الإمبريالية، في جوهرها، ليست مجرد طموح سياسي للسيطرة أو التوسع، بل هي نتاج مباشر لبنية اقتصادية عالمية تمرّ بمرحلة تَشَبُّع داخلي، فتسعى للخروج نحو الخارج للبحث عن مجالات جديدة لتوسيع نفوذها. عندما تصل الرأسمالية إلى مرحلة من التمركز، حيث تسيطر قلة من الشركات والاحتكارات على الجزء الأكبر من الإنتاج والمال، تصبح الأسواق المحلية غير كافية لاستيعاب الفوائض المتراكمة. وهنا تظهر الحاجة إلى التوسع، ليس فقط لتصريف السلع، بل لتصدير رأس المال نفسه، واستثمار الفوائض في مناطق أقل تطورًا اقتصاديًا. هذا ما يفسر لماذا تكون الحروب – في كثير من الأحيان – انعكاسًا للتناقضات البنيوية التي تعيشها الرأسمالية في مراحل التمركز والاحتكار، حيث تُسهم في تسريع الصراع الطبقي عبر توسيع الهامش بين النخب المتحكّمة والجماهير المُقصاة من القرار السياسي والاقتصادي.
هذا التوسع لا يتم بوسائل سلمية دائمًا، بل غالبًا ما يكون مصحوبًا باستخدام القوة، سواء بشكل مباشر من خلال التدخل العسكري، أو بشكل غير مباشر عبر خلق التبعيات الاقتصادية والسياسية. بمعنى آخر، الإمبريالية ليست اختيارًا سياسيًا، بل ضرورة نابعة من منطق التراكم الرأسمالي نفسه.
في هذا السياق، لا يمكن النظر إلى الصراع بين إيران وإسرائيل كصدام بين “ممانعة” و”احتلال”، أو بين مشروع ديني رجعي وآخر علماني تقدمي، بل يجب فهمه كصراع نفوذ بين نظامين يعملان ضمن منطق الإمبريالية الحديثة، وإن اختلفت أدوات كلٍّ منهما. فكل من طهران وتل أبيب يسعيان إلى توسيع مجالهما الحيوي، لا لأسباب أخلاقية أو دينية بحتة، بل لحماية مصالح نخب اقتصادية-أمنية حاكمة، تسعى إلى السيطرة على الموارد، الطرق التجارية، والمجالات الجيوسياسية الحيوية.
إنّ ما يُقدَّم غالبًا في الخطاب السياسي على أنه “صراع حضارات” أو “صراع عقائدي”، هو في الواقع تجلٍّ لصراعات بين مصالح طبقية عابرة للحدود. فالحروب ليست ناتجة عن اختلاف الأديان أو الثقافات، بل عن تشابك مصالح بين مراكز احتكار عالمي، تسعى إلى إعادة تقسيم النفوذ في المنطقة بما يخدم تراكم رأس المال وتعزيز سلطة النخب المرتبطة به.
من هنا، فإن فهم الإمبريالية كمحصلة لتطور اقتصادي داخلي، يُظهر أن كل من إيران وإسرائيل لا تختلفان من حيث البنية العميقة: كلاهما يعتمدان على عسكرة الاقتصاد، استخدام الدين في تبرير التدخل الخارجي، وتهميش الطبقات الشعبية من خلال تصدير الأزمات نحو “العدو الخارجي”.
إيران – الثيوقراطية البيروقراطية ونزعة الاستعادة الإمبراطورية
منذ نشأته، لم يكن النظام السياسي الإيراني القائم بعد 1979 مجرد تعبير عن ثورة شعبية ضد الاستبداد، بل تحوّل سريعًا إلى نموذج معقّد من الثيوقراطية البيروقراطية، حيث تداخل الدين مع مؤسسات الدولة لتشكيل بنية سلطوية قائمة على تحالف بين رجال الدين والبيروقراطية العسكرية-الأمنية. هذه البنية لم تُنتج دولة دينية فقط، بل جهازًا أيديولوجيًا متماسكًا يسعى إلى السيطرة على الداخل وتوسيع النفوذ في الخارج.
الهيكل الحاكم في إيران يتكوّن من تحالف طبقي غير معلن: كبار رجال الدين، الحرس الثوري، وشبكات اقتصادية وشبه اقتصادية تسيطر على قطاعات حيوية من الاقتصاد الإيراني. هؤلاء يشكّلون طبقة بيروقراطية-عقائدية تستخدم الخطاب الديني كأداة سياسية، وتُعيد إنتاج السلطة عبر المزج بين القمع الداخلي، والتمدّد الخارجي باسم “نصرة المستضعفين”.
لا تكتفي هذه الطبقة الحاكمة بإحكام قبضتها على الداخل الإيراني، بل تتبنّى مشروعًا توسعيًا في الإقليم، يستند إلى رؤية استعلائية تستدعي أمجاد الإمبراطورية الفارسية، ولكن تحت غلاف مذهبي شيعي. فالتدخل في العراق، سوريا، لبنان، واليمن، لا يعبّر فقط عن طموحات عقائدية، بل يكشف عن استراتيجية مدروسة لخلق “نطاق نفوذ” يخدم مصالح النظام في صراعاته الدولية والإقليمية.
الملفت أن هذا التوسع يتم عبر وكلاء محليين – ميليشيات، جماعات مسلحة، أحزاب دينية – تحمل الطابع الشيعي ظاهريًا، لكنها في جوهرها أدوات وظيفية تُستخدم لتحقيق أهداف طهران الأمنية والاقتصادية. هذه الجماعات غالبًا ما تُنتج شبكات ولاء عابرة للدولة، تُضعف الهياكل الوطنية، وتؤسس لحالة من اللااستقرار الدائم، ما يسمح لطهران بالحفاظ على دورها كلاعب محوري في معادلات المنطقة.
في المقابل، تُستخدم “المواجهة مع الاستكبار العالمي” كشعار داخلي لتبرير الأزمات الاقتصادية، القمع السياسي، وتقييد الحريات. يصبح العدو الخارجي وسيلة لتفريغ التناقضات الطبقية والاجتماعية، وتحويل النقمة الشعبية إلى شعور قومي/مذهبي عابر للطبقة. وهكذا، تُوظَّف المظلومية الشيعية لا لإحداث تغيير اجتماعي، بل لإعادة إنتاج السلطة ذاتها، ضمن قالب ديني يُضفي طابعًا مقدسًا على مشروع إمبريالي توسعي.
يمتد هذا المنطق ليشمل البنية الاقتصادية أيضًا، إذ يقوم جزء كبير من الاقتصاد الإيراني على الريعية المرتبطة بالحرب: عقود إعادة الإعمار، تجارة السلاح، شبكات تهريب تعمل تحت حماية الميليشيات، واستثمارات تابعة للمؤسسات المرتبطة بالحرس الثوري. هذا الاقتصاد لا يعيد بناء المجتمعات، بل يُرسخ الفوضى ويحولها إلى نمط دائم من الإنتاج السياسي والاقتصادي.
في المحصلة، فإن ما يُسوَّق بوصفه “ثورة إسلامية” هو في الواقع مشروع سلطوي بيروقراطي ديني، يعمل على قمع الداخل الإيراني، وتوسيع النفوذ خارجه عبر أدوات مذهبية، تُخفي مصالح طبقية واقتصادية شديدة الترابط. وهكذا، يتّضح أن جوهر النظام الإيراني ليس التحرر، بل التوسّع الإمبريالي المقنّع بلبوس ديني.
إسرائيل – ثيوقراطية ليبرالية أم ديمقراطية استعمارية؟
في السردية الغربية السائدة، تُقدَّم إسرائيل باعتبارها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، نموذجًا ليبراليًا متقدّمًا وسط محيط استبدادي. غير أن هذا التصوير يتجاهل تمامًا الطابع العميق لنشأة الدولة الإسرائيلية ككيان استيطاني-ديني، تأسس على منطق الإقصاء العرقي والامتياز الديني. فالديمقراطية الإسرائيلية ليست ديمقراطية للجميع، بل نظامًا إثنوقراطيًا يفصل بين مواطنين من الدرجة الأولى (اليهود) والباقين، ممن يُنظر إليهم كتهديد ديموغرافي وأمني دائم.
رغم أن النظام السياسي الإسرائيلي يبدو علمانيًا ظاهريًا، إلا أن بنيته الأيديولوجية تقوم على تصور ديني عميق: “أرض الميعاد”، “الشعب المختار”، “الوعد الإلهي”، وهي مفاهيم تحكم العقل السياسي الإسرائيلي وتترجم إلى سياسات عملية، تبدأ من التهويد القسري وتنتهي بالقصف المنهجي للمناطق المدنية باسم “حق الدفاع عن النفس”. هذه الثيوقراطية لا تُمارَس على مستوى المؤسسات الدينية فقط، بل تتسرّب إلى القوانين، التخطيط العمراني، التوزيع السكاني، وحتى السياسة الخارجية.
فإسرائيل لا تفصل بين الدين والسياسة، بل توظف الدين كبنية تحتية لتبرير المشروع الاستيطاني. وقد تحوّلت “الديمقراطية” الإسرائيلية إلى غطاء قانوني لهيمنة طبقة برجوازية-عسكرية تعتمد على رأس المال التكنولوجي والأمني، وتعيد إنتاج التفوق الإثني من خلال عسكرة المجتمع وقوننة التمييز.
الوجود الإسرائيلي ليس حالة مستقرة بقدر ما هو مشروع توسعي دائم. فالمشروع الصهيوني، منذ بداياته، لم يكتفِ بإقامة دولة، بل ارتبط بفكرة التوسع الجغرافي والاجتماعي – أي “خلق وقائع على الأرض” من خلال الاستيطان، هدم المنازل، طرد السكان الأصليين، وإنشاء نظام من التفرقة البنيوية.
الحرب، بالنسبة لإسرائيل، ليست حالة طارئة، بل آلية عمل مستمرة تهدف إلى تفريغ الأرض من أهلها، وتجذير الاحتلال كأمر واقع. وبالتالي، فإن إسرائيل تمارس استعمارًا كولونياليًا كلاسيكيًا، تحوّل مع الزمن إلى استعمار عسكري-تكنولوجي مدعوم من الرأسمالية العالمية. فالتفوق الإسرائيلي لا يُبنى فقط على القوة العسكرية، بل على الاندماج العضوي في النظام الإمبريالي العالمي، حيث تُعدّ “مخفرًا متقدّمًا” لحماية المصالح الغربية في الشرق الأوسط.
مثل إيران، لا تُدار إسرائيل من قبل كتلة شعبية، بل من قبل تحالف طبقي ضيّق: طبقة من أصحاب رؤوس الأموال، نخبة أمنية-عسكرية، وتكتلات تكنولوجية-مالية مرتبطة بمراكز المال العالمية. هذا التحالف يُعيد إنتاج ذاته عبر منظومة تعليمية، إعلامية، وأمنية تُطوّع الرأي العام، وتُحول الديمقراطية إلى أداة تحكم نخبوي، تستثني الفلسطينيين من أي أفق سياسي حقيقي.
أما “التهديد الإيراني”، فيُستخدم داخل الخطاب الإسرائيلي كأداة تعبئة دائمة، تُبرر عسكرة الدولة، زيادة الموازنات الأمنية، وتقييد الحريات باسم الأمن القومي. وفي الوقت ذاته، تستفيد الطبقة الحاكمة من استمرار الصراع لتأجيل أي مساءلة داخلية، خصوصًا فيما يتعلق بقضايا الفساد، الفجوة الطبقية، وتضييق مساحة النقد السياسي.
إسرائيل، بهذا المعنى، ليست ديمقراطية بالمفهوم الجوهري للكلمة، بل ثيوقراطية ليبرالية هجينة، تمزج بين مظهر حداثي ومضمون ديني عنيف. هي دولة تؤمن بالقانون، فقط عندما يخدم مشروعها الاستعماري. تؤمن بالعلمانية، فقط حين تُستخدم كأداة تفوّق إثني. وتؤمن بالسلام، فقط حين يعني استسلام الآخر.
وبذلك، تتشابه إسرائيل مع إيران من حيث الجوهر: كلاهما يستخدم الدين كمصدر شرعية، ويؤسّس نظامًا استبداديًا مقنّعًا، يقوم على عسكرة المجتمع، اقتصاد النخبة، والسيطرة على الفضاء الإقليمي باسم الحق الإلهي أو العقائدي.
جوهر الصراع – تشابه بنيوي خلف عداء معلن
رغم أن إيران وإسرائيل تُقدَّمان كعدوين لدودين، إلا أن نظرة تحليلية عميقة تُظهر أن ما يجمع النظامين أكثر مما يفرّق بينهما. فخلف العداء الإعلامي والسياسي المتبادل، يقف نظامان متشابهان من حيث البنية العقائدية، الطموحات الإقليمية، وآليات الحكم القائمة على القمع، التوسّع، وتهميش الشعوب.
كل من إيران وإسرائيل يستخدم الدين لا باعتباره مسألة روحية أو إيمانية، بل كأداة لإضفاء شرعية على مشاريع سياسية واقتصادية تمثل مصالح نخبة ضيقة. ففي طهران، يُستخدم مفهوم “الولاية” لتكريس سلطة رجال الدين وتحويلهم إلى وكلاء حصريين للشرعية السياسية. أما في تل أبيب، فيُستدعى “الوعد الإلهي” و”الحق التاريخي” لتبرير الاستيطان والتهويد والسيطرة على الأرض.
الدين في هذين السياقين لا يُحرر الإنسان، بل يُطوّع ليخدم دولة تسعى إلى السيطرة والهيمنة. إنه دين الدولة، لا دين الناس؛ غطاء مقدّس لمشاريع إمبريالية تتخفى خلف عباءة العقيدة، فيما هي في الواقع تعبّر عن منطق القوة والسيطرة وإعادة إنتاج النفوذ.
النظامان، رغم اختلاف خلفياتهما المذهبية، يعتمدان على اقتصاد موجَّه لخدمة نخب متحكّمة. في إيران، تتمركز السلطة الاقتصادية بيد الحرس الثوري والمؤسسات الدينية وشبكات تجارية مرتبطة بها، وتُستخدم الثروات في تمويل جماعات مسلحة وتدخلات خارجية. في إسرائيل، يهيمن تحالف من الشركات التكنولوجية، الصناعات الأمنية، والنخبة المالية، على مفاصل الدولة، ويعيد إنتاج الثروة على حساب الفئات المهمشة داخل المجتمع، وبالطبع على حساب الفلسطينيين تحت الاحتلال.
في كلا الحالتين، يتحوّل الأمن إلى أولوية مطلقة، ويُعسكر المجتمع. الجيوش والميليشيات، السجون والمحاكم، الإعلام الرسمي وأجهزة الرقابة، كلها تُستخدم لضبط الداخل وضمان الولاء، بينما يُقدَّم الخارج دائمًا بوصفه تهديدًا يستدعي المزيد من الطاعة والقمع الداخلي.
واحدة من أخطر التحولات البنيوية في الصراع مع المشروع الصهيوني حدثت بعد الثورة الإيرانية وصعود المد الديني في المنطقة. ففي السابق، كانت غالبية القوى السياسية المواجهة لإسرائيل ذات طابع يساري أو قومي تقدمي، تنظر إلى الصراع من زاوية تحرر وطني واجتماعي، تربطه بالعدالة الطبقية والتحرر من الاستعمار.
لكن هذا المسار تم تقويضه على مراحل، خصوصًا بعد عام 1979، حين بدأت إيران – عبر تحالفاتها وتمويلها لوكلاء دينيين في المنطقة – بإقصاء الحركات اليسارية من ساحة النضال الفلسطيني والعربي. جرى ذلك إما عبر القمع المباشر، أو عبر التصفية السياسية والأمنية، أو من خلال تشويه الخطاب اليساري وتحويل “الممانعة” إلى حكر مذهبي. ولعبت الولايات المتحدة والغرب دورًا غير مباشر في هذا التحول، حين دعمت الإسلام السياسي في مواجهة المد الشيوعي في إطار الحرب الباردة، ما مهّد الطريق لاحتكار الإسلام السياسي لساحة الصراع مع إسرائيل.
النتيجة أن المقاومة فقدت طابعها الشعبي والتحرري، وتحولت إلى مشروع مذهبي مؤطر يخدم السردية الإيرانية من جهة، والسردية الإسرائيلية من جهة أخرى. إيران تُقدّم نفسها كحامية للمقدسات الإسلامية، بينما إسرائيل تُعزّز روايتها بأن الصراع “ديني وجودي”، لا سياسي استعماري، ما يتيح لها شرعنة الاستيطان والعنف بوصفه “دفاعًا عن الذات” أمام “إرهاب عقائدي”.
الأيديولوجيا التوسعية حاضرة في خطاب كلٍّ من النظامين. إيران تبرّر تدخلاتها في بلدان الجوار باسم “دعم المستضعفين”، لكنها في الحقيقة تُكرّس شبكات ولاء طائفي تعمّق الانقسام الداخلي وتُفرغ المجتمعات من قدرتها على الفعل السياسي المستقل. أما إسرائيل، فتُمارس استعمارًا مباشرًا، وتحاول إعادة تشكيل الجغرافيا والسكان على أساس إثني-ديني، باسم الدفاع عن النفس وضمان “أمن الدولة اليهودية”.
كلا المشروعين لا يهدفان إلى التحرير، بل إلى السيطرة: طهران تسعى إلى بناء هلال نفوذ يربط طهران بالمتوسط، وتل أبيب تسعى إلى تطبيع احتلالها ضمن شرعية دولية. وكلاهما يستخدم العدو المفترض الآخر كأداة لبناء سردية وجوده: فوجود “إسرائيل” ضروري لبقاء النظام الإيراني بوصفه حصن “المقاومة”، ووجود “إيران” ضروري لبقاء إسرائيل بوصفها “القلعة الديمقراطية” في مواجهة الخطر الشيعي. كلاهما يستخدم العدو المفترض الآخر كأداة لبناء سردية وجوده: فوجود “إسرائيل” ضروري لبقاء النظام الإيراني بوصفه حصن “المقاومة”، ووجود “إيران” ضروري لبقاء إسرائيل بوصفها “القلعة الديمقراطية” في مواجهة الخطر الشيعي.
من هذا المنظور، فإن الحروب التي تُخاض باسم الدفاع عن القيم أو حماية المقدسات ليست سوى وسائل تعيد إنتاج منطق الهيمنة وتوزيع النفوذ بين القوى الكبرى. فكما أشار التحليل الماركسي في نقده المبكر للطابع البراغماتي للحروب الحديثة، فإن الشعارات القومية والدينية كثيرًا ما تُستخدم لتبرير صراعات تُخاض لمصلحة النخب المسيطرة، لا الجماهير. وما يُقدَّم كحروب تحرر، لا يعدو أن يكون إعادة ترتيب للمصالح والأسواق ضمن منطق التنافس الإمبريالي.
ما يغيب كليًا في هذا الصراع هو صوت الشعوب. لا الشعب الإيراني، ولا الشعب الفلسطيني، ولا شعوب الدول التي تشهد التمدد الإيراني (العراق، سوريا، لبنان، اليمن) تمتلك موقعًا فاعلًا في القرار. فالسلطة في كلا الحالتين تُصاغ على حساب الداخل، وتُقصي الجماهير من إمكان تقرير مصيرها، سواء عبر القمع المباشر أو من خلال تزييف الوعي بخطابات دينية وقومية تعبويّة.
وفي العراق بشكل خاص، شكّلت انتفاضة تشرين 2019 لحظة فارقة حين خرجت الجماهير مطالبة بإسقاط منظومة الطائفية والفساد والهيمنة الخارجية. غير أن هذه الحركة قوبلت بعنف ممنهج من قِبَل ميليشيات مرتبطة بطهران، استخدمت أدوات القمع القصوى – من الرصاص الحي إلى الاغتيالات والخطف – لإخماد أي إمكانية لولادة مشروع وطني ديمقراطي مستقل.
المفارقة أن بعض التيارات التي ترفع شعارات اليسار أو النضال الأممي تتورط، عن وعي أو من دون وعي، في مواقف تبريرية تُضفي شرعية على أنظمة قمعية واستبدادية تحت ذريعة “المعركة الكبرى ضد الإمبريالية”. ويتم اختزال الصراع في ثنائية تبسيطية: إما الاصطفاف مع “محور المقاومة” مهما كانت طبيعته السلطوية والدينية، أو الاتهام بالتحالف مع الإمبريالية. هذا التموقع يُنتج ازدواجية خطيرة في الخطاب الثوري، حيث يُشرعن القمع الداخلي طالما أن النظام الحاكم يرفع شعارات العداء لإسرائيل أو الولايات المتحدة، متجاهلين أن الأنظمة التي تسحق شعوبها لا يمكن أن تساهم في أي مشروع تحرري فعلي.
ويُعزى هذا المأزق الفكري إلى عاملين مترابطين: أولًا، بقاء التصوّر التقليدي للصراع العربي-الإسرائيلي راسخًا في الذهن السياسي، رغم التحوّل البنيوي في طبيعة هذا الصراع. فقد انتقل من مواجهة بين قوى تحررية – يسارية وقومية – ومشروع استيطاني إمبريالي، إلى تنافس بين مشروعين رجعيين يوظفان الدين والمظلومية الطائفية لتعزيز الهيمنة؛ وهو تحول لم يكن طبيعيًا أو تلقائيًا، بل جاء نتيجة مباشرة لعمليات قمع وتصفية ممنهجة نفذتها أطراف ما يُعرف بمحور “الممانعة”، بهدف إقصاء المشروع التحرري وتجريف ساحات النضال من أي مضمون طبقي أو وطني جامع. لقد استُخدم العنف السياسي والإرهاب الداخلي لإقصاء الأصوات اليسارية والقومية، وتمت إعادة هندسة الوعي الجماهيري ضمن سردية دينية/طائفية تُعيد تأطير الصراع مع إسرائيل بوصفه صراعًا عقائديًا، لا تحرريًا، ما خدم في النهاية كلا المشروعين السلطويين المتقابلين.
ثانيًا، تأثر قطاعات واسعة من الجمهور والنخب، بمن فيهم بعض المنتمين لليسار، بالبنية الثقافية الطائفية السائدة، ما أدى إلى إعادة تشكيل الوعي السياسي ضمن أطر دينية ومذهبية، بدلًا من التحليل الطبقي البنيوي للصراع. إن تعليق النضال التحرري والاجتماعي بذريعة “أولوية مواجهة العدو الخارجي” يُفضي إلى إعادة إنتاج منطق الهيمنة داخل المجتمعات، لا إلى تقويضه. فالمقاومة لا يمكن أن تُنتج من فوق، عبر نخبة سلطوية، بل من القاعدة الاجتماعية التي يُقصى صوتها في مثل هذه البُنى.
وما زالت أحداث اغتيال مهدي عامل وحسين مروة حاضرة في الذاكرة اليسارية، لا فقط بوصفها جرائم سياسية، بل كرموز لفصل دموي في مشروع تصفية اليسار العربي المقاوم. لقد اغتيل الاثنان – حاملَي الوعي النقدي والسلاح الفكري – برصاصات لم تستهدف أشخاصًا، بل ما يمثّلانه من فكر تحرري، ورفض للطائفية، وتَجذّر في معركة الوعي. ورغم هذا الإرث، لا يزال البعض يكرّر عبارات ممجوجة عن “الممانعة” دون أن يختبرها على ضوء الوقائع، متجاهلين أن مَن قُتلوا كانوا المقاومين الحقيقيين، وأن الرصاص الذي أسكتهم، لم يكن سوى أداة لتكريس الهيمنة الطائفية وإفراغ الساحة من أي صوت بديل. هكذا، تمّت تصفية المشروع التحرري لا فقط بالسلاح، بل بالخطاب، حيث صارت سردية “العدو الخارجي” تُستخدم لاغتيال الداخل فكريًا، وقمع أي إمكانية لاستعادة المقاومة كفعل تحرري لا كغطاء سلطوي.
وهكذا، يصبح ما يُقدَّم كمواجهة بين معسكرين متصارعين، هو في جوهره تقابلٌ بين نظامين يوظفان سرديات دينية وأدوات قمعية لخدمة بنية سلطة مغلقة تسعى لتأبيد السيطرة ومراكمة النفوذ على حساب الجماهير. أي أن الصراع لا يُدار لصالح الشعوب، بل فوق رؤوسها.
من هم الضحايا؟ التهميش المستمر للجماهير العربية
وسط الضجيج السياسي والإعلامي الذي يرافق الصراع بين إيران وإسرائيل، تتوارى الحقيقة الأهم: الشعوب، لا سيما الجماهير العربية، هي من تدفع الثمن الأكبر في هذا الاشتباك الممنهج. الصراع بين النظامين لا يُحرّر أرضًا ولا يُنقذ شعبًا، بل يُعيد إنتاج منظومة قمعية تُقصي الجماهير من أي دور تاريخي فاعل، وتحوّلها إلى أدوات أو وقود في معارك لا تخدم سوى نخبة سلطوية ضيقة.
القضية الفلسطينية، التي يُفترض أنها تمثّل مركز النضال ضد الاحتلال، أُفرغت من محتواها التحرري بفعل استراتيجيات التوظيف السياسي. إيران تتبنّى خطاب “نصرة فلسطين” ولكن لا من منطلق إنساني أو تحرري، بل كأداة لتعزيز نفوذها الإقليمي، وتحسين شروط تفاوضها مع الغرب. تُحوَّل فلسطين هنا إلى ورقة ضغط، لا إلى قضية تحرّر شعبي حقيقي. فالدعم الإيراني يتجه في معظمه إلى فصائل بعينها، تُستخدم سياسيًا لتثبيت صورة إيران كقوة “ممانعة”، بينما الواقع الميداني لا يتغير جوهريًا لصالح الفلسطينيين.
من الجهة الأخرى، تواصل إسرائيل سياساتها الاستعمارية من قمع واستيطان وقتل، متذرعة بـ”أمنها القومي”، بينما تُشرعن أفعالها أمام العالم تحت مظلة ديمقراطية زائفة. الشعب الفلسطيني في هذه المعادلة يُعامَل كمشكلة أمنية لدى إسرائيل، وكأداة رمزية لدى إيران، دون أن يكون له صوت مستقل أو مشروع تحرري ذاتي مدعوم خارج إطار التوظيف السياسي.
ما يُعرف بمحور المقاومة، الذي تهيمن عليه إيران، حول مناطق واسعة من العالم العربي إلى ساحات تصفية حسابات. في العراق، تُسهم الميليشيات الموالية لطهران في تفكيك الدولة، تقويض السيادة، وزرع الولاءات الطائفية على حساب المواطنة الجامعة. في سوريا، دعمت إيران نظامًا استبداديًا على مدى سنوات الحرب الأهلية، بذريعة “مواجهة الإرهاب”، لكنها فعليًا ساعدت في إبقاء السلطة السياسية الاستبدادية قائمة على حساب تضحيات ملايين السوريين. وفي لبنان، تُوظَّف مقاومة إسرائيل لفرض وصاية سياسية واجتماعية على الداخل اللبناني، تمنع تشكّل دولة عادلة، متوازنة، وخاضعة لمساءلة ديمقراطية. أما في اليمن، فقد تحوّل الصراع إلى استنزاف دائم لشعبٍ يُذبح باسم التحالفات الإقليمية، لا العدالة الاجتماعية.
في كل هذه الحالات، الشعوب العربية لا تُمنح الحق في تحديد مصيرها. يتم التحدث باسمها، استخدام دمها، توظيف معاناتها، بينما تُقصى عن القرار السياسي، ويُفرَض عليها واقع طائفي أو استعماري، بلا أفق للتحرر الوطني أو الاجتماعي.
ربما الأخطر من الدمار المادي هو تدمير الوعي. إذ يتم تزييف الواقع السياسي وتحويل الصراع إلى مسألة دينية أو قومية، تُلهي الناس عن سؤال العدالة والكرامة والحرية. تُفرَض ثنائيات زائفة: “ممانعة” أو “عمالة”، “مقاومة” أو “تطبيع”، في حين أن الفاعل الحقيقي – الشعب – يظل خارج المعادلة.
الخطاب السياسي في الجانبين يُشيطن الآخر، لكنه لا يُنتج أي بديل تحرري. بل يُستخدم لإعادة تدوير نفس البنى السلطوية، وتبرير استمرار القمع والفقر والانقسام الداخلي، وكأن العدو الخارجي يلغي الحاجة إلى العدالة الاجتماعية، الديمقراطية، والتنمية الحقيقية.
التحرر الحقيقي لا يمكن أن يكون نتاجًا لصراع بين ثيوقراطيات أو بين مشاريع إمبريالية تتنازع على النفوذ. لا القصف الإيراني يحرر القدس، ولا الاجتياح الإسرائيلي يصنع أمنًا. المطلوب هو وعي شعبي جديد، يخرج من أسر الاستقطاب الثنائي، ويرى في كل سلطة قمعية – مهما كانت شعاراتها – عدوًا للحرية.
الجماهير العربية ليست موضوعًا للصراع، بل يجب أن تكون فاعلًا رئيسيًا فيه، وأن تعيد بناء مشروع تحرري مستقل، يُقوّض بنى الاحتلال والطائفية والوصاية، ويستعيد المعنى الجوهري للنضال من أجل الكرامة والعدالة.
خاتمة: لا لـ”ممانعة” كاذبة، ولا لـ”ديمقراطية” كولونيالية – نعم للتحرر الطبقي
يقدَّم الصراع بين إيران وإسرائيل في الخطاب السياسي الشائع بوصفه مواجهة كبرى بين “محور المقاومة” و”محور الاحتلال”، بين من يدّعي حماية القدس ومن يدّعي الحق التاريخي فيها. غير أن هذا التصوير، وإن بدا مثيرًا وجدانيًا، يخفي وراءه تحالفات سلطوية وثيوقراطية تسعى كلٌّ منها إلى توسيع نفوذها ضمن بنية إقليمية مفككة، على حساب الشعوب، لا باسمها.
لقد أظهر التحليل البنيوي للصراع أن إيران وإسرائيل، رغم عدائهما الظاهري، يشتركان في جوهر سلطوي واحد: كلٌّ منهما يستخدم الدين كغطاء للهيمنة، يُقمع الداخل باسم الخطر الخارجي، ويُعاد إنتاج بنى طبقية مغلقة تتحالف فيها النخب الدينية أو الأمنية أو الاقتصادية ضد أي إمكانية لتحرر شعبي فعلي. “المقاومة” التي تقتل المنتفضين في بغداد ليست مقاومة. و”الديمقراطية” التي تُبنى على تجريف الأرض في غزة ليست ديمقراطية.
إن أخطر ما في هذه المعادلة ليس فقط العنف، بل إنتاج سردية كاذبة تمنع التفكير في بديل. فحين يتحوّل الصراع إلى مشهد مكرور من طقوس “الردع” و”الانتقام”، يُغتال الوعي الشعبي وتُختطف الحركة الجماهيرية لصالح وكلاء إقليميين أو دوليين، يبحث كلٌّ منهم عن “شرعية” جديدة فوق جماجم الشعوب.
في هذا السياق، فإن الموقف الماركسي الثوري لا يمكن أن يكون لا مع طهران ولا مع تل أبيب، بل مع الشعوب التي يُقصى صوتها، ويُقتل شبابها، وتُختزل قضاياها في خطاب عقائدي أو أمني. المطلوب اليوم ليس انحيازًا جيوسياسيًا، بل تفكيكًا جذريًا لبنى السلطة الطائفية والكولونيالية على حد سواء.
التحرر لا يأتي من قصف تل أبيب ولا من قصف دمشق، بل من كسر البنى الطائفية، تفكيك الاقتصاد الحربي، واستعادة السياسة من أيدي النخب الثيوقراطية. لا مقاومة حقيقية دون ديمقراطية داخلية، ولا كرامة وطنية دون عدالة اجتماعية. وكما قال ماركس: “تحرير الطبقة العاملة يجب أن يكون من صنع الطبقة العاملة نفسها“ – لا من صنع الحرس الثوري، ولا من صنع الجيش الإسرائيلي، ولا من وكلاء الإمبريالية في أي ثوبٍ أتوا.
التقييم لهذا المقال عالي ” ممتاز”
تحليل منطقي