منذ أن تحوّلت الماركسية من أداة لفهم العالم إلى وسيلة لتغييره، ظلّ سؤال التنظيم يحتل موقع القلب في المشروع الثوري. فالثورة لا تنفجر من تلقاء ذاتها، بل تُصاغ عبر صيرورة اجتماعية واعية، تتطلب أداة سياسية قادرة على تمثل تناقضات الواقع وتوجيه الصراع. وهنا بزغ مفهوم الحزب الطليعي، باعتباره تعبيرًا عن وعي الطبقة العاملة المتجاوز لوعيها التلقائي، وآلية انتقالها من “طبقة في ذاتها” إلى “طبقة لذاتها”. غير أن هذا النموذج، الذي مثل قفزة نوعية في تاريخ الحركات الثورية، سرعان ما انقلب إلى نقيضه: من طليعة تقود الجماهير، إلى بيروقراطية تعزل ذاتها عنها؛ ومن انضباط ثوري، إلى انغلاق سلطوي.
إن أزمة التنظيم داخل اليسار الماركسي ليست طارئة أو ظرفية، بل هي نتاج تاريخي لتناقضات فكرية وسياسية تراكمت عبر عقود، ودفعت الحركات الثورية إلى مفترق طرق: إما إعادة إنتاج أشكال تنظيمية فقدت شرعيتها وجدواها، أو المجازفة بصياغة بدائل تنظيمية لم تُختبر بعد.
الجذور الفكرية
حين كتب لينين “ما العمل؟”، كان يستجيب لحالة من التشظي والفوضى في أوساط الحركة الاشتراكية الروسية. لم يكن طرحه لمفهوم الحزب المركزي المنضبط مجرد مسألة تنظيمية، بل تعبيرًا عن رؤية جدلية للعلاقة بين الوعي والممارسة، تقوم على ضرورة تجاوز التلقائية عبر بناء طليعة مثقفة ومنظمة.
لكن هذا النموذج، عند تعميمه خارج سياقه التاريخي والاجتماعي، وعندما تحوّل إلى بنية مغلقة تتغذى على المركزية المفرطة وتخضع للحسابات السلطوية، فقد طابعه التحرري. فانقلب الحزب من أداة للانعتاق الطبقي إلى جهاز ضبط، ومن طليعة قائدة إلى سلطة تقطع صلتها بالحركة الاجتماعية.
في هذا الإطار، لا تكمن الأزمة التنظيمية في شكل الحزب فحسب، بل في تصور دوره ووظيفته: هل هو أداة لبلورة الصراع الطبقي وتطويره؟ أم جهاز لإدارته وفق منطق فوقي؟ حين ينفصل التنظيم عن دينامية الجماهير، يفقد فعاليته الثورية ويتحول إلى طائفة مغلقة، ويغدو الانضباط وسيلة للجم الحيوية السياسية بدلًا من إطلاقها.
سردية التجربة: من الثورة إلى التكلس
شهدت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية تحوّلاً جذريًا في بنية التنظيمات الشيوعية، التي اندمجت في المسارات البرلمانية والنقابية ضمن أنظمة رأسمالية ليبرالية. وقد أتى هذا التحول على حساب الفاعلية الثورية، فتحولت الأحزاب إلى أجهزة إدماج اجتماعي، لا أدوات صراع طبقي. ثم جاء “اليسار الجديد” في الستينيات والسبعينيات، رافعًا شعار التنظيم الأفقي والديمقراطية القاعدية. لكنه، رغم راديكاليته النقدية، فشل في بناء بديل تنظيمي مستقر، بسبب افتقاره للبنية النظرية والتماسك التنظيمي.
هكذا بقيت الحركات اليسارية تتأرجح بين نموذج طليعي بيروقراطي يُفرغ الحركة من مضمونها، ونموذج عفوي هشّ يفتقر للاستمرارية. كلا الخيارين أثبت عجزه عن تأطير الصراع الطبقي بشكل فعّال.
الحركات الجديدة: الجماهير خارج البنية
أبرزت انتفاضات العقدين الأخيرين — من الثورات العربية، إلى حركات الاحتجاج في أمريكا اللاتينية وأوروبا — بروز شكل جديد من التعبئة الاجتماعية، غالبًا خارج الأطر الحزبية والنقابية التقليدية. هذه الحركات عبّرت عن غضب شعبي واسع، لكنها افتقرت إلى أفق سياسي وتنظيمي واضح، ما جعلها عُرضة للاحتواء أو الانكفاء.
لماذا لم تلتف الجماهير حول التنظيمات اليسارية؟ لأن هذه التنظيمات غالبًا ما بدت متخشبة، معزولة، فاقدة للتماهي مع نبض الشارع. من جهة أخرى، فإن العفوية الجماهيرية، رغم صدقيتها، لا تكفي لبناء بديل تاريخي، إذ أن غياب البنية يُضعف القدرة على الفعل الاستراتيجي.
نحو مفهوم جديد للتنظيم
ليست الحاجة إلى تجديد التنظيم الماركسي نابعة فقط من التحولات الخارجية التي طرأت على البنية الاجتماعية والسياسية، بل من ضرورة داخلية ملحّة لإعادة تعريف العلاقة بين الوسيلة والغاية. فبين نموذج حزبي مركزي يستند إلى رؤية هرمية مغلقة، وشكل عفوي لا يتجاوز حدود التعبير الغاضب، تقف الحركات اليسارية أمام لحظة تاريخية تتطلب قفزة نوعية في التصور والممارسة. هذا التنظيم المنشود لا يمكن أن يُبنى على تكرار أشكال سابقة، بل يجب أن ينبثق من تحليل مادي ملموس للواقع الراهن، ويدمج التزامًا نظريًا صارمًا مع انفتاح سياسي واستراتيجي.
