الجماعات الإرهابية واستغلال الأمراض الفتاكة في إفريقيا

🖨️ طباعة هذه المقالة

في مناطق الصراع الهشة والمهمّشة من القارة الإفريقية، لم تعد الأمراض الفتاكة مجرد تحدٍ صحي، بل أصبحت سلاحًا بيد الجماعات الإرهابية، تُوظفها لإخضاع السكان، وابتزاز الحكومات، وبناء شرعية زائفة في عيون المجتمعات المحلية. من نيجيريا إلى جمهورية الكونغو، ومن الساحل إلى القرن الإفريقي، تتكرر ظاهرة خطيرة: تحول الدواء من أداة إنقاذ إلى ورقة ضغط في حرب النفوذ والتجنيد.

صحة تحت الحصار

في العديد من المناطق التي تنشط فيها جماعات مثل “بوكو حرام” و”داعش – غرب إفريقيا” و”الشباب” الصومالية، تتعمد هذه التنظيمات استهداف المنشآت الصحية، أو السيطرة عليها، لمنع وصول اللقاحات أو الأدوية للسكان إلا عبرها. في حالات أخرى، تمنع حملات التطعيم ضد أمراض مثل شلل الأطفال والملاريا، بزعم أنها “مؤامرات غربية”، فتساهم في تفشي الأوبئة، لتعود لاحقًا وتُقدّم “الحل” مقابل الولاء أو التجنيد أو جمع الضرائب.

وتكمن الخطورة في أن هذه الجماعات لا تستخدم الأمراض فقط كسلاح سلبي عبر نشرها أو عرقلة مكافحتها، بل أيضًا كأداة هيمنة، إذ تربط العلاج بالطاعة، وتحرم المخالفين من أبسط الحقوق الصحية، في مجتمع يعاني أصلًا من ضعف البنية التحتية الصحية ونقص الإمدادات الطبية.

المساعدات الإنسانية بين المطرقة والسندان

كثيرًا ما تجد المنظمات الدولية نفسها في مأزق: هل تفاوض هذه الجماعات لتوصيل اللقاحات والأدوية؟ أم تتمسك بمبادئها وترفض التعامل معها؟ في بعض الحالات، اضطرت منظمات إنسانية إلى تقديم تنازلات للسماح بدخول فرق طبية إلى مناطق محاصرة، بينما تعرضت في حالات أخرى للاختطاف أو القتل، ما جعل بعضها ينسحب تمامًا من تلك المناطق.
وفيما يلي بعض الأمثلة البارزة:

  1. عملية “شريان الحياة للسودان” (Operation Lifeline Sudan) – السودان (1989–2005)
    تُعد هذه العملية من أوائل النماذج التي تفاوضت فيها الأمم المتحدة مع كل من حكومة السودان وحركة التمرد “الجيش الشعبي لتحرير السودان” (SPLM/A) لتوصيل المساعدات الإنسانية إلى المدنيين في مناطق النزاع. تضمنت الاتفاقية التزامًا من جميع الأطراف بعدم عرقلة إيصال المساعدات، مما شكل سابقة في التعامل مع فاعلين غير حكوميين في النزاعات المسلحة.

  2. نيجيريا – بحيرة تشاد (2016–2018)
    في منطقة بحيرة تشاد، تمكنت منظمة “أطباء بلا حدود” من تقديم الرعاية الصحية في مناطق تسيطر عليها جماعات مسلحة مثل “بوكو حرام”، وذلك بعد مفاوضات مع السلطات المحلية والمجتمعات. رغم المخاطر الأمنية، نجحت الفرق الطبية في تقديم أكثر من 140,000 استشارة طبية وعلاج آلاف الحالات من الملاريا وسوء التغذية.

  3. الصومال – مشروع جالجادود (2006)
    في عام 2006، أطلقت “أطباء بلا حدود” مشروعًا إغاثيًا في منطقة جالجادود بالصومال، شمل تقديم المساعدات الغذائية والطبية. ورغم التحديات الأمنية، حصلت المنظمة على دعم من زعماء العشائر المحليين، مما سهل عملها في المنطقة.

  4. إثيوبيا – منطقة تيغراي (2021)
    خلال النزاع في منطقة تيغراي، عملت منظمات إنسانية مثل “USAID” و”CARE” مع “جمعية إغاثة تيغراي” (REST) لتوصيل المساعدات الغذائية والطبية. رغم التحديات، تمكنت هذه الجهود من الوصول إلى أكثر من مليون شخص شهريًا.

  5. جمهورية الكونغو الديمقراطية – توقيع التزامات إنسانية (2023)
    في عام 2023، وقّعت مجموعتان مسلحتان في شرق الكونغو على تعهدات في جنيف لاحترام وحماية المدنيين، بما في ذلك تسهيل الوصول إلى الرعاية الصحية. تم تنظيم هذه المبادرة من قبل منظمة “نداء جنيف” (Geneva Call) لتعزيز الالتزام بالقانون الإنساني الدولي.

تستفيد الجماعات المتطرفة من هذا الفراغ، فتملأه بخدمات بديلة، وتروّج لنفسها على أنها “حامٍ” للناس، في حين أنها السبب الحقيقي في تدهور أوضاعهم الصحية. وهكذا يتحول الدواء من حق إنساني إلى سلعة سياسية، والمريض من إنسان محتاج إلى ورقة تفاوض في ميدان المعارك غير المرئية.

بين الجائحة والإرهاب: دروس مستفادة من كوفيد-19

أثناء تفشي جائحة كورونا، ظهرت هذه الظاهرة بوضوح، فقد استغلّت بعض الجماعات حالة الفوضى لتعزيز خطابها ضد الحكومات، وهاجمت مراكز توزيع الكمامات واللقاحات، بل روجت عبر إعلامها لخطاب يقوم على نظرية المؤامرة يصوّر الفيروس كأداة غربية لإبادة المسلمين أو تغيير دينهم. وفي بعض المناطق، سيطرت على شحنات اللقاحات أو فرضت على السكان تلقيها بإشرافها، لا إشراف السلطات الرسمية.

الصحة كجبهة أمنية

لقد أصبح من الواضح أن محاربة الجماعات الإرهابية في إفريقيا لا تقتصر على المواجهة العسكرية، بل تشمل أيضًا حماية الأنظمة الصحية من الاستغلال. فالصحة العامة لم تعد فقط قضية إنسانية، بل تحوّلت إلى جبهة أمنية واستراتيجية. إذا تُرك الدواء كسلاح في أيدي المتطرفين، فإن المعركة على العقول والقلوب ستُحسم لصالحهم، ليس بالبندقية فقط، بل بالحبوب واللقاحات أيضًا.

مطلوب تدخل متعدد الأبعاد

لمواجهة هذا التحدي، يجب بناء شبكات صحية محصنة ومدعومة مجتمعيًا، وتدريب الكوادر المحلية على التعامل في البيئات عالية الخطورة، مع دعم جهود الاستخبارات والمجتمع المدني لرصد محاولات استغلال الأوبئة من قبل الجماعات الإرهابية. كما ينبغي تعزيز الثقة بين السكان والحكومات، فغياب الثقة هو ما يسمح لهذه الجماعات باختراق المجتمعات واستغلال آلامها.

إن تحويل الدواء إلى أداة حرب ليس مجرد انتهاك للقوانين الدولية، بل تهديد لمستقبل المجتمعات الإفريقية التي تحارب على جبهتين: المرض والإرهاب. ولعلّ الرد الحقيقي يبدأ من الاعتراف بأن الأمن لا يُبنى بالسلاح فقط، بل أيضًا بالعدالة الصحية والكرامة الإنسانية.

ما تقييمك لهذا المقال؟
⭐ متوسط التقييم: 3.71 من 5 (28 صوت)
📂 التصنيفات: اهم المقالات, تحليلات, مقالات

1 تعليق

  1. محمد عبدالحكيم - مايو 24, 2025 الساعة 6:57 م

    مقال في غاية الأهمية،، ونادرا ما يتم التطرق لهذا الموضوع في الصراعات والحروب
    حيث ان فكرة استغلال الوضع الصحي في الصراعات هي استراتيجية تنتهجها بعض الدول والميليشيات لصالحها… وفكرة التعامل مع الميليشيات المتطرفة من قبل المنظمات الدولية محل نقاش اخر فلسفي خاصة فيما يتعلق بمنظمة مثل منظمة الصليب الأحمر وغيرها
    شكرا استاذ معمر على هذا المقال الهام والرائع، ، وننتظر المزيد

أضف تعليقًا

الحقول المشار إليها بـ * إلزامية.