في عالم يتغيّر بوتيرة غير مسبوقة، لم تعد التهديدات الكبرى تُقاس بعدد الجنود أو حجم الدمار المادي، بل أصبحت تتسلل في هيئة بيانات، فيروسات، وخوارزميات.
هذه السلسلة لا تهدف إلى التهويل، بل إلى تسليط الضوء على أكثر التحديات تعقيدًا التي تواجه البشرية في هذا القرن المتشابك.
بعد أن تناولنا في المقالات السابقة كلًا من:
الإرهاب العابر للحدود
التغير المناخي
الذكاء الاصطناعي غير المنضبط
نصل اليوم إلى الخطر الرابع، الذي لا يقل خطورة عن سابقيه، بل يمتزج بهم ليصوغ ملامح جيل جديد من الحروب لا يُشبه ما عرفناه سابقًا.
أولًا: الحرب السيبرانية – عندما تصبح الشيفرة سلاحًا
> “قد لا نسمع صوت الانفجارات، لكنّ البنية التحتية تنهار بصمت… تلك هي الحرب السيبرانية”
حرب بلا دخان، بلا دماء مرئية، ولكنها تُحدث شللاً في الدول، وتعطّل أنظمتها، وتستهدف أعصاب الحياة: الكهرباء، الماء، المال، والاتصالات.
الحرب السيبرانية تحوّلت من تهديد افتراضي إلى معركة يومية.
والمخيف أنها تجري دون قيود جغرافية أو سياسية، وقد يطلقها فرد في غرفة مظلمة، لكنها تُحدث خللًا في شبكة كهرباء أو بنك مركزي أو مستشفى كامل.
أبرز ملامحها:
🔹 الهجوم على البنية التحتية الحيوية
> مثل هجوم “Stuxnet” الذي دمّر برنامج إيران النووي باستخدام شفرة خبيثة.
🔹 حملات التضليل الرقمية
> من خلال الذكاء الاصطناعي، تُصنَع روايات كاذبة لتقسيم المجتمعات أو تزوير إرادة الشعوب.
🔹 القرصنة لأغراض تجسسية أو تدميرية
> مجموعات مثل Lazarus وAnonymous نفذت هجمات على مصارف وشركات كبرى.
🔹 الجماعات الإرهابية تدخل المشهد
> داعش استخدمت الإنترنت للتجنيد والدعاية، وتبحث عن اختراق أنظمة المياه والطاقة والطيران.
> ما يجعل الحرب السيبرانية خطيرة هو أنها تعطي حتى الفاعلين من غير الدول قدرة تدميرية تضاهي حكومات.
طفل مراهق يحمل عقيدة متطرفة قد يعطّل أنظمة بمليارات الدولارات… بنقرة واحدة.
ثانيًا: الحرب الحيّة الآن – “الأسد الصاعد” ضد “الوعد الصادق”
في قلب الشرق الأوسط، تدور اليوم أعنف المعارك السيبرانية غير المعلنة بين ايران وإسرائيل
في تقرير شركة “رادفير” للأمن السيبراني الإسرائيلي جاء أن الهجمات السيبرانية منذ الحرب ارتفعت 700 في المئة.
ومنذ اليوم اليوم الأول للحرب اعترفت إسرائيل بصعوبة تصدي منظومات الدفاع التي في حزوتها لعدد من الصواريخ التي تطلق من كل رشقة من إيران بسبب عملية عرقلة منظومة الصواريخ من قبل إيران.
اما إسرائيل نفذت سلسلة من العمليات السبيرانية قبل الضربات الجوية والتي ساهمت بدورها في السيطرة على أنظمة الشبكة الصناعي في المنشآت النووية مع اختراق شبكات الاتصالات للحرس الثوري في مرحلة قبل الهجوم مباشر.
وتم نشر فيروس ( إكس كود ) المعدل بغرض شل أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية مع التشويش على أنظمة الاتصالات العسكرية.
> هذه الحرب ليست تقنية فقط، بل رمزية وأيديولوجية.
كل شفرة تُمثل صوتًا في معركة وجود: هل تسود رواية “الوعد الصادق ٣”، أم “الأسد الصاعد” في سباق السيطرة الرقمية؟
ثالثًا: الأسلحة البيولوجية – الفيروس كقنبلة
تتضمن الحروب البيولوجية استخدام كائنات دقيقة أو سموماً لنشر أمراض على نطاق واسع.
حوادث تاريخية:
🔹 برنامج BIoPreparat السوفييتي
طور أمراضًا مثل الجمرة الخبيثة والجدري كسلاح بيولوجي.
🔹طائفة اوم شينيريكو – اليابان 1995
أطلقت غاز السارين في المترو، قتلت 13 وأصابت المئات.
🔹 خطر الإرهاب البيولوجي
بفضل تقنيات كريسبر ، يمكن لأي جماعة إنتاج فيروس مخصص.
> الحرب البيولوجية تُحوّل التنفس إلى خطر، والمصافحة إلى تهديد.
ومع هشاشة أنظمة الصحة في كثير من الدول، فإن الدمار لا يحتاج إلى قنبلة… بل إلى رذاذ غير مرئي.
رابعًا: الحرب الهجينة – عندما يتلاقى السيبراني بالبيولوجي
تخيّل وباء قاتل يضرب دولة، وتزامنًا تتعطل مستشفياتها وشبكات الاتصال نتيجة هجوم إلكتروني!
> هذه الحرب ليست تخيلية… بل محتملة جدًا.
الحرب الهجينة تعني أن العدو غير مرئي، لكن ضرباته تتزامن وتُربك وتشُل أي قدرة على المواجهة.
> نحن أمام “فوضى مصنّعة”: وباء رقمي يترافق مع وباء عضوي.
خامسًا: المعضلة الأخلاقية والتشريعية – من يضع القواعد؟
رغم التهديدات، لا توجد اتفاقيات ملزمة عالميًا تحكم هذه الأسلحة.
🔹 لا تنظيم فعال للبرمجيات الهجومية
🔹 ولا قوانين تردع استخدام التكنولوجيا الحيوية كسلاح
> نحن نعيش “الحقبة السيبرانية البدائية” – الكل يهاجم، والكل ضحية، ولا وجود لقانون دولي يُحاسب.
في ظل هذا الفراغ، قد يصبح الإنترنت والغبار الحيوي أدوات قتل شرعية.
سادسًا: هل هناك أمل؟
نعم… لكن الوقت ضيق.
ما يمكن فعله:
🔹 تحالف دولي للأمن السيبراني
🔹 أنظمة ذكاء اصطناعي للكشف المبكر عن هجمات بيولوجية
🔹 ضبط أخلاقي وقانوني للهندسة الوراثية
> تخيّل مجلس أمن رقمي عالمي، كما في الأمم المتحدة.
أو محكمة خاصة للجرائم السيبرانية العابرة للحدود… هذا ما يجب أن يُبنى الآن، وإلا فالعالم قادم على فوضى رقمية وجينية قاتلة.
خاتمة: الحرب بلا طلقة واحدة
> الحروب القادمة لا تبدأ بصاروخ… بل بخط برمجي أو شفرة بيولوجية.
في زمن تختفي فيه الجيوش من الميدان، وتدخل المعارك إلى الشبكات والأجسام…
علينا أن نكون أكثر وعيًا، وأن نبني أنظمة ذكية، لا فقط دفاعية… بل وقائية وقيمية.
المقال القادم:
الخطر الخامس: التفكك المعلوماتي – عندما تنهار الحقيقة في عصر ما بعد الواقع