الرهان الأساسي هو إنتاج تنظيم يشكّل امتدادًا حيًا لصراع الطبقات، لا جهازًا منفصلًا عنها. وهذا يعني أولًا تجاوز اختزال التنظيم في البنية الفوقية، والتعامل معه بوصفه سيرورة داخل الحقل الاجتماعي، تتفاعل مع السياق وتتطوّر عبره. فالتركيز على الديمقراطية الداخلية ليس ترفًا تنظيميًا، بل ضرورة استراتيجية تمنع التحول إلى بنية مغلقة تستهلك طاقتها في إعادة إنتاج ذاتها. الشفافية والمساءلة لا تُمارسان بعد حدوث الأزمة، بل تُدمَج في البنية ذاتها منذ لحظة التأسيس، كضمانة ضد البيروقراطية والانفصال عن القواعد. إن التنظيم الحيّ هو الذي يُنتج المعرفة بشكل جماعي، ويصوغ برنامجه من خلال الاحتكاك المستمر بالحركات الاجتماعية، لا من خلال توجيهات فوقية معزولة.
لكن في المقابل، لا يكفي الانفتاح وحده لصياغة مشروع ثوري. فالتنظيم يجب أن يحتفظ بوضوح نظري يُمكّنه من قراءة التناقضات الأساسية، دون الوقوع في النسبية السياسية. هذه المعادلة، أي التوازن بين الانضباط والانفتاح، بين القيادة الجماعية والتنوع الداخلي، لا تُحل عبر صيغ جاهزة، بل عبر ممارسة مستمرة لتجاوز الثنائيات الخادعة التي طالما شلّت اليسار: مركزية/عفوية، طليعة/جماهير، تنظير/ممارسة.
من هنا، فإن التنظيم الماركسي في صيغته الجديدة ليس شكلًا محددًا سلفًا، بل مشروع مفتوح لإعادة ابتكار السياسة، يتطور مع الصراع، ويتغذى من التجربة، ويصوغ نفسه كأداة جماعية للتحرر، لا كسلطة بديلة.
من الحزب إلى الجبهة: إعادة تعريف التنظيم
التحولات التي شهدتها البنى السياسية في العقود الأخيرة، بما في ذلك تراجع الثقة في الأحزاب الكلاسيكية وصعود الحركات الاحتجاجية المتناثرة، دفعت العديد من القوى التقدمية إلى التفكير في صيغ أوسع وأكثر مرونة للتنظيم. ومن هنا برزت فكرة “الجبهة” كبديل قابل للحياة، لا يقوم على الانصهار الكامل بين التيارات، بل على التنسيق والتفاعل ضمن أفق مشترك. لكن هذا الشكل، على أهميته، لا يُعوّل عليه في ذاته، بل في قدرته على توفير أرضية خصبة لصياغة مشروع تحرري جماعي.
إن الجبهة لا تعني التسوية السياسية مع التيارات المترددة أو المتصالحة مع النظام القائم، بل تمثل محاولة لبناء وحدة نضالية متجذرة، تُعطي الأولوية لتحالف قوى يسارية ماركسية تشترك في رؤية نقدية للنيوليبرالية والطائفية والفساد والتبعية وتسعى إلى تجاوزها. هذه الجبهة لا تذيب الخصوصيات الفكرية، لكنها تُؤسس لإمكانية العمل المشترك في إطار من التعدد والوضوح الطبقي، بما يوفّر إمكانًا حقيقيًا لتوسيع قاعدة الفعل الثوري ورفع سوية التنسيق الميداني والنقاش السياسي.
من هذا المنظور، فإن الحديث عن الجبهة ليس دعوة عشوائية إلى التجمّع، بل مقترح استراتيجي يحتاج إلى تفصيل نقدي لاحق، يطال شروط تشكّلها، معاييرها، وهياكلها، بما يضمن عدم تحوّلها إلى غطاء لتنازلات نظرية أو ميدان لتحالفات عبثية. سيكون هذا محور مقال تفصيلي لاحق، نتناول فيه الشروط المادية والسياسية لبناء جبهة يسارية ماركسية في السياقات العربية والعالمية، بوصفها إطارًا لتجديد الفعل الثوري لا بديلاً عنه.
خاتمة
أزمة التنظيم في اليسار الماركسي ليست سوى مرآة لأزمة أعمق تطال العلاقة بين الفكر والواقع، بين الحلم الثوري وتعقيدات الحاضر. لكن هذه الأزمة لا تعني النهاية، بل ضرورة إعادة التأسيس. اليسار الذي يريد تغيير العالم لا يمكنه أن يبقى سجين الماضي، ولا أن يتماهى مع الحركات دون وعي تنظيمي.
إن التنظيم الثوري اليوم يجب أن يكون أفقًا حيًّا، قادرًا على استيعاب التعددية دون التفريط بالبوصلة الطبقية؛ تنظيماً لا يعلو على الجماهير، بل ينبثق منها ويُعيد صياغتها. في زمن التحولات الكبرى، لا بد لليسار أن يعيد ابتكار ذاته، مسلّحًا بتجاربه، متجاوزًا إخفاقاته، نحو شكل تنظيم يليق بعالم يولد في رحم الأزمة.