التيارات الماركسية بين التشتت والوحدة: أزمة فكر أم تنوّع ثوري؟

🖨️ طباعة هذه المقالة

شهد الفكرُ الماركسي منذ بداياته انتقالًا من كونه نظريّةً نقديّةً للرأسماليّة الأوروبيّة، إلى أن أصبح أداةً تحليليّةً ونضاليّةً عالميّة، تبنّتها قوى وحركات سياسيّة في سياقاتٍ تاريخيّةٍ واجتماعيّةٍ متباينة. غير أن هذا الانتشارَ الواسعَ لم يُنتجْ تماسكًا داخليًّا دائمًا، بل أفضى إلى تبايناتٍ فكريّةٍ وتنظيميّةٍ بات من الصعبِ تجاهلُها، لا سيّما مع تصاعدِ الحديثِ في العقودِ الأخيرةِ عن “ماركسيّاتٍ” بصيغةِ الجمعِ لا المفردِ.

فرغم انطلاقِ التيّاراتِ الماركسيّة من مرجعيّةٍ نظريّةٍ موحّدة، ترتكز على تحليلِ ماركسَ وإنجلزَ للبنيةِ الرأسماليّة وتناقضاتِها، فإن الواقعَ التاريخيَّ والسياسيَّ أفرز طيفًا واسعًا من الماركسيّاتِ المتباينة، تباينت في تأويلِها للنصوصِ، وفي أساليبِ التنظيمِ، وفي طُرقِ الارتباطِ بالواقعِ المادّيِّ والسياسيِّ. هذا التعدّدُ الظاهرُ أثار الكثيرَ من الجدلِ داخلَ اليسارِ وخارجَه: هل هو دليلٌ على حيويّةِ الفكرِ الماركسيِّ وقدرتِه على التكيّفِ؟ أم أنّه علامةٌ على ضعفٍ تنظيميٍّ وتناقضٍ داخليٍّ يُهدّد المشروعَ برمّتِه؟

في هذا المقال، أتناول بالنقدِ والتحليلِ مسألةَ تشتّتِ التيّاراتِ الماركسيّة عالميًّا، وأتوقّف عند الأسبابِ الفكريّةِ والتنظيميّةِ والسياسيّةِ والتاريخيّةِ التي ساهمت في نشوءِ هذا التعدّدِ. كما أطرح تساؤلاتٍ حول إمكانيّاتِ إعادةِ بناءِ وحدةٍ ماركسيّةٍ جديدة، لا تقوم على الإلغاءِ أو المركزيّةِ القسريّة، بل على الاعترافِ بالتعدّدِ كعنصرِ قوّةٍ، وتطويرِ أشكالٍ من التنسيقِ والتحالفِ القادرةِ على توحيدِ الجهودِ دون التضحيةِ بالثراءِ الفكريِّ والنضاليِّ.

أما ما يُعرف اليوم بـ”الماركسيات الإقليمية” — كالماركسية اللاتينية، أو الأفريقية، أو العربية — فهو مبحث مستقل بذاته، يتطلّب معالجة خاصة نظرًا لما يطرحه من أسئلة حول علاقة الفكر الماركسي بالسياقات المحلية، وتقاطعاته مع قضايا الهوية، والدولة، والدين، والثقافة. لذا، سأعود إلى هذه المسألة في مقال لاحق أخصّصه لنقد مفهوم “الماركسية الإقليمية” وتحليل خصوصياته، بما في ذلك تجربة الماركسية العربية.

أما الآن، فالسؤال المطروح بإلحاح: هل يمكن للفكر الماركسي أن يخرج من دوامة التشتت نحو أفق وحدوي جديد؟ وهل يستطيع أن يحوّل هذا التعدد من عامل إضعاف إلى رافعة تجديد فكري ونضالي؟

الأسباب الفكرية
من أبرز العوامل التي ساهمت في تشتت التيارات الماركسية على الصعيد الفكري، تعدد القراءات والتفسيرات للنصوص التأسيسية. فمنذ نشر “رأس المال و*”البيان الشيوعي”*، برزت اتجاهات متباينة في تأويل الأسس النظرية للماركسية، بعضها التزم بالتحليل الاقتصادي الصارم، وبعضها انفتح على الفلسفة والثقافة، كما فعلت الماركسية الغربية التي اهتمّت بالهيمنة الثقافية وآليات السيطرة الأيديولوجية، كما نراها في أعمال أنطونيو غرامشي أو مدرسة فرانكفورت. في المقابل، ظلّت تيارات أخرى تتمسّك بالماركسية “الأرثوذكسية”، مركّزة على الحتميات الاقتصادية والدور المركزي للطبقة العاملة. هذا الاختلاف في التأويل أفرز رؤى متضاربة حول قضايا جوهرية مثل دور الدولة، علاقة الحزب بالجماهير، وأشكال الانتقال إلى الاشتراكية.

الأسباب التنظيمية
إلى جانب التباين الفكري، لعبت المسائل التنظيمية دورًا حاسمًا في انقسام الحركات الماركسية. فبعد تجربة الثورة الروسية، تم تبنّي نموذج الحزب الطليعي ذي المركزية الصارمة، وهو النموذج الذي دعا إليه لينين، والذي بلا ادنة شك ارتبط بالظروف الموضوعية والمهام والتحديات السياسية انداك، وجرى تعزيزه لاحقًا في ظل ستالين. لكن هذا الشكل من التنظيم لم يكن محل إجماع، إذ اعترضت عليه تيارات عديدة رأت فيه انحرافًا بيروقراطيًا عن روح الاشتراكية، وفضلت نماذج أكثر ديمقراطية وأفقية. هذه الخلافات لم تبقَ في حيز النقاش النظري، بل تجسدت في انشقاقات حزبية متكررة، حيث لم يكن نادرًا أن تنقسم الأحزاب الماركسية إلى فصائل متنازعة، لكل منها رؤيتها حول القيادة، الإستراتيجية، والتحالفات. وبمرور الوقت، تحوّلت هذه الانقسامات إلى ظاهرة مزمنة داخل التيارات اليسارية.

الأسباب التاريخية
لعبت السياقات التاريخية الخاصة دورًا كبيرًا في تشكيل الماركسيات المختلفة، خاصة بعد نجاح الثورة الروسية سنة 1917، والثورة الصينية سنة 1949. فبينما انطلقت التجربة البلشفية من طبقة عاملة صناعية في مجتمع شبه رأسمالي، قامت الثورة الصينية على تحالف واسع بين الفلاحين والبرجوازية الوطنية، بقيادة حزب شيوعي اعتمد الكفاح المسلح وحرب العصابات. هذه الفروقات قادت إلى تباينات نظرية وتنظيمية عميقة بين ما أصبح يُعرف لاحقًا بـ”اللينينية” و”الماوية”، وأثّرت لاحقًا على الحركات الثورية في العالم الثالث. ثم جاءت تجربة أمريكا اللاتينية لتضيف بعدًا جديدًا، حيث تلاقى النضال الطبقي مع قضايا التحرر الوطني ضد الاستعمار الجديد، مما أفرز نماذج ماركسية هجينة تستلهم من ماركس وتشي غيفارا معًا.

الأسباب السياسية
على المستوى السياسي، وجد الماركسيون أنفسهم أمام معضلة العلاقة مع الدولة وتطور مفهوم الطبقة، ومع الأنظمة القائمة، ومع الجماهير التي لا تنتمي بالضرورة إلى الطبقة العاملة التقليدية. في أوروبا الغربية، اتجهت بعض الأحزاب الماركسية نحو البرلمانية والعمل النقابي، وشاركت أحيانًا في حكومات ائتلافية، مما أدى إلى توترات مع القوى الثورية الاخرى. أما في بلدان الجنوب، فغالبًا ما كان النضال الماركسي جزءًا من حركات تحرير وطني، حيث كانت الهوية الطبقية تختلط بالهوية القومية. هذه الضرورات السياسية فرضت تحولات تكتيكية واستراتيجية متباينة، ساهمت في ترسيخ حالة التشتت داخل المشروع الماركسي العالمي.

وهنا يبرز تساؤل مركزي لا بد من طرحه: هل كانت الاختلافات في المواقف السياسية هي التي أفرزت تلك التباينات الفكرية والتنظيمية، وساهمت في تشكّل ماركسيات تاريخية متعددة؟ أم أن اختلاف المن\لقات الفكرية والتعدد في تصوّرات فكرية متغايرة هو الذي فرض قراءات سياسية واستراتيجية مختلفة؟
قد لا يكون الجواب قاطعًا، لأن العلاقة بين النظرية والممارسة في التجربة الماركسية هي علاقة جدلية معقّدة، يتداخل فيها ما هو معرفي بما هو ظرفي، ويتفاعل فيها ما هو مبدئي بما هو عملي. لكن إثارة هذا السؤال ضروري لفهم أعمق لمسارات التشظي الماركسي، وتحديد موقع الفكر من الفعل، والعكس.

هل من طريق نحو الوحدة؟

رغم هذه الانقسامات، فإن الحاجة إلى توحيد الجهود الماركسية باتت أكثر إلحاحًا في ظل تصاعد النيوليبرالية، وتدهور شروط الحياة للطبقات الشعبية في مختلف أنحاء العالم. لكن هذه الوحدة لا يمكن أن تقوم على قاعدة الإلغاء أو الإخضاع، بل على الاعتراف بالتعدد كقيمة مضافة. إن أول خطوة نحو الوحدة تكمن في الإقرار بأن التيارات المختلفة تمثل إجابات متعددة على أسئلة متنوعة، ولا يُمكن الحكم عليها بمنطق الصح والخطأ المطلق. بهذا المعنى، يمكن تصور وحدة تقوم على التوافق حول المبادئ الأساسية للماركسية، مثل النضال ضد الرأسمالية، والدفاع عن مصالح الكادحين، وبناء مجتمع اشتراكي عادل.

لتحقيق هذه الوحدة، من الضروري تأسيس جبهات سياسية واسعة، تضم مختلف التيارات الماركسية تحت مظلة نضالية مشتركة، دون أن تطالبها بالتخلي عن خصوصياتها. التجارب الحديثة في أمريكا اللاتينية، مثل الجبهة اليسارية الواسعة في الأوروغواي، أو التحالفات البوليفارية في فنزويلا، تقدم نماذج ملموسة لما يمكن أن تكون عليه هذه الجبهات: تعددية فكرية، لكنها متماسكة سياسيًا حول أهداف محددة.

بالتوازي مع ذلك، لا بد من إعادة إحياء الفضاءات الفكرية الحوارية بين الماركسيين، من خلال المجلات، والمنتديات، والمنصات الرقمية، بما يسمح بإعادة التفكير الجماعي في التجربة التاريخية للماركسية، واستخلاص الدروس دون الوقوع في المزايدة أو النفي المتبادل. فمن خلال هذه العملية النقدية المشتركة، يمكن خلق أرضية فكرية مرنة تستوعب التحولات، وتعيد للماركسية حيويتها النظرية والسياسية.

وفي النهاية، فإن النضال المشترك في الميدان، سواء ضد البطالة، أو من أجل الحق في السكن، أو في مقاومة الخصخصة، هو الذي يعيد بناء الثقة بين التيارات المختلفة. فالعمل المشترك يولد وحدة أعمق من تلك التي تفرضها النصوص، ويخلق تضامنًا واقعيًا يعيد تشكيل اليسار كقوة حية في قلب المجتمع.

خاتمة

ليس التعدد الماركسي خطرًا في حد ذاته، بل الخطر يكمن في العجز عن تحويله إلى قوة تكامل. إن المستقبل لن يكون لمن يدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، بل لمن يستطيع بناء حركة واسعة، جذرية، نقدية، ومتواضعة، تستلهم من ماركس، لكنها لا تكرره؛ تُراجع تراثها، دون أن تنكره؛ وتفتح أبوابها لكل من يناضل من أجل عالم خالٍ من الاستغلال. ففي زمن الأزمات الكبرى، نحتاج إلى يسار يعرف أن يتّحد، لا رغم اختلافه، بل بفضله.

 

ما تقييمك لهذا المقال؟
⭐ متوسط التقييم: 4 من 5 (8 صوت)
📂 التصنيفات: تحليلات, مقالات

أضف تعليقًا

الحقول المشار إليها بـ * إلزامية.