من أجل فهم تحوّل العلم إلى سلعة في إطار النظام الرأسمالي، لا بد من العودة إلى الأساس النظري الذي قدّمه كارل ماركس حول القيمة، والعمل، والإنتاج. فالتحليل الماركسي لا يتعامل مع الظواهر السطحية، بل يسعى إلى تفكيك البنية العميقة للعلاقات الاجتماعية التي تُنتج الظاهرة. ومن هنا، فإن تسليع المعرفة لا يُفهم كتحوّل تقني أو مؤسساتي، بل كبنية اقتصادية اجتماعية تُعيد إنتاج ذاتها من خلال السيطرة على العمل وتوجيه أدواته نحو التراكم الرأسمالي.
أهدف هنا إلى توضيح مفهوم “قيمة السلعة” كما طرحه ماركس، وإبراز كيفية تشكّل القيمة من خلال تداخل العمل الحي والعمل الميت، وهو ما سيكون أساسًا لفهم أعمق لاحقًا لكيفية إنتاج القيمة داخل الحقل المعرفي. وسنستخدم مثالًا توضيحيًا يتناول النجارين وأدوات عملهم، لنُبني عليه لاحقًا تحليلًا لوضعية الباحث والعالم في الاقتصاد القائم على المعرفة، وذلك في ضوء البنية الاجتماعية للإنتاج الرأسمالي.
من الخشبة إلى البراءة: كيف نفهم القيمة في النظام الرأسمالي؟
يفتتح ماركس كتابه رأس المال بتحليل مفهوم السلعة، باعتبارها الوحدة الأساسية التي يقوم عليها النظام الرأسمالي. لكنه لا يتعامل مع السلعة كشيء مادي فحسب، بل كعلاقة اجتماعية مشيّأة. فالسلع تحمل في ظاهرها شكلًا ماديًا بسيطًا، لكنها في جوهرها تكثيف للعمل البشري، وتُنتج داخل علاقات اجتماعية واقتصادية تهدف إلى تراكم رأس المال.
في هذا الإطار، تظهر مسألة القيمة بوصفها مركزية لفهم الرأسمالية: ما الذي يُعطي للسلعة قيمتها؟ وكيف تُحدد هذه القيمة؟ يقدّم ماركس إجابة تخالف ما ذهب إليه منظّرو الاقتصاد الكلاسيكيون (مثل سميث وريكاردو) الذين ربطوا القيمة بالمنفعة أو الندرة، مؤكّدًا أن القيمة التبادلية لا تُستمد من طبيعة الشيء أو ندرته، بل من كمية العمل الاجتماعي الضروري المبذول في إنتاجه. وهكذا تصبح السلعة حاملة لكمٍّ معين من الزمن الاجتماعي المجسد في صورة مادية، ما يجعلها أكثر من مجرد شيء قابل للتبادل، بل انعكاس لبنية اجتماعية محدّدة.
حالة النجار: العمل المباشر والعمل الاجتماعي المتراكم
لفهم هذا المفهوم بطريقة ملموسة، يمكن النظر إلى مثال بسيط لكنه غني تحليليًا: نجّاران يقومان بنفس العملية، وهي قطع شجرة لإنتاج خشبة قابلة للبيع. الأول يستخدم منشارًا يدويًا، بينما الثاني يعتمد على منشار كهربائي. كلا الخشبتين تُعدان سلعتين، لكن قيمتهما لا تتطابق رغم تشابه وظيفتهما، لأن طريقة الإنتاج تختلف من حيث أدوات العمل والكمّ الزمني المبذول.
في الحالة الأولى، ينجز النجار عمله بجهد عضلي ووقت أطول، باستخدام منشار يدوي صُنع غالبًا بأدوات بسيطة، من قبل حدّاد أو حرفي. في المقابل، يستخدم النجار الثاني آلة كهربائية متطورة، صُنعت داخل مصنع حديث شارك في إنتاجها مهندسون وعمال وتقنيون. في الحالتين، لا تُحدّد قيمة الخشبة فقط بزمن العمل المباشر، بل تشمل أيضًا العمل الاجتماعي المتراكم في أدوات الإنتاج.
يشير ماركس إلى أن وسائل الإنتاج لا تُنتج قيمة جديدة، بل تنقل فقط ما تحمله من قيمة إلى السلعة. أما القيمة الجديدة، فهي ناتجة عن العمل الحي المبذول في لحظة الإنتاج. وهكذا، تحتوي السلعة دائمًا على مزيج من العمل الميت (المتجسّد في الأدوات) والعمل الحي (المباشر)، وهي الثنائية التي تُفسّر كيفية إنتاج القيمة الفائضة في النظام الرأسمالي.
لأن هذا المثال سيكون أساسًا لفهم تسليع المعرفة لاحقًا، نكتفي هنا بتوضيح المنطق، على أن نُعيد تفعيله عند تحليل أدوات الباحث والمؤسسة العلمية كأدوات إنتاج تحمل عملًا اجتماعيًا سابقًا.
القيمة الاجتماعية الضرورية والفرق بين الإنتاج الفردي والإنتاج الرأسمالي
ما يُعمّق هذا المثال هو التمييز الذي يطرحه ماركس بين “القيمة الفردية” و”القيمة الاجتماعية الضرورية”. فإذا كانت غالبية المنتجين يستخدمون مناشير كهربائية، فإن القيمة الاجتماعية لإنتاج خشبة واحدة تُحسب وفق الوقت المتوسط اللازم للإنتاج بهذه الوسيلة. في هذه الحالة، يصبح النجار الذي يستخدم منشارًا يدويًا غير قادر على المنافسة، لأنه ينتج نفس السلعة بزمن أطول وقيمة فردية أعلى. هذا الفارق يُنتج ما يسميه ماركس بـ”فائض القيمة النسبي”، والذي يمنح الأفضلية للمنتِج القادر على استخدام أدوات إنتاج أكثر كفاءة.
وبالتالي، لا يكفي العمل الجاد أو المهارة الفردية لإنتاج سلعة ذات قيمة في السوق، بل يجب أن يخضع العمل إلى منطق الزمن الاجتماعي. وهذا المفهوم محوري، لأنه يُظهر أن قيمة السلعة لا تُنتج فقط داخل الورشة أو المصنع، بل داخل شبكة اجتماعية واسعة تحدد الأدوات، والتقنيات، وسرعة الإنتاج بحسب الحاجات الرأسمالية.
تمهيدًا لتحليل تسليع المعرفة، يمكن استنتاج أن الباحث الذي لا يستخدم أدوات معرفية متطورة (مثل البرمجيات أو التمويل المؤسسي) سيواجه الوضع نفسه: إنتاج ذات المخرجات بزمن أطول، ما يجعله “أقل إنتاجية” بمعايير القيمة الرأسمالية.
من النجار إلى الباحث: إنتاج القيمة في اقتصاد المعرفة
إذا كانت الخشبة سلعة، فإن المعرفة في الاقتصاد المعاصر تحوّلت بدورها إلى سلعة. الباحث هنا هو النجار الجديد، لكن أدواته ليست مناشير أو مطارق، بل مختبرات رقمية، منصات بحث، خوارزميات، ونُظم تمويل. حين ينتج الباحث مقالًا علميًا أو براءة اختراع، فإن عمله لا يُقاس فقط بزمنه المباشر، بل يُضاف إليه العمل الاجتماعي المتراكم في أدوات إنتاج المعرفة التي يستخدمها.
فالمنشور العلمي لا يُنتج فقط في ذهن الباحث، بل في شبكة معقّدة من البنى المعرفية والاجتماعية: من التعليم الجامعي، إلى التمويل، إلى بيئة النشر، إلى البنية التحتية الرقمية. كل هذه العناصر تتضمن عملًا سابقًا، تنقله إلى المنتج النهائي. ومع ذلك، فإن القيمة الجديدة تُستخلص من العمل الحي للباحث نفسه. لكنه، كما العامل الصناعي، لا يحصل على القيمة الكاملة لمنتجه، بل يُمنح أجرًا أو تمويلًا محدودًا، بينما تُحتكر القيمة الفائضة من قبل المؤسسات الأكاديمية أو الشركات الخاصة، كما في النشر العلمي التجاري أو الاحتكار الحقوقي لبراءات الاختراع.
هذا النموذج يُعيد إنتاج علاقات الإنتاج الرأسمالية داخل الحقل المعرفي، حيث يُختزل الباحث إلى مجرد “منتِج”، وتُختزل المعرفة في وحدات قابلة للتبادل والخضوع لقوانين السوق. وتُستبدل القيمة الاجتماعية للفكر بقيمته التبادلية، مما يحوّل الحقول العلمية إلى ساحات منافسة ومراكمة.
الخاتمة
يمكن فهم كيف أن منطق القيمة في الرأسمالية لا ينحصر في الصناعات المادية أو العمل اليدوي، بل يمتد إلى أكثر أشكال النشاط الإنساني تركيبًا، وعلى رأسها إنتاج المعرفة. فالسلعة، وفق التصور الماركسي، ليست مجرد شيء مادي، بل تجسيد لعلاقات إنتاج اجتماعية. والمعرفة، بوصفها إحدى هذه السلع، تُنتج من خلال تداخل العمل الحي (جهد الباحث) والعمل الميت (البنية المؤسسية والتقنية المتراكمة)، وتحمل في طياتها أثرًا غير مرئي للبنية الاجتماعية التي تنظّم شروط إنتاجها.
لا نهدف هنا إلى إقامة تماثل سطحي بين العمل اليدوي والعمل المعرفي، بل إلى إظهار الكيفية التي يتغلغل بها منطق الرأسمالية في مختلف مجالات النشاط البشري، محوِّلًا حتى الفكر نفسه إلى وحدة قابلة للتسليع، تُباع وتُشترى وتُقيّم على أساس مردودها السوقي. وهذا ما يجعل من موضوع “تسليع العلم” أحد أخطر تجليات الرأسمالية المعاصرة، لأنه يطال المجال الذي يُفترض أن يكون أكثر استقلالًا وارتباطًا بالحقيقة والبحث الحر.
هذا الفهم سيشكل مدخل أوسع يسعى إلى تفكيك هذا التحوّل الرأسمالي في بنية المعرفة، من خلال تحليل ديناميات التمويل العلمي، احتكار النشر الأكاديمي، نماذج الملكية الفكرية، علاقات السوق في الجامعات، وشروط إنتاج التكنولوجيا. كما تسعى هذه السلسلة إلى مساءلة الخطابات التي تُروّج لحيادية البحث العلمي، وإبراز ارتباطها المباشر بالسلطة الاقتصادية والسياسية.
وإلى إعادة وضع العلم في سياقه الطبقي، وربطه بالتحوّلات البنيوية للرأسمالية النيوليبرالية، بما يسمح بتطوير أدوات نقدية قادرة على مساءلة المعرفة ذاتها: كيف تُنتج؟ لمن؟ وبأي ثمن؟ وما الذي يُقصى من هذا الإنتاج بفعل علاقات الهيمنة؟
ومن هنا، فإن مهمة النضال الفكري اليوم تقتضي ليس فقط فضح آليات تسليع المعرفة، بل أيضًا استعادة ممكناتها التحررية، وإعادة ربطها بحاجات المجتمعات لا بمصالح السوق.