار الاقتصادي. فإذا استطاعت روسيا أن تصمد أمام العقوبات الغربية من خلال خططها الاقتصادية ودعم الحلفاء سوف يسقط من يد الغرب سلاحه القوي لفرض السيطرة.
3- قيادة منظومة أخلاقية واضحة المعالم تنافس المنظومة الأخلاقية الغربية:
المنظومة الأخلاقية البشرية الأصيلة لها قوتها التراثية والتاريخية التي يحترمها ملايين البشر حول العالم، لكن معالم هذه المنظومة بهتت وغابت مع صعود العولمة الغربية بما تستند إليه من قوة اقتصادية وإعلامية لا يوجد لها منافس على نفس الدرجة من القوة. ولعودة هذه المنظومة ذات السمة الشرقية إلى المنافسة من جديد لابد من العمل على تحديد معالمها بالتوافق مع دول الشرق ومن يؤيدها، ثم العمل على نشرها بشكل منهجي يجذب الشعوب إليها مرة أخرى، وهذا الأمر لا يخلو من الحاجة إلى إعلام متسع وأفكار مدروسة وباحثين ماهرين.
4- التوسع الإعلامي:
الآلة الإعلامية الغربية الضخمة، لم تؤثر فقط على الشعوب الغربية، لكنها أثرت وتؤثر على جميع الشعوب حول العالم، من خلال المنتجات الإخبارية والفنية المختلفة التي نجحت إلى حد كبير في تصدير سمتي البطولة والمثالية الغربيتين برغم ما في هذه المنتجات من اجتزاء وتهويل وابتعاد عن الحقائق. لذلك فروسيا تحتاج إلى تطور إعلامي يُحسن المواجهة مع الإعلام الغربي بالاتحاد مع حلفائها ما يؤدي إلى تكوين توجه إعلامي موحد ضد الهيمنة الغربية، يوازن بين الوجود الغربي والوجود غير الغربي.
5- التوسع العلمي:
الكثير من الأفكار العلمية الغربية المعاصرة تعاني من الهشاشة والضعف، ولكنها تستمد قوة خاصة من الدعاية العلمية الحاضرة في الإعلام الغربي أيضاً من خلال الفعاليات العلمية والثقافية المخنلفة التي لها سمة دولية خاصة، بما فيها من تكريم للعلم والعلماء. ولمواجهة هذه القوة العلمية الغربية التي تستمد قوتها من المنهجية العلمية والصورة الإعلامية الجذابة والسمة الدولية، وتمد الغرب بقوة استثنائية، على روسيا وحلفائها أن يتوسعوا علمياً ويعطوا أهمية خاصة للعلم والعلماء ذوي النزاهة الفكرية والعلمية، من خلال افتتاح منابر للعلم والبحث والفكر لها سمة دولية، بالإضافة إلى صناعة الفعاليات المختلفة التي تكرم العلم والعلماء سواء في المجالات العلمية التطبيقية أو النظرية، هؤلاء العلماء الذين يستطيعون كشف الجزء المظلم من العلم الغربي ومواجهته المواجهة المثلى.
6- بناء المؤسسية:
من أهم أسباب هزيمة الدول غير الغربية أمام الغرب غياب المؤسسية، والاعتماد على فردية التوجهات في كافة المجالات. ومهما تصاعدت قوة الفرد فهي لا تستطيع الصمود أمام القوة الجماعية المنظمة الكامنة في المؤسسية. لذلك فلاستعادة بريق أي منطقة وتأثيرها لابد من إيجاد طريق إلى المؤسسية القائمة على أسس إدارية مُنتجة ومنضبطة في كافة المجالات. فالمؤسسية لا تستطيع أن تنافسها إلا مؤسسية على نفس الدرجة من القوة.