تحالفات من ورق: حين تختبئ الأحزاب خلف فشلها

🖨️ طباعة هذه المقالة

في مشهد سياسي مشوش ومفتت، تتكاثر التحالفات بين القوى اليسارية والديمقراطية كما لو أنها الحل السحري لأزمة عميقة تُرفض مواجهتها بصدق. لكن خلف هذه “الوحدات” التي تُرفع على عجل تحت عناوين فضفاضة كالوطنية أو الديمقراطية، غالبًا ما تختبئ أحزاب مهزومة تنظيميًا، مرتبكة فكريًا، فاقدة لأدوات الاشتباك الحقيقي مع الواقع. هذا النص ليس رفضًا لمبدأ التحالف في حد ذاته، بل محاولة لفضح كيف تحوّل التحالف، في كثير من الحالات، من أداة صراع سياسي إلى واجهة دعائية تغطي فشلًا لا يُعترف به.

في الفكر الماركسي، لا تُفهم التحالفات كغاية قائمة بذاتها، بل كأدوات مرحلية تخضع لمحددات الصراع السياسي وموازين القوى، وتُستخدم بوعي سياسي واستراتيجي لتحقيق أهداف الثورة، دون التخلي عن الاستقلالية السياسية والطبقية أو التخفيض من سقف البرنامج الثوري. غير أن الواقع السياسي الراهن يُظهر انزلاق عدد كبير من الأحزاب اليسارية إلى نوع من “التحالفوية” العشوائية، حيث يُختزل التحالف إلى غطاء للعجز البنيوي، أو تكتيك انتخابي قصير النفس، أو وسيلة للتموضع الإعلامي والبقاء الرمزي في المشهد السياسي.

بهذا المعنى، لم يعد التحالف أداة نضال، بل صار وسيلة احتواء وتحنيط. والمفارقة أن هذه الانزلاقات تتم أحيانًا تحت شعارات راديكالية، لكنها تنتهي إلى نتائج نقيضة: تفكيك ما تبقى من المشروع الثوري، وتحويل القوى اليسارية إلى ملاحق للقوى الليبرالية أو الشعبوية أو حتى الرجعية.

التحالف: الأداة لا العقيدة

لا تُبنى التحالفات انطلاقًا من أخلاقيات عمومية أو وحدويات شكلية، بل من منطق الصراع. في كل مرحلة من مراحل التناقض الطبقي، يُعاد النظر في جدوى التحالف وشكله وحدوده. هذا ما فعله البلاشفة حين عقدوا تحالفًا مؤقتًا مع الاشتراكيين الثوريين لكسب الفلاحين، بشرط واضح: أن يُوظف هذا التحالف لخدمة سلطة السوفييت، لا لاحتواء البلاشفة.

لينين كان حاسمًا في هذه النقطة: التحالفات لا تقوم إلا على قاعدة التنظيم الطبقي المستقل. لا وجود لتحالف فعال إذا لم يكن الحزب الثوري قادرًا على العمل الجماهيري الذاتي، إنتاج الخطاب السياسي المستقل، والاحتفاظ بوضوح الرؤية. من دون هذه الشروط، تصبح التحالفات مداخل لتصفية الذات الثورية تحت مسمى “الوحدة” أو “الواقعية”.

أما غرامشي، فذهب أبعد، حين ربط فكرة التحالف بإنتاج “الهيمنة” كأداة قيادة فكرية وأخلاقية. الهيمنة لا تُمنح، بل تُنتزع، ولا تُمارس عبر التنازلات، بل عبر تقديم مشروع بديل قادر على قيادة تحالف اجتماعي واسع دون ذوبان. وأي تحالف لا يبنى على هذه الهيمنة، يتحول إلى عبء لا إلى أداة.

تروتسكي، من جانبه، قدّم تحذيرات عملية واضحة من خطورة التحالفات الانتهازية. تجربة ألمانيا مثال صارخ: حين اندمجت الشيوعية دون شروط واضحة مع الاشتراكية الديمقراطية، ضاع المشروع الثوري، وأُبيدت الحركة العمالية في مهدها على يد الفاشية.

أزمة التنظيم كدافع للهروب نحو الخارج

الأحزاب الثورية لا تتحالف لأنها قوية، بل غالبًا لأنها عاجزة. هذه هي الحقيقة القاسية. في كثير من الحالات، يصبح التحالف محاولة للهروب من سؤال التنظيم: كيف نبني حزبًا جماهيريًا، كيف ننغرس في الطبقات الشعبية، كيف نصوغ خطابًا قادرًا على الربط بين المهمات الديمقراطية والمهمات الاجتماعية؟

حين تغيب الإجابة، تبدأ عملية الهروب. نُعيد إنتاج خطاب التبرير: “نحن نتحالف لمواجهة الاستبداد”، أو “الوضع لا يسمح بالمواجهة الطبقية المباشرة”. لكن هذه التبريرات، وإن بدت عقلانية، هي في الواقع أقنعة لعجز بنيوي في التنظيم، وتعبير عن عطب فكري لا يريد أن يرى الواقع كما هو.

في التجربة العربية، شاهدنا كيف تحالفت بعض القوى اليسارية مع الإسلاميين، أو مع الليبراليين المتورطين في النظام نفسه، تحت لافتات مثل “جبهة وطنية ضد الديكتاتورية”. لكن هذه التحالفات لم تنتج قوة جماهيرية، بل زادت في تفكك القاعدة الطبقية للحركات اليسارية، وأفقدتها صدقيتها في الشارع.

حين يتحول التحالف إلى ملاذ نفسي

التحالفات اليوم لا تُبنى فقط بسبب العجز التنظيمي، بل بسبب الانهيار النفسي داخل المؤسسات الحزبية. التنظيم الضعيف، بدل أن يعمل على مراجعة نفسه، يبحث عن وسيلة للبقاء الرمزي في الحقل السياسي. وهنا يصبح التحالف تعويضًا نفسيًا: نشعر أننا “نشارك”، أننا “موجودون”، رغم أننا فقدنا أي قدرة على التأثير الفعلي.

هذا ما يفسر استمرار بعض الأحزاب في خوض الانتخابات ضمن تحالفات لا تملك أي مضمون سياسي. الهدف ليس الفوز أو التغيير، بل الظهور. نوع من البقاء الافتراضي، الذي يسمح للجهاز الحزبي بأن يبرر وجوده، دون أن يكون له أي امتداد في الشارع أو في الواقع الاجتماعي.

من الجبهة الشعبية إلى الجبهة الوهمية

التحالف في التجربة الإسبانية (1936) مثالٌ معقد لكنه غني بالدروس. الجبهة الشعبية لم تكن فقط تحالفًا انتخابيًا، بل محاولة لصياغة جبهة ثورية ضد الفاشية. لكنها انهارت حين فشلت في التعامل مع تناقضاتها الداخلية، خصوصًا غياب القيادة الثورية الواضحة داخلها. هذا يُظهر أن التحالف وحده لا يكفي، بل يجب أن يُبنى على وضوح استراتيجي وقدرة على قيادة التناقض، لا التعايش معه.

بعكس ذلك، نشهد اليوم تحالفات تُبنى على حساب الوضوح. لا رؤيا، لا قيادة، لا أفق. فقط شعارات فضفاضة: “التغيير”، “الانتقال الديمقراطي”، “الكرامة”. كلها كلمات تصلح لكل شيء ولا تعني شيئًا. وهكذا يتحول التحالف إلى جبهة وهمية لا تفعل إلا امتصاص الصراع وتجميده.

وكل تحالف لا يطرح نفسه كرافعة لتغيير ميزان القوى لصالح الطبقات الشعبية هو تحالف بلا معنى. التحالف الذي لا يفتح المجال لتصعيد الصراع الاجتماعي والسياسي، بل يعمل على تخديره وإفراغه من محتواه، ليس سوى خدعة إصلاحية مغلّفة بالشعارات الراديكالية. وحين يكتفي هذا التحالف بالحصول على مقعد أو مقعدين يتيمين، وكأنهما شهادة حياة وسط الموت السياسي، فهو لا يحقق انتصارًا، بل يُكرّس الهزيمة في قالب برلماني. النتيجة تُقاس بمدى قدرة هذا الفعل السياسي على إعادة صياغة موقع الطبقات الشعبية في معادلة القوة. وإن لم يفعل، فهو مجرد تجميل للواقع، لا محاولة لتغييره.

تحالفات الدكاكين: وعي زائف وتنظيم مناسباتي

أسوأ أشكال التحالف هي تلك التي تُبنى على أساس التوافقات الشخصية، وتقاسم الغنائم، و”المجاملات السياسية”. لا برنامج، لا تحليل طبقي، لا جماهير. فقط مكاتب حزبية تجتمع لتنتج بيانات، وتُدير حملات انتخابية موسمية، وتروج لنفسها كبديل وهمي. في ظل هذه التحالفات، تُنتج الجماهير وعيًا زائفًا: ترى أن “الجميع مثل بعضهم”، فتنكفئ، أو تتطرف، أو تهجر السياسة تمامًا.

هذا الوضع يفرز مثقفين انتهازيين، يبررون الرداءة، ويدافعون عن التحالفات المهزومة بدعوى “الواقعية”، ويهاجمون كل صوت نقدي بدعوى “العدمية”. هنا، لا يعود التنظيم أداة للتغيير، بل آلية لإعادة إنتاج الأزمة، وتدوير الفشل، والتستر على الانهيار باسم “الوحدة”.

نحو تحالف طبقي واعٍ: الشروط لا التنازلات

التحالف، في المنظور الماركسي، ممكن وضروري، لكنه مشروط. لا يُبنى التحالف على أساس الضَعف، بل على أساس القوة النسبية والوضوح الاستراتيجي. المطلوب تحالفات تعزز التنظيم الطبقي لا تذوّبه. تحالفات ترفع مستوى الاشتباك، لا تحوّله إلى حفلة علاقات عامة. تحالفات تنشئ أفقًا للصراع، لا تخمده بالشعارات.

كل تحالف لا يخدم بناء الكتلة التاريخية للطبقات الشعبية، ولا يُسهم في توسيع رقعة الفعل الثوري، هو تحالف لا ضرورة له، بل يُشكّل خطرًا على الحركة ذاتها. لا يكفي أن نشارك. يجب أن نقود، أو ننسحب.

خاتمة: التحالف الحقيقي هو من يحمي المشروع لا من يدفنه

لسنا ضد التحالف كمبدأ. نحن ضد تحويله إلى طقس جماهيري بلا مضمون، أو إلى عقيدة جديدة تبرر الانحرافات. التحالف الثوري لحظة في مسار طويل، تُبنى على الوعي الطبقي، لا على ردّات الفعل. إما أن يكون أداة لتصعيد الصراع، أو يتحول إلى وسيلة لترويضه.

التحالف الذي لا ينتج قوة طبقية منظمة، لا يصنع ثورة، بل يصنع توازنًا هشًا في نظام مأزوم، سرعان ما ينقلب على من تحالفوا معه. علينا أن نعيد الاعتبار للتحالف كأداة ضمن استراتيجية تحرر حقيقية، لا كمسكن لأزمة لا نريد الاعتراف بها.

ما تقييمك لهذا المقال؟
⭐ متوسط التقييم: 4.5 من 5 (8 صوت)
📂 التصنيفات: تحليلات, مقالات

أضف تعليقًا

الحقول المشار إليها بـ * إلزامية.