في هذا القرن المتسارع، لم تعد التهديدات التي تواجه البشرية محصورة في الحروب أو الأوبئة، بل أصبحت أكثر تعقيدًا وتشابكًا، تمتد من اختلالات الطبيعة إلى فوضى التكنولوجيا. ومن هنا، نكتب في هذه السلسلة الأسبوعية عن أخطار القرن الحادي والعشرين، لنضيء على التحديات الكبرى التي تُهدد مستقبل الإنسان، ونُثير الأسئلة التي يجب ألا نتجاهلها.
وفي هذا الأسبوع، نقف عند الخطر الثاني: التغير المناخي، الذي لم يعد خطرًا مؤجلًا، بل واقعًا يفرض نفسه بقسوة على حياتنا وكوكبنا.
لا يُعد التغير المناخي خطرًا بيئيًا فحسب، بل هو تهديد شامل يمسّ كل أبعاد الحياة البشرية على الكوكب. من حرائق الغابات في كندا وأستراليا، إلى الفيضانات المدمرة في باكستان وأوروبا، مرورًا بموجات الحر القاتلة في آسيا وأمريكا الشمالية، يبدو أن الطبيعة قررت أن تدقّ ناقوس الخطر، بعد أن أرهقها الإنسان بنهمه ونمطه الاستهلاكي غير المستدام. هذا الخطر، رغم وضوح مؤشراته، لا يزال يلقى ترددًا عالميًا في مواجهته بالجدية الكافية.
التغير المناخي لم يعد مجرد توقعات علماء أو سيناريوهات مستقبلية، بل أصبح واقعًا نعيشه يوميًا. إنه اختبار غير مسبوق لقدرة البشرية على التعاون العابر للحدود، ولإرادتها في تجاوز منطق الربح السريع نحو منطق البقاء المستدام.
أولًا: ما هو التغير المناخي؟
التغير المناخي يشير إلى التحولات طويلة الأمد في درجات الحرارة وأنماط الطقس على كوكب الأرض. ورغم أن التغيرات المناخية قد تحدث بصورة طبيعية عبر العصور، إلا أن التغيرات الحالية ناتجة إلى حدٍ كبير عن الأنشطة البشرية، وعلى رأسها حرق الوقود الأحفوري الذي يطلق غازات الدفيئة مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان، ما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض.
يكمن جوهر الكارثة في أن الطبيعة تعمل كمنظومة مترابطة، فارتفاع بسيط في درجة الحرارة لا يعني مجرد يوم صيفي أطول، بل يسبب ذوبان الجليد، ارتفاع مستوى البحار، خلل في الزراعة، وانتقال أمراض إلى مناطق لم تعرفها من قبل.
ثانيًا: الأعراض الملموسة على الأرض
نلاحظ اليوم مظاهر عديدة لتأثير التغير المناخي: موجات جفاف متكررة تؤدي إلى نقص المياه والغذاء، عواصف أكثر شدة، أضرار واسعة بالمحاصيل الزراعية، تراجع التنوع البيولوجي، وتزايد عدد اللاجئين المناخيين الذين يُجبرون على مغادرة مناطقهم بسبب اختفاء مصادر العيش.
المقلق في هذه الأعراض ليس فقط شدّتها، بل تسارعها غير المسبوق. نحن لا نعيش تغيرًا تدريجيًا بل تحولًا عنيفًا، حيث باتت الكوارث الطبيعية أكثر تكرارًا وتدميرًا، وتجاوزت قدرتنا التقليدية على التكيف.
ثالثًا: التغير المناخي والأمن الغذائي والمائي
يؤدي ارتفاع درجات الحرارة وتغير أنماط الأمطار إلى اضطرابات كبيرة في الإنتاج الزراعي، خصوصًا في المناطق الفقيرة والمعتمدة على الزراعة التقليدية. كما يؤدي ذوبان الجليد وتغيرات دورة المياه العذبة إلى شحّ في مصادر المياه النظيفة. ووفقًا لتقارير أممية، سيواجه مليارات البشر خطر نقص الغذاء والماء بحلول منتصف القرن الحالي إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة.
التهديد هنا ليس بيئيًا فقط، بل جيوسياسي أيضًا، فالصراعات على المياه والأراضي الخصبة قد تُشعل حروبًا جديدة في مناطق مثل حوض النيل، أو نهري دجلة والفرات، أو في مناطق البحيرات العظمى الإفريقية.
رابعًا: هشاشة المجتمعات المنكوبة واستغلال الجماعات الإرهابية
لا يقتصر توسع الجماعات المسلحة على الفراغات الأمنية أو الأزمات السياسية فحسب، بل يمتد إلى التحولات البيئية، وخصوصًا التغير المناخي، باعتباره عاملاً غير تقليدي لكنه بالغ التأثير. فقد شهدت مناطق واسعة من العالم، ولا سيما في إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا، تأثيرات متسارعة للتغير المناخي مثل التصحر، ندرة المياه، وتكرار موجات الجفاف والفيضانات، مما أدى إلى نزوح جماعي وتفكك المجتمعات الريفية.
في هذا السياق، لجأت الجماعات المسلحة إلى استغلال هذه الظروف المناخية القاسية لتعزيز نفوذها وتوسيع قاعدة تجنيدها. ففي منطقة الساحل الإفريقي، على سبيل المثال، تسببت التغيرات المناخية في تصاعد النزاعات بين الرعاة والمزارعين، ما وفّر بيئة خصبة لجماعات مثل “داعش الصحراء الكبرى” و”القاعدة في بلاد المغرب” لتقديم نفسها كجهة حامية، توفر الأمن أو الموارد مقابل الولاء. الأمر ذاته ينطبق على بوكو حرام في محيط بحيرة تشاد، حيث استغلت الجماعة تقلص البحيرة وحرمان المجتمعات من مواردها لتجنيد المتضررين، مستخدمة خطاب المظلومية وتقديم بعض الخدمات التي غابت عنها الدولة.
أما في الصومال، فقد استخدمت حركة “الشباب” فترات الجفاف والمجاعة لتوطيد سلطتها، إذ كانت توزع الغذاء والمياه بشروط، وتمنع في بعض الأحيان وصول المساعدات الدولية، لتكون الفاعل الوحيد القادر على “الإغاثة”. وتكرر النمط بدرجات متفاوتة في مناطق من جنوب آسيا، حيث أدت الكوارث البيئية إلى إنشاء مجتمعات مهمّشة يسهل اختراقها وتعبئتها بأفكار متطرفة.
إن هذه الأمثلة الواقعية تكشف عن ضرورة إدراج التغير المناخي ضمن الأطر التحليلية للأمن، بوصفه محفزًا غير مباشر لكن مؤثرًا في إعادة تشكّل مشهد الجماعات المسلحة عالميًا. فحيثما تغيب الدولة، وتنهار البيئة، يظهر التطرف كبديل قاتم للنجاة.
خامسًا: العدالة المناخية والفجوة بين الشمال والجنوب
رغم أن الدول الصناعية الكبرى مسؤولة تاريخيًا عن معظم الانبعاثات الكربونية، فإن الدول الفقيرة هي التي تدفع الثمن الأكبر. سكان الجزر الصغيرة، والمزارعون في إفريقيا وآسيا، والمجتمعات الهشة اقتصاديًا، هم أول من يتأثر، رغم أنهم الأقل تسببًا في الكارثة.
من دون عدالة مناخية حقيقية، لن يكون هناك حل فعال. لا يمكن تحميل الجنوب العالمي تكلفة التكيف مع أزمة لم يخلقها، بينما يستمر الشمال في نهجه الصناعي الملوث. الحل يمر عبر نقل التكنولوجيا، والتمويل المناخي، وتحرير السياسات البيئية من هيمنة الشركات الكبرى.
سادسًا: الدور الحيوي للتكنولوجيا والمجتمعات
رغم قتامة المشهد، إلا أن الأمل لا يزال قائمًا عبر حلول التكنولوجيا النظيفة، مثل الطاقة الشمسية والرياح، وتحسين كفاءة الطاقة، والزراعة الذكية مناخيًا. كما أن المجتمعات، خاصة الشباب، باتوا أكثر وعيًا بالقضية، وتشكّلت حركات عالمية تطالب بالتحرك العاجل.
يكمن التحدي في الانتقال من “الوعي البيئي” إلى “التحرك البيئي”. فالتكنولوجيا وحدها لا تكفي، ما لم تدعمها إرادة سياسية عالمية، وسلوك يومي مسؤول من الأفراد والمجتمعات.
سابعًا: المسؤولية العالمية والتحرك الجماعي
وقّعت الدول اتفاق باريس للمناخ عام 2015 بهدف الحد من الاحترار العالمي إلى أقل من درجتين مئويتين. لكن التزامات الدول ما زالت دون المطلوب، كما أن الانسحاب أو التباطؤ من بعض القوى الكبرى يُهدد المسار العالمي بأكمله.
المطلوب اليوم ليس تعهدات بل تنفيذ صارم، وتمويل حقيقي، وتحفيز للقطاع الخاص نحو الإنتاج المستدام.
أكبر تهديد للبشرية اليوم هو التردد، فكل عام يضيع دون تغيير جذري، يُقربنا من نقطة اللاعودة. لا نحتاج إلى بطولات من قادة العالم، بل إلى التزام جماعي صادق من كل فرد على هذا الكوكب.
خاتمة: التغير المناخي… اختبار الوعي العالمي
التغير المناخي ليس فقط أزمة بيئية، بل لحظة فاصلة في تاريخ البشرية، تضعنا أمام سؤال: هل نستحق البقاء؟ وهل نمتلك الشجاعة لتغيير نمط حضارتنا قبل فوات الأوان؟ إن مستقبل الأجيال القادمة يُصاغ الآن، وما نقرره اليوم سيشكّل مصير الأرض لمئات السنين القادمة.
لقد حان وقت الانتقال من العجز إلى الفعل، من الإنكار إلى الاعتراف، ومن الخطابات إلى السياسات. نحن لا نحمي الأرض فقط، بل نحمي أنفسنا وأبناءنا من مصير مجهول.
انتظرونا في المرة القادمة: الخطر الثالث – الذكاء الاصطناعي غير المنضبط: التقنية حين تتجاوز الإنسان
أحسنتم تقرير مفيد و رائع غطى جوانب عديدة ويتسم بالشمولية، وهو مو المواضيع العصرية التي يجب الإنتباه لها ولما تشير الية من مخاطر ودلالات عن تلك المخاطر
كل الشكر لك الاستاذ معمر كان الله في عون الاجيال القادمة 🙏🌹🌹🌹