شهدت نهائيات كأس العالم في دورتها الأخيرة بقطر عدة تغييرات مست الشكل والمضمون وقوبلت بمواقف مختلفة في تقييم أبعادها وتأثيراتها ونجاعتها. بدءاً من التنظيم الذي احتضنه بلد عربي وإسلامي لأول في مرة في تاريخ المونديال. وقد كانت هذه النقطة مثار جدل وتجاذبات عكسها الإعلام الذي قام بالتركيز على عدد من المسائل المتعلقة بالبلد المنظم قطر، تفاوتت أهميتها في العلاقة بهذا الحدث الكروي في توقيته وتنظيمه.
من المؤكد أن وجهات نظرنا إزاء قطر تختلف في تقييم أدوارها وعلاقاتها وأهدافها، وهذا أمر طبيعي إلى حد كبير، لكن نجاحها في الإعداد والتنفيذ يبدو إلى حد كبير أمراً متفقاً عليه.
أصوات عدة ارتفعت في الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي تنتقد تنظيم المونديال في قطر، بل إن الكثبر منها دعا لمقاطعة هذا المحفل الرياضي العالمي قبيل انطلاقه وحتى بعيد ذلك، لكن هذه الدعوات سرعان ما فترت لتتراجع تدريجياً. دعوات قد يحمل بعضها أنصاف الحقائق وقد يكون بعضها الآخر موجهاً أو مدسوساً، وفي كل الحالات فإن توقيتها ومدخلها يطرح شكوكاً كثيرة بشأن أهدافها ومطلقيها، خاصة بعد أن تمكنت الدوحة من تأمين طريقها وتوثيق ضماناتها بدعم من الاتحاد الدولي لكرة القدم، فيفا، وهو ما جعل احتضانها لنهائيات كأس العالم على مستوى عالٍ شكلاً ومضموناً.
نجحت قطر في رهانها العالمي أولاً، وفي مواجهة منتقديها ثانياً، بعد أن ذهبت بعيداً في هذا التحدي الصعب توقيتاً وسياقات، وفي ظل عولمة رياضية شاملة، غدت فيها كرة القدم مُعطى جيوبوليتيكيا مهماً تسعى كل دول العالم لكسبه وتوظيفه لتعزيز موقعها ومصالحها الدولية.
ولم تكن قطر خارج هذا السباق، والحال أنها حصدت نتيجة جهودها واستثماراتها التي وظفتها على امتداد سنوات لتحقيق هذا الهدف – الحلم. وبما أن هذه الاحتفالية الرياضية العالمية قد استكملت بنسق تنظيمي موفق وروح رياضية عالية، كان لزاماً أن يقابل هذا الإنجاز بتثمين يعكس إستثنائية هذه الدورة في مُختلف أبعادها، لعل أبرز ما ميزها الحضور المستمر لقضية العرب الرئيسية والتي ظلت وستظل، رغم التراجعات، متصدرة لوجدان الأمة في مختلف لحظاته التاريخية، هذه الرمزية الفلسطينية ميزت عدة لحظات بالمونديال، الذي أضفت عليه مسحة من الأمل الذي تعزز بالمشاركة الرياضية العربية المحترمة والفاعلة والتي تصدرها العبور غير المسبوق عربياً وأفريقياً للمنتخب المغربي إلى نصف نهائي المونديال.
الإشادة بالمونديال لا تدخل بالضرورة في باب المجاملة والحال أننا أمام حقيقة نجاح ماثل للعيان. فالتثمين من هذا المنطلق مستوجب لأسباب عدة، أولها انتماء المنظم لمجالنا الجيوسياسي الموسوم غالبا بالاخفاق والفشل في أكثر من مجال، وثانياً لأنها أثبتت أن الآخر من خارج المنظومة الغربية قادر، إذا توفرت العوامل المساعدة على ذلك، وثالثا لأنها كسرت نسبياً الصورة النمطية الموسومة بالعجز التي غالباً ما يوصف بها الفضاء العربي الإسلامي.
ولعل هذا الأمر قد يساهم في إعادة النظر ولو جزئياً في هذه النظرة النيوكولونيالية المجحفة ويقطع مع تراكمات إنثروبولوجية سكنت المخيال الغربي لعقود، وتكرست مع مخرجات الطفرة النفطية المالية بشكل خاص في الخليج، وما صاحبها من تضخيم لهذه النظرة وانعكاساتها خاصة في مجالات الإعلام والسينما والميديا بأنواعها. نظرة ترتبط بحقبة كولونيالية كان عنوانها أن هذه المنطقة في بُعدها العربي الإسلامي لا يمكن أن تكون مُنتجة وناجحة بل هي إلى النموذج التنموي الفاشل أقرب.
ولئن تبقى منطقتنا في المجمل تعاني نفس الأزمات والانقسامات والتشظيات الداخلية والخارجية، إلا أن نجاح تنظيم دورة كأس العالم 2022 يعد نقطة انتقال مضيئة على الأقل في هذا المجال الرياضي الذي أصبح أداة ناجعة لكسب رهانات اقتصادية وسياسية كبرى ومؤثرة على مستوى الإقليم والعالم وفتح آفاق جديدة للمستقبل. لعل مونديال قطر يمثل فرصة وجب توظيفها بالشكل المناسب لكسب رهانات قادمة.