تثير الإشارة إلى “الماركسية” في الخطاب العام طيفًا من الانطباعات المتباينة، تُراوح بين النظر إليها كأيديولوجيا ثورية خلاقة، وبين اختزالها في شعارات حزبية أو تجارب سلطوية فاشلة. غير أن مثل هذه التبسيطات تُغفل التمييز الجوهري بين الماركسية كنظرية تحليلية نقدية، وبين الممارسة الماركسية كتجسيد تاريخي مشروط ومتعدد التأويلات.
هذا التمييز ليس ترفًا نظريًا، بل هو شرط ضروري لفهم التجربة الماركسية وتقييمها نقديًا. فكما أن الممارسة لا تُقاس فقط بمدى اقترابها من “النصوص”، فإن النظرية لا تملك حق الإملاء المطلق على كل تجربة. في ظل هذا التوتر، نشأت معظم الإشكاليات الفكرية والسياسية داخل الحركات الماركسية، وتجدّدت عبر محاولات “تطبيق” النظرية في واقع لم يكن مستعدًا لها، أو تأويلها تأويلًا يُفرغها من بعدها الجذري.
لا تنشأ الماركسية من انسجام صوري بين النصوص والتجربة، بل من علاقة جدلية بين التحليل والفعل، بين الفكر والتاريخ. ومن هذا المنطلق، لا يكون استدعاء الماركسية اليوم تمرينًا نظريًا ماضويًا، بل محاولة لاستعادة وظيفتها النقدية والتحويلية، عبر مساءلة العلاقة بين النظرية والممارسة، لا الحكم عليها سلفًا. فالماركسية الحيّة هي ما يُعاد توليده في هذه العلاقة المتحركة، لا ما يُستنسخ من ماضيها.
الماركسية كمنهج تحليلي مادي
تقوم الماركسية على تحليل البنى الاجتماعية من منظور مادي-تاريخي، وترى أن التحولات الكبرى لا تُفسر بالإرادة أو الأخلاق، بل بصراع الطبقات حول السيطرة على وسائل الإنتاج. لهذا، تشكّل البنية الاقتصادية الأساس الذي يُحدد إلى حد بعيد طبيعة الدولة، والقانون، والثقافة، دون أن ينفي ذلك تأثير هذه الأخيرة.
تكمن مركزية المنهج الماركسي في أنه لا ينطلق من تصور مسبق عن “كيف يجب أن يكون العالم”، بل يسعى إلى تحليل آليات إعادة إنتاج السيطرة والاستغلال في نمط الإنتاج الرأسمالي. ومن خلال مفاهيم مثل فائض القيمة، والهيمنة الطبقية، والدولة كأداة للصراع الطبقي، يقدّم أدوات لفهم آليات السيطرة في المجتمع الحديث.
بهذا، لا تُختزل الماركسية في هدف سياسي معين، بل تُعد منهجًا نقديًا يُوجّه النظر نحو التناقضات البنيوية في المجتمع، ويطرح إمكانية تغييرها على أساس مادي لا رغائبي.
الممارسة الماركسية كترجمة تاريخية للفكر
لا تنشأ الممارسة الماركسية من تطبيق حرفي للنظرية، بل من سيرورة جدلية تتفاعل فيها المفاهيم مع شروط الواقع. فالتحليل لا يسبق دائمًا الفعل، بل قد يتولّد منه، كما حدث مع ماركس نفسه بعد كومونة باريس، حين طوّر نظره حول الدولة بناءً على تجربة واقعية غير متوقعة.
وبالمثل، فإن تجربة لينين في الثورة الروسية لم تكن محاكاة للسيناريو الذي رسمه ماركس، بل استجابة لحظة تاريخية فيها فرص ومخاطر، فرضت إعادة تأويل النظرية لا الخروج عليها. لقد تولّدت مقولات جديدة من قلب الحدث، مثل “التحالف مع الفلاحين” و”دكتاتورية البروليتاريا”، لم تكن مُؤسسة بالكامل في الكتابات السابقة.
الممارسة إذًا ليست مجرد ترجمة للنص، بل عملية تفاعل بين النظرية والضرورة. غير أن هذا لا يعفي من ضرورة مساءلتها: فليس كل اختلاف تأويلاً مشروعًا، ولا كل ابتكار انحرافًا. ما يُكسب الممارسة شرعيتها هو قدرتها على الحفاظ على الأفق التحرري للنظرية، مع تكييف أدواتها دون إفراغها من مضمونها.
تعدد التجارب وتباين المسارات
لم تُنتج الماركسية مسارًا واحدًا في التاريخ، بل أفضت إلى تجارب مختلفة بحسب السياقات الاجتماعية والسياسية. هذه التعددية تُظهر مرونة المنهج الماركسي، لكنها أيضًا تكشف عن صعوبات الترجمة السياسية للفكر.
في السياق السوفييتي، برز تباين في تأويل الطريق الاشتراكي: رأى تروتسكي أن الثورة لا تستقر في بلد واحد دون دعم أممي، بينما رأى ستالين أن “الاشتراكية في بلد واحد” خيار واقعي في ظل الانعزال الدولي. يعكس هذا التباين تعدد القراءات داخل الإطار النظري ذاته، ويؤكد أن الممارسة تخضع لاعتبارات متعددة تتجاوز النص الأصلي.
في الغرب، أعاد غرامشي التفكير في أدوات التغيير، طارحًا الهيمنة الثقافية كآلية للصراع الطبقي في المجتمعات الرأسمالية الليبرالية. أما في العالم العربي، فقد تنوّعت التجارب الماركسية بين التحالف مع الحركات القومية ومناهضتها، بحسب تقديرات السياق المحلي.
هذه الاختلافات لا تُصنّف سلفًا كتطور أو انحراف، بل تُفهم من خلال تحليل الشروط التي أفرزتها، ومدى التزامها بالبعد النقدي والتغييري للمشروع الماركسي.
حين تتحول الممارسة إلى معيار نظري
رغم أن الممارسة تُنتج غالبًا مواقف ظرفية، فقد حدث أن تحوّلت نصوص نابعة من مواقف عملية إلى قواعد نظرية عامة. فبعض نصوص ماركس ولينين، التي كُتبت في لحظات سياسية حادة، تعاملت معها أجيال لاحقة كما لو كانت جزءًا من البنية النظرية الماركسية الصافية، بينما هي في الأصل مقاربات لمواقف محددة.
هنا تقع المفارقة: بدل أن تُخضع هذه النصوص للنقد والتحليل، تُحوّل إلى معيار تُقاس عليه تجارب لاحقة. وهكذا تتجمد النظرية، وتفقد الممارسة مرونتها. هذا ما حدث في عدد من الأحزاب الشيوعية التي عالجت الواقع من خلال قرارات زمن آخر، وقيّدت الفعل السياسي بالنصوص بدل أن تُطلقه منها.
ما يجب الحفاظ عليه ليس قداسة النص، بل المنهج النقدي الذي يُنتج النصوص في لحظتها. حين نفقد هذه الجدلية، يتحول المشروع الماركسي إلى أرثوذكسية، لا إلى أداة تحليل وتغيير.
خاتمة
لا يُختزل المشروع الماركسي في مقولات محفوظة أو تجارب سابقة، بل يتمثل في منهج نقدي مفتوح على التحليل والمراجعة، ومنفتح على الواقع بتعقيداته وتغيراته. لقد بينت التجربة أن النظرية التي تنفصل عن الممارسة تتحول إلى تجريد عقيم، والممارسة التي تنفصل عن النظرية تصبح براغماتية مفرغة من البوصلة.
صحيح أن بعض الممارسات ابتعدت عن الأفق التحرري للنظرية، لكن ذلك لا يُلغي إمكانية تصحيح المسار، ما دامت العلاقة بين الفكر والممارسة تُفهم بوصفها سيرورة تاريخية لا تطابقًا نهائيًا.
واليوم، في زمن تتكثف فيه الأزمات العالمية وتتشابك بصورة غير مسبوقة—من أزمة النظام الرأسمالي النيوليبرالي الذي يفاقم الفوارق الطبقية ويفكك آليات الحماية الاجتماعية، إلى التهديدات البيئية التي تُهدد شروط الحياة البشرية، وصولًا إلى تصدّع النماذج الديمقراطية وتآكل الثقة بالمؤسسات السياسية—تُعيد الماركسية طرح نفسها، لا بوصفها يوتوبيا أو بديلًا جاهزًا، بل كإطار تحليلي نقدي حيّ يمكن أن يؤسّس لمشروع سياسي جديد.
إن فهم العلاقة بين النظرية والممارسة ضمن السياق الماركسي لا يتيح فقط إعادة تقييم التجارب السابقة، بل يسمح بإعادة بناء الثقة بين التحليل والعمل، بين الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى والقرار السياسي اليومي. وبهذا الفهم، يمكن بلورة مشروع تحرري يمتاز بوضوح مفاهيمي يمنح أدوات دقيقة لتحليل تناقضات البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، دون الوقوع في التبسيط أو الاختزال. كما يتمتع بمرونة استراتيجية تستوعب تعقيدات الواقع، فالممارسة هنا ليست تكرارًا لنصوص مؤسّسة، بل فعلٌ قابل للنقد وإعادة التكييف. ويستند المشروع كذلك إلى قاعدة اجتماعية واسعة، لا تتحدد فقط من خلال النخبة الحزبية، بل تتشكّل عبر تحالفات طبقية وشعبية قادرة على تراكم الوعي والتنظيم حول مهام واقعية قابلة للإنجاز.
بهذا المعنى، لا تكون الماركسية مجرّد عودة إلى الماضي، بل استئنافًا حيويًا لإرث نقدي يُعيد تموضعه داخل الحاضر. وبدلًا من أن تُقدّم بديلاً جامدًا، فإنها تفتح أفقًا للحوار، والتنظيم، والاستراتيجيا، على قاعدة عقلانية وتاريخية، يمكن أن تكون بقدر تعقيد اللحظة، وأن تستعيد إمكانية الفعل في زمن يسوده التباس المعنى وتفكك البدائل.