المدنية والتحولات الاجتماعية والسياسية: قراءة مقارنة

🖨️ طباعة هذه المقالة

ينتمي مفهوم المدنية إلى تلك المفاهيم التي لا تُدرك إلا عبر توترها الدائم بين المعنى والتاريخ، بين الفكرة وميدان تحققها. ليس المقصود هنا التوقف عند التعريفات الجاهزة أو الأبعاد القانونية للمصطلح، بل محاولة الإمساك بتلك اللحظة التي يتكوّن فيها «المدني» كشرطٍ للوجود الاجتماعي الحديث، وكمعيارٍ يُقاس به مدى تحرّر الإنسان من المحدّدات الأولى للانتماء: القرابة، الطائفة، والإقطاع. إنّ دراسة المدنية لا تعني توصيف المجتمع بقدر ما تعني تفكيك بنيته، لمعرفة كيف تتخلق العلاقات الجديدة تحت ضغط التحولات الاقتصادية والسياسية.

في هذا البحث، لا تُفهم المدنية كحالة ناجزة أو كأفق مثالي، بل كعملية جدلية تتقاطع فيها القوى الطبقية والمصالح المادية مع وعي الإنسان بذاته. فكل مرحلة من التاريخ تحمل تعريفها الخاص للمدني، كما تحمل في طياتها نفيه القادم. من هنا تتوزع المحاور اللاحقة بين البحث في جذر المفهوم اللغوي والتاريخي، وتحليل انتقاله من الانتماء الأهلي إلى الانتماء القانوني، ومتابعة تطوره في الفكر الأوروبي بوصفه ساحةً للصراع الطبقي، ثم تفكيك تمثلاته العربية الحديثة التي وُلدت في تربةٍ غير مكتملة. بذلك، لا تُقدَّم المحاور كأبوابٍ منفصلة، بل كخطوات في حركة واحدة: حركة المجتمع وهو يواجه ذاته عبر مفهومٍ لم يزل في طور التشكّل.

بهذا المعنى، تُصبح المدنية هنا مختبراً لتحليل التاريخ الاجتماعي في لحظته الأشدّ التباساً: لحظة الانتقال بين الشكل والمضمون، بين القانون والواقع، بين الحلم بالتحرر واستمرار علاقات التبعية. فهي ليست مرآةً للحداثة، بل اختباراً لحدودها، وسؤالاً مفتوحاً حول الكيفية التي يتحول بها الإنسان من موضوعٍ داخل السلطة إلى ذاتٍ فاعلة تُعيد تعريف المجتمع نفسه.

الجذر الدلالي والتاريخي لمفهوم المدني

حين أستعيد تاريخ كلمة “المدني”، لا أتعامل معها بوصفها مجرّد لفظٍ متداول، بل كمفتاحٍ لفهم التحوّل التاريخي في علاقة الإنسان بالمجتمع وبالدولة. فالمفردة التي تبدو بسيطة اليوم، هي في أصلها ثمرة صراعٍ طويل بين أنماط الوجود القديمة وميلاد المدينة الحديثة. لقد تشكّلت الكلمة الأوروبية المقابلة – سواء Bürger بالألمانية أو citoyen بالفرنسية أو citizen بالإنجليزية – في لحظة تاريخية تزامنت مع صعود المدن، وما تعنيه من روابط اجتماعية واقتصادية وسياسية جديدة، وتفكك الروابط الإقطاعية، وتحوّل الإنسان من تابعٍ في بنيةٍ أبوية إلى فاعلٍ قانوني داخل نظامٍ مؤسسي. يمكن القول ببساطة إنّ «المدني» هو الكائن الذي أصبحت فيه رابطة القانون تعلو على رابطة الدم.

في هذا السياق، لم يكن التحوّل لغوياً فحسب؛ كان تحوّلاً في طبيعة الاجتماع الإنساني ذاته. فالمدني الأوروبي لم يولد في معجم اللغة، بل في معمل التاريخ: في الأسواق، وفي أجهزة الدولة الناشئة، وفي صراع الطبقات داخل المدن التجارية. هناك، صار الفرد يتمتّع بصفة «المواطن» التي تخوّله أن يُحاكم ويُحاسب ويشارك في تقرير مصيره وفق القانون لا وفق نسبه أو قبيلته أو دينه او طائفته. تلك النقلة، رغم بساطتها الظاهرية، كانت ثورةً في تصور الذات والمجتمع معاً، إذ نقلت الإنسان من موقع الانتماء الغريزي إلى موقع الفاعلية القانونية، ومن الولاء للعائلة إلى الولاء للمؤسسة.

أما في العربية، فإنّ الكلمة المقابلة، «مدني»، لا تحمل في تاريخها هذه الشحنة القانونية والسياسية ذاتها. فالجذر «مَدَنَ» يشير إلى الإقامة في المدينة، أي إلى الاستقرار المكاني لا إلى التحوّل المؤسسي. ولهذا ظلّ مفهوم «المدني» في لغتنا أقرب إلى «المتحضّر» لا إلى «المواطن» الذي يتمتّع بحقوقٍ قانونية داخل كيانٍ سياسي. لم تعرف اللغة العربية لحظة تاريخية يترافق فيها نمو المدينة مع انبثاق الفرد الحرّ المستقلّ قانونياً. المدينة العربية، على خلاف الأوروبية، لم تكن فضاءً لتحرير الإنسان من الروابط الأهلية، بل فضاءً لإعادة إنتاجها في أشكالٍ جديدة.

من هنا، حين نتحدث اليوم عن “الدولة المدنية” في العالم العربي، فإننا نستخدم مصطلحاً لم تكتمل جذوره في تجربتنا التاريخية. نحن نتعامل مع استعارةٍ أكثر من تعاملنا مع مفهومٍ متجذّر. فالمدينة عندنا حملت طابعاً مادياً دون أن تكتسب بنيتها الاجتماعية الحديثة: فيها الأسواق والمؤسسات، نعم، لكنها لم تنجح تماماً في إرساء المواطنة بوصفها علاقةً قانونية متساوية بين الأفراد. ما زالت العلاقات التقليدية – العشيرة والطائفة والعائلة – تتسلل إلى داخل البنية المؤسسية نفسها، فتجعل من المدينة الحديثة قناعاً لوجهٍ قديمٍ لم يتبدّل بعد.

بهذا المعنى، لا يمكن فهم “المدني” إلا ضمن سياق تاريخي يعيد ربط الدلالة بالواقع. فالكلمة ليست صفة حضارية فحسب، بل انعكاسٌ لبنية إنتاجٍ وتوزيعٍ للسلطة. حين يتحوّل الإنسان إلى مواطن، فهذا لا يعني أنه صار أكثر تهذيباً أو تمدّناً، بل أنه دخل في علاقةٍ جديدة مع الدولة والملكية والحق. لذلك، فإنّ دراسة الجذر الدلالي للمفهوم ليست تمريناً لغوياً، بل مدخلٌ لفهم طبيعة التحوّل الاجتماعي الذي يجعل من المدينة مؤسسةً لا مكاناً، ومن القانون أداةً لتنظيم الحياة لا لتبرير السيطرة.

الانتقال من الانتماءات التقليدية إلى الانتماءات القانونية

حين نتحدث عن التحول من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني، فنحن لا نصف انتقالاً مكانياً أو شكلياً، بل مساراً تاريخياً معقّداً يتداخل فيه الاقتصادي بالسياسي، والمادي بالرمزي. في جوهر هذا التحول يكمن سؤال أساسي: كيف يتحول الإنسان من كائنٍ تحدد انتماءاته شبكة القرابة والدين والعشيرة، إلى مواطنٍ تحدد حقوقه وواجباته شبكة القوانين والمؤسسات؟ إنّ ما أسمّيه هنا “الانتقال من الانتماء التقليدي إلى الانتماء القانوني” ليس خطوة بسيطة، بل عملية إعادة صياغة شاملة للعلاقات الاجتماعية، تمتد من القاعدة الاقتصادية حتى البنية الفوقية التي تنظم الفكر والسلوك.

ففي التكوينات التقليدية، يكون الفرد جزءاً من جماعة تُعرّفه وتُحميه وتُحدّد مكانته الاجتماعية مسبقاً. العلاقة هناك علاقة دمّ وولاء، لا علاقة عقدٍ وحق. أما في التكوين المدني الحديث، فيولد الفرد مرتين: مرةً بيولوجياً داخل جماعة، ومرةً قانونياً داخل الدولة. هذا الميلاد الثاني هو الذي يمنحه صفة “المواطن”. وبذلك، يتحول الانتماء من رابطة قائمة على القرابة إلى رابطة قائمة على المساواة أمام القانون. غير أنّ هذا التحول لم يحدث – لا في أوروبا ولا في العالم العربي – من فراغ، بل جاء نتيجة صراعٍ طويل بين البنى الاقتصادية القديمة وصعود قوى الإنتاج الجديدة التي احتاجت إلى فضاءٍ قانوني يعترف بحرية التبادل والمبادرة الفردية.

لقد كانت الرأسمالية، بكل تناقضاتها، هي القابلة التاريخية لهذا التحول. فمن رحم السوق وحقوق الملكية الخاصة نشأ تصور جديد للإنسان كمالكٍ حرّ وفاعلٍ قانوني. لكن هذا التحرر كان نسبياً؛ فالانفصال عن الروابط الأهلية القديمة لم يعنِ تحرراً من التبعية، بل انتقالاً من شكلٍ من أشكالها إلى آخر. الإنسان الحديث تخلّص من سلطة العشيرة ليقع تحت سلطة السوق. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن ظهور الدولة القانونية أوجد إمكانية تاريخية لتشكيل وعيٍ جديد بالحقوق، وفتح الباب أمام الصراعات الديمقراطية والاجتماعية التي أعادت تعريف علاقة الفرد بالجماعة.

في السياق العربي، يبدو هذا الانتقال أكثر التباساً وتعقيداً. فالمجتمعات العربية دخلت العصر الحديث تحت ضغط الاستعمار الخارجي، لا من خلال تطورٍ داخلي عضوي كما حدث في أوروبا. ولذلك، وُلدت الدولة الحديثة قبل أن يولد المجتمع المدني بالمعنى الحقيقي. صارت لدينا مؤسسات قانونية دون أن تتحقق شروطها الاجتماعية. المواطن العربي يعيش في فضاء مزدوج: هو في الأوراق الرسمية “فرد قانوني”، لكن في الواقع العملي “عضو في شبكة علاقات تقليدية”. يحصل على حقه ليس بوصفه مواطناً، بل عبر وساطة عشيرته أو طائفته أو حزبه. بهذه الصورة، تبقى المواطنة شكلاً فوقياً هشاً، لأن البنية الاجتماعية التي يفترض أن تسندها ما تزال أسيرة أنماط الانتماء ما قبل الحديثة.

إنّ تجاوز هذا التناقض يتطلب أكثر من إصلاحٍ قانوني. فالقانون في ذاته لا يخلق مواطنين متساوين ما لم تُغيّر البنية الاقتصادية والثقافية التي تُنتج اللامساواة. المواطنة ليست مجرد ورقة تُمنح أو تُسحب، بل هي علاقة إنتاجٍ وتوزيعٍ للسلطة والموارد. فحين يملك بعض الأفراد وسائل الإنتاج، ويسيطر آخرون على جهاز الدولة، تظلّ المساواة أمام القانون مسألة شكلية. لذلك، لا يمكن تحقيق انتقالٍ حقيقي من الانتماء التقليدي إلى الانتماء القانوني إلا من خلال إعادة توزيع القوة في المجتمع: قوة المال، وقوة القرار، وقوة المعرفة.

يمكن القول، إذن، إنّ المدنية ليست فقط تحوّلاً في لغة الحقوق، بل إعادة بناء لأساس الانتماء الإنساني ذاته. أن تكون مدنياً يعني أن تتحدد مكانتك لا بما ورثته من روابط الدم، بل بما أنتجته من مشاركةٍ في المجال العام، وأن يصبح القانون لا امتداداً للعشيرة بل نقيضاً لها. هذا هو جوهر التحول التاريخي الذي لا يزال معلقاً في مجتمعاتنا بين ما تبقّى من البنية التقليدية وما لم يكتمل من مشروع الدولة الحديثة.

المدنية في الفكر الأوروبي – الصراع الطبقي والمجتمع المدني

حين أستعيد تطوّر مفهوم “المدنية” في الفكر الأوروبي، أجد أنه لم يكن أبداً فكرة محايدة أو لغوية، بل كان انعكاساً لتبدّلٍ جذري في البنية الطبقية للمجتمع. فالفلاسفة لم يصيغوا المفهوم في فراغ، بل في خضمّ تحوّل تاريخي حاسم، حين بدأت الرأسمالية تصوغ عالمها الجديد وتعيد ترتيب العلاقة بين الفرد والدولة والمجتمع. لقد جاء هيغل ليمنح المفهوم شكله الفلسفي الأول حين تحدّث عن “المجتمع المدني ” (bürgerliche Gesellschaft)، لا كحالة مثالية بل كمرحلة تاريخية تقع بين العائلة والدولة. في هذا المجتمع تتلاقى الحاجات والمصالح الفردية، وتُعبَّر عنها من خلال السوق، فيتحقق نوعٌ من التوازن المؤقت بين الأنانية الفردية والمصلحة العامة عبر القانون.

لكن هذا التصوّر الهيغلي، الذي بدا متناغماً مع روح الليبرالية الصاعدة، لم ينجُ من النقد الجذري الذي قدّمه ماركس بعد عقود. فقد رأى ماركس في المجتمع المدني الذي امتدحه هيغل الوجه الحقيقي للرأسمالية، حيث يُختزل الإنسان إلى كائنٍ اقتصادي تحكمه علاقات الملكية. بالنسبة لماركس، لم يكن المجتمع المدني مجالاً للتفاهم أو التعاون الحر، بل ميداناً تتصارع فيه الطبقات الاجتماعية. إنه المكان الذي تُترجم فيه السيطرة الاقتصادية إلى هيمنة سياسية وثقافية، أي أن “المدنية” هنا ليست حياداً، بل آلية لإعادة إنتاج علاقات القوة.

من هذا المنظور، يتضح أن “المدني” في الفكر الأوروبي ليس نقيضاً للدولة، بل شريكها التاريخي في بناء النظام الرأسمالي الحديث. المجتمع المدني هو ساحة الصراع الطبقي اليومية، حيث تعيد البرجوازية تنظيم العالم وفق مصالحها، مُلبسةً تلك المصالح لبوس الحقوق والحرية والمواطنة. إن الحرية، كما كتب ماركس في نقده لفلسفة الحق عند هيغل، تتحول إلى حرية شكلية طالما أن البنية الاقتصادية تظل قائمة على التفاوت في الملكية. القانون يساوي بين الأفراد في النص، لكنه يعيد إنتاج اللامساواة في الممارسة، لأن من يملك وسائل الإنتاج يملك أيضاً أدوات التأثير والتشريع.

وإذا نظرنا إلى تطور الفكر السياسي لاحقاً، سنجد أن هذه الجدلية بين “المدني” و”الطبقي” ظلت محوراً أساسياً في تحليل المجتمع الحديث. فالمفكرون من غرامشي إلى بولانتزاس أعادوا تعريف المجتمع المدني كفضاء للهيمنة الثقافية، حيث لا تُمارس السيطرة بالقوة فقط، بل عبر منظومات المعنى والإقناع. غرامشي، على وجه الخصوص، كشف أن المجتمع المدني هو ميدان صراعٍ على الوعي، وأن الطبقة المهيمنة لا تفرض سلطتها بالسلاح، بل عبر السيطرة على المدارس، والصحافة، والكنيسة، والمؤسسات الثقافية. بهذا المعنى، المدنية ليست نقيض العنف، بل شكله الناعم والمُقنّع.

إن هذا التحليل يمنحنا أداة مهمة لفهم ازدواجية المدنية المعاصرة: فهي من جهةٍ ضرورية لبناء المجال العام وتنظيم الحقوق، لكنها من جهةٍ أخرى تحمل داخلها بذور التفاوت الطبقي. لذلك فالتعامل مع مفهوم “المدني” دون وعيٍ جذري بطبيعته الطبقية يؤدي إلى قراءةٍ سطحية للمجتمع الحديث. فالمدنية، كما هي في الواقع، لا تُلغي الصراع، بل تُعيد إنتاجه بطرقٍ أكثر تعقيداً. إنها لا تُحرر الإنسان من علاقات التبعية، بل تُحوّلها من تبعيةٍ شخصية إلى تبعيةٍ بنيوية مؤسسية.

بهذا المنظور، لا يمكن اختزال المجتمع المدني في الجمعيات والمنظمات غير الحكومية كما تفعل بعض القراءات العربية السطحية، بل ينبغي النظر إليه كبنيةٍ مادية وثقافية في آن، تُشكّل فيها المؤسسات المدنية امتداداً للسلطة الطبقية. إنّ فهم “المدني” في الفكر الأوروبي لا يعني تبنّيه كما هو، بل قراءته بوصفه لحظةً من لحظات التناقض التاريخي بين الحرية والاستغلال، بين الحقوق المعلنة والقيود الفعلية. فالمدنية، ببساطة، هي الواجهة المتحضّرة لصراعٍ اجتماعي لم ينتهِ بعد، بل يجد في كل حقٍّ معلنٍ شكلاً جديداً من الهيمنة المقنّعة.

الدولة المدنية في العالم العربي – مرحلة الصراع والتحوّل

حين نقترب من مفهوم الدولة المدنية في العالم العربي، لا يمكننا أن نفصله عن السياق التاريخي والسياسي الذي نشأت فيه الدولة الحديثة ذاتها. لقد وُلدت معظم الدول العربية المعاصرة في رحم لحظةٍ مركّبة: تَرك الاستعمار خلفه مؤسسات دولة على النمط الغربي، لكنه لم يترك مجتمعاً مدنياً قادراً على احتضانها. لهذا السبب، تبدو الدولة المدنية عندنا أقرب إلى مشروعٍ مؤجل منها إلى واقعٍ متحقق. فهي تُطرح دائماً بوصفها أفقاً مرغوباً، لكنها تصطدم ببنية اجتماعية واقتصادية لم تتشكّل بعد على أسسها الخاصة.

من الناحية النظرية، تُفترض الدولة المدنية أن تكون نتاج تطوّر المجتمع المدني، أي ثمرة تنظيمٍ طوعي بين المواطنين الأحرار الذين يملكون القدرة على تمثيل مصالحهم عبر مؤسساتٍ قانونية وسياسية. غير أنّ ما حدث في العالم العربي كان عكس ذلك: فالدولة سبقت المجتمع، فصيغت مؤسساتها في غياب توازنٍ حقيقي بين القوى الاجتماعية. لقد بُنيت كجهازٍ فوقيٍّ، استورد هياكله من الغرب، لكنه ظلّ متغذّياً على أنماط الولاء القديمة: الطائفة، والعشيرة، والمنطقة، والعائلة. هكذا نشأت دولة هجينة، حديثة في خطابها وشكلها الإداري، لكنها تقليدية في بنيتها الاجتماعية والسياسية.

هذا التعارض البنيوي أفرز مفارقة مؤلمة: فبينما ترفع الدولة شعارات القانون والمواطنة، تُمارس في الواقع توزيعاً للسلطة والثروة وفق معايير الزبائنية والقرابة والانتماء الضيق. وبذلك تحوّلت “المدنية” إلى غطاءٍ لغويّ يبرّر استمرار البنية الريعية والسلطوية، بدل أن يكون أداة لتقويضها. إنّ ما نسميه اليوم “الدولة المدنية” في الخطاب العربي ليس سوى إعادة إنتاج لسلطةٍ تقليدية بوسائل بيروقراطية حديثة، حيث تُستخدم اللغة القانونية لإخفاء علاقات الهيمنة الطبقية والطائفية.

في المقابل، لا يمكن تجاهل أن الخطاب المدني العربي نشأ في بيئة فكرية متأثرة بالليبرالية الغربية، لكنه سرعان ما تحوّل إلى ساحة صراع بين اتجاهين متناقضين. الاتجاه الأول تبنّى مفهوم الدولة المدنية بمعناه الشكلي: فصل الدين عن الدولة، والاحتكام إلى القانون، وتوسيع الحريات الفردية، دون أن يمسّ جوهر توزيع القوة الاقتصادية. أما الاتجاه الثاني، الذي يمكن أن نسميه بالاجتماعي–الديمقراطي، فقد رأى في المدنية إمكاناً لإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والمساواة والمشاركة الشعبية، لا كمجرد أداةٍ لضبط الحريات بل كوسيلةٍ لتحقيق المساواة الفعلية بين المواطنين. هذا الاتجاه الأخير هو الذي أراه الأقرب إلى المفهوم الجدلي للمدنية، لأنّه لا يفصلها عن البنية الطبقية التي تنتجها، بل يربطها بها ربطاً عضوياً.

من زاويةٍ اخرى، يمكن القول إنّ الدولة المدنية ليست نقيضاً للدولة السلطوية فحسب، بل هي أيضاً ميدانٌ يتجسّد فيه الصراع الاجتماعي في شكلٍ جديد. فحين تتبنّى الطبقة البرجوازية مفهوم الدولة المدنية، فإنها تفعل ذلك بوصفها وسيلة لحماية مصالحها تحت ستار القانون. لكن حين تتبناه الطبقات العاملة والمهمشة، فإنها تراه وسيلةً للمطالبة بالمشاركة والعدالة. لذلك لا يمكن تحديد طبيعة “المدنية” بمعزل عن سؤال: من يمتلك الدولة؟ ومن يملك حقّ تعريف القانون ذاته؟

بهذا المعنى، الدولة المدنية في العالم العربي ليست صيغة نهائية أو نموذجاً جاهزاً يمكن نسخه من التجربة الأوروبية. إنها ساحةُ صراعٍ مفتوح بين قوى التحديث الليبرالي التي تسعى لتوسيع المجال الاقتصادي، والقوى الاجتماعية التي تطمح إلى بناء دولة العدالة والمواطنة. وما لم يُحسم هذا الصراع على مستوى البنية الاجتماعية، ستظل الدولة المدنية شعاراً يرفعه الجميع ويفرّغه الجميع من محتواه. فالمواطنة لا تُقاس بعدد القوانين، بل بمدى تمكّن المواطنين من ممارسة المساواة فعلياً في توزيع الثروة والسلطة.

إنّ اللحظة العربية الراهنة تكشف أن الدولة المدنية ليست غايةً بحدّ ذاتها، بل مرحلةٌ من مراحل الصراع الاجتماعي. إنها ساحةٌ يُعاد فيها تعريف معنى الشرعية، وتُختبر فيها حدود السلطة، ويتواجه فيها مشروعان متناقضان: مشروعٌ يريد للدولة أن تكون جهازاً لتكريس الهيمنة، ومشروعٌ آخر يسعى لجعلها أداةً للتحرّر والمساواة. وبين هذين المشروعين، تتحدد إمكانات التحوّل الديمقراطي الحقيقي في مجتمعاتنا.

تمدّد الانتماءات التقليدية داخل المدن الحديثة

عندما نراقب تحوّل المدن العربية خلال القرن الأخير، يخيّل إلينا في الوهلة الأولى أنّنا أمام انتقالٍ حاسم من البنية التقليدية إلى البنية الحديثة: أبنية إسمنتية شاهقة، مؤسسات حكومية، جامعات، أسواق مالية، وشبكات تواصل متقدمة. غير أنّ هذه المظاهر لا تكفي لقياس عمق التحول الاجتماعي. فالمدينة، رغم عمرانها الحديث، ما تزال تحمل في داخلها روح القرية، وتعيد إنتاج علاقات القرابة والولاء في صيغٍ جديدة، كأنها تستبدل الأسماء دون أن تمسّ الجوهر. وهذا ما أراه أحد أبرز مظاهر الازدواج في التجربة العربية الحديثة: حداثة شكلية تتعايش مع مضمونٍ تقليدي راسخ.

فالمدن التي يُفترض أن تكون فضاءً محايداً للحقوق والمواطنة تحوّلت في حالاتٍ كثيرة إلى مسرحٍ تتجسّد فيه الولاءات القديمة بأدوات جديدة. لم تمت العشيرة ولا الطائفة، بل أعادت تنظيم نفسها داخل مؤسسات الدولة والسوق. فالموظف لا يُعيَّن بناءً على الكفاءة وحدها، بل بناءً على من يزكّيه، والمواطن لا ينال حقّه في الخدمات إلّا عبر شبكةٍ من الوساطات التي تتغذّى من الروابط العائلية أو الحزبية أو الطائفية. المدينة الحديثة، بدل أن تُضعف الروابط الأهلية، جعلتها أكثر مرونة وقدرةً على التكيّف. لقد هجّرت القرابة من الجغرافيا إلى الإدارة، ومن المزرعة إلى الوزارة.

هذا المشهد ليس استثناءً عربياً، بل يتّسق مع قانونٍ تاريخيّ عام: فكل تحوّلٍ من نمط إنتاجٍ إلى آخر لا يُلغي القديم دفعةً واحدة، بل يعيد دمجه داخل منظومة الجديد. لكن في حالتنا، كان هذا الاندماج أكثر عمقاً لأنّ البنية الاقتصادية الرأسمالية لم تترسّخ من الداخل، بل فُرضت من الخارج، فتداخلت معها بُنى ما قبل الحداثة بدل أن تنحلّ فيها. هنا نشأت “الهجينة”: دولة حديثة بواجهة قانونية ومؤسساتية، لكنّها تسير بعقلٍ تقليدي، يوزّع المناصب كما تُوزَّع الغنائم، ويخلط بين الولاء الشخصي والانتماء الوطني.

بهذا المعنى، يمكن القول إنّ المدينة العربية ليست مدينةً بالمعنى الذي عرّفته التجربة الأوروبية، أي بوصفها فضاءً للحياد المؤسسي وللمواطنة المتساوية، بل هي في كثيرٍ من الأحيان مسرحٌ لتنافس الولاءات في ثوبٍ إداريّ عصري. في أوروبا، حين صعد مفهوم الـBürger، كان يعني الإنسان الذي تحرّر من سلطة السيد الإقطاعي وأصبح مواطناً يحمل حقوقاً سياسية واقتصادية. أما في عالمنا، فما زال المواطن – رغم كل القوانين – أسيراً لشبكةٍ من الانتماءات التي تحدد مصيره أكثر مما تحدده نصوص الدساتير.

والأخطر أن هذه الشبكات لا تُعطل الحداثة فحسب، بل تفرغها من مضمونها الاجتماعي. فهي تجعل القانون أداةً لتثبيت النفوذ لا لتقويضه، وتحيل المواطنة إلى مجرد عنوانٍ شكليّ يُستخدم في الخطاب الرسمي دون أن يتجسد في الواقع. ولأنّ هذه الشبكات تتغذى من الاقتصاد الريعي ومن ضعف الإنتاج، فهي تجد دائماً في الدولة مصدراً للتوزيع لا فضاءً للمشاركة. الدولة، بدلاً من أن تُنظّم العلاقات بين المواطنين، تصبح وسيطاً بين جماعاتٍ متنافسة على الموارد.

من هذا المنطلق، نجد أنّ المدنية الحقيقية لا تتحقق بمجرد توسيع المدن أو تحديث مؤسساتها، بل بتحوّلٍ ثقافي واقتصادي يقطع مع منطق الولاء الشخصي لصالح منطق المصلحة العامة. الإصلاح الإداري، مثلاً، لا يكون فاعلاً ما لم يُرافقه إصلاحٌ في الوعي الاجتماعي والتعليم والاقتصاد. فالمجتمع المدني لا يُبنى من فوق، بل من أسفل، حين يشعر الفرد أنّ حقوقه لا تُمنح له من أحد، وأن كرامته لا تُقاس بنسبه أو بحزبه، بل بموقعه كمواطنٍ كامل العضوية في مجتمعٍ منظم بالقانون والعدالة.

إنّ تمدّد الانتماءات التقليدية داخل المدن الحديثة ليس فشلاً أخلاقياً للأفراد، بل فشلٌ بنيويّ في مشروع التحديث ذاته. لقد أُقيمت الأبنية دون أن تُبنى العلاقات، وتطوّرت المؤسسات دون أن تتطوّر الثقافة الاجتماعية المواكبة لها. من هنا، تبقى المدنية العربية مشروعاً غير مكتمل، ما لم يُكسر هذا التواطؤ العميق بين الشكل الحديث والمضمون التقليدي، ويُعاد تعريف المدينة لا بوصفها مكاناً للسكن، بل كفضاءٍ للحرية والمواطنة والمساواة.

الدولة الحديثة بين الشكل المدني والمضمون التقليدي

عند النظر إلى الدولة الحديثة في العالم العربي، نكون أمام كيانٍ مزدوج الوجه: أحدهما يرفع شعارات الحداثة، يستعير لغتها ويقلّد مؤسساتها، والآخر يرسّخ مضموناً تقليدياً قديماً يتناقض مع روح المدنية ذاتها. لقد دخلت الدولة عندنا مرحلة التحديث الشكلي، لكنها لم تبلغ بعد حدّ التحديث البنيوي. فالمدنية، كما أفهمها، ليست في وجود الدستور أو البرلمان أو النظام الإداري الحديث، بل في الطريقة التي تُمارس بها السلطة وتُوزَّع بها الموارد ويُعرَّف بها المواطن داخل تلك البنية. بهذا المعنى، أزعم أن معظم دولنا تحمل قناعاً مدنياً يخفي مضموناً سلطوياً أو تقليدياً ما زال يتحكم في جوهر عملها.

لقد ورثت الدولة العربية الحديثة بنيتها من نموذج الدولة الكولونيالية، التي لم تُبنَ لتكون أداة مشاركة، بل أداة سيطرة وإدارة. صحيح أنها تبنّت أشكالاً تنظيمية حديثة: الوزارات، الأجهزة البيروقراطية، القوانين، والانتخابات. لكنها فعلت ذلك في سياقٍ لم يكن المجتمع فيه قد أنتج أدواته المدنية الخاصة. فبقيت الدولة فوق المجتمع، تُديره كما تُدار الممتلكات، لا كمجالٍ للتعاقد والمواطنة. ولأن هذه الدولة لم تنشأ من توازنٍ طبقيّ داخلي، فقد تحوّلت مؤسساتها إلى ساحات نفوذٍ تتقاطع فيها المصالح القبلية والطائفية والريعية، بحيث أصبح القانون نفسه يُستخدم لترسيخ الامتياز لا لتقويضه.

تبدو المفارقة جلية حين نلاحظ كيف يتحوّل الشكل الحديث إلى وسيلةٍ لإعادة إنتاج المضمون التقليدي. فالقانون، الذي يُفترض أن يكون أداةً للحياد، يصبح في الممارسة أداة للتمييز عبر شبكات النفوذ. والبيروقراطية، التي كان من المفترض أن تُمثّل خطوة نحو العقلانية، تتحوّل إلى جهازٍ يوزّع الغنائم على أساس الولاء الشخصي. وهكذا تستمر بنية الدولة كامتدادٍ للسلطة الأبوية القديمة، وإنْ كانت ترتدي هذه المرة بزّةً رسمية وتتكلم بلغة الدساتير.

في الفكر الأوروبي، خصوصاً في تقليد هيغل، كانت الدولة الحديثة هي التجسيد الأعلى للعقل الجمعي، المكان الذي تتصالح فيه الحرية الفردية مع المصلحة العامة عبر القانون. أما في سياقنا العربي، فغالباً ما تصبح الدولة الحديثة مجرّد واجهة شكلية تُخفي وراءها استبداداً متجدّداً. وكأنها تبنّت الآلة الحديثة دون أن تتبنّى المنطق الذي اخترعها. ولذلك نجد أنّ الخطاب الرسمي كثيراً ما يتحدّث عن «دولة القانون والمؤسسات» في الوقت الذي تُدار فيه تلك المؤسسات بعقلية ما قبل الدولة.

يمكن القول، في هذا السياق، إنّ الدولة الحديثة عندنا تمارس نوعاً من الازدواج في الشرعية. فهي تستمدّ مشروعيتها الظاهرية من الدستور والقانون، لكنها تستمدّ فعاليتها الواقعية من شبكة العلاقات التقليدية التي تُمسك بالمجتمع. هذه الازدواجية تجعلها عاجزة عن تحقيق جوهر المدنية، لأنها لا تقدر على تمثيل المواطنين على قدم المساواة، بل تظلّ رهينة توازنات القوة بين المكونات الاجتماعية. ولهذا، فإنّ أي إصلاحٍ مدني حقيقي لا يمكن أن يتحقق ما لم تُفكَّك هذه البنية المزدوجة: تفكيك الشكل الذي يخفي الاستبداد، وتعرية المضمون الذي يعيد إنتاجه.

إنّ تجاوز هذا الوضع يتطلّب إعادة تعريف الدولة بوصفها ساحة للمشاركة لا كجهازٍ للرعاية أو الوصاية. فالدولة المدنية الحقيقية ليست من يسنّ القوانين فقط، بل من يجعل المواطنين قادرين على ممارسة تلك القوانين كأدواتٍ لحماية مصالحهم. أي إنّ الدولة المدنية ليست شكلاً فوقياً يُمنح، بل نتيجة لصراعٍ اجتماعي يعيد توزيع القوة داخل المجتمع. لا يمكن اختزالها في بناء المؤسسات ما لم تترافق مع بناء مواطنة فاعلة، ولا يمكن اختزالها في الخطاب الدستوري ما لم ترتكز على عدالةٍ اقتصادية تُعيد للناس ثقتهم في الدولة كإطارٍ مشتركٍ للعيش لا كأداةٍ لتكريس النفوذ.

إنّ التناقض بين الشكل المدني والمضمون التقليدي هو أحد أكثر مظاهر الأزمة العربية عمقاً. فطالما ظلّت الدولة الحديثة تُعيد إنتاج القيم التقليدية داخل مؤسساتها، ستظل المدنية مجرد واجهة براقة لسلطةٍ قديمة تتقن التمويه. والمخرج الوحيد من هذا المأزق هو مشروع تحوّلٍ جدلي يربط التحديث المؤسسي بإعادة هيكلة البنية الطبقية والاجتماعية. عندها فقط يمكن أن تتحوّل الدولة من قناعٍ للهيمنة إلى أداةٍ للتحرّر، ومن سلطةٍ تُدار من فوق إلى عقدٍ اجتماعيّ يُدار من القاعدة إلى القمة.

الدولة المدنية كمرحلة من الصراع الطبقي والسياسي

بتأمل مسار تطور الدولة المدنية في الفكر والممارسة، نلاحظ أنها لم تكن في أي لحظةٍ من التاريخ كياناً متعالياً فوق الصراعات الاجتماعية، بل كانت وما تزال ساحةً تتجسد فيها التناقضات الطبقية بأشكالٍ جديدة. الدولة المدنية ليست مشروعاً أخلاقياً أو توافقاً عقلانياً كما توهم الليبرالية، بل هي نتيجة لتوازنٍ مؤقت بين قوى اجتماعية متصارعة، يعبّر عن نفسه بلغة القانون والشرعية. لهذا، أرى أن فهم الدولة المدنية لا يكتمل إلا بوضعها ضمن دينامية الصراع الطبقي، لأن شكل الدولة لا ينفصل أبداً عن طبيعة القوى التي تتحكم في أدوات الإنتاج وتوزيع الثروة.

فالحقيقة المتجلية بوضوح حين ارتباط طبيعة الدولة بالبنية الاقتصادية التي تستند إليها. فالدولة ليست وسيطاً محايداً، بل أداة تنظّم بها الطبقة المهيمنة مصالحها وتُلبسها لبوس المصلحة العامة. وحتى في أكثر الدول «مدنيةً» أو «ديمقراطيةً»، يظل جوهر الدولة برجوازياً ما دامت وسائل الإنتاج بيد أقلية تتحكم في القرار السياسي. إنّ الحديث عن دولة القانون والمواطنة والمساواة يصبح مجرد طلاءٍ أيديولوجي يغطي علاقات السيطرة. ولذلك، فإن الدولة المدنية لا تمثّل بالضرورة نفياً للدولة الطبقية، بل قد تكون شكلها الأكثر رهافة وفاعلية، لأنها تمارس الهيمنة لا بالقمع المباشر، بل عبر منظومات الإقناع والشرعية والتمثيل.

في العالم العربي، تتخذ هذه المعادلة شكلاً أكثر التباساً. فالدولة هنا لم تتطور نتيجة صراعٍ طبقيّ داخليّ متكامل، بل نشأت في كثير من الحالات بفعل ضغوط خارجية، وورثت بنى اقتصادية ريعية جعلتها معتمدة على توزيع الريع بدل تنظيم الإنتاج. في مثل هذا السياق، يصبح الحديث عن دولة مدنية مكتملة ضرباً من التجريد. لأن الطبقة الحاكمة – سواء كانت عسكرية أو بيروقراطية أو أوليغارشية – تُدير الدولة بوصفها امتداداً لمصالحها، لا كإطارٍ للمواطنة المتساوية. هنا تنقلب المدنية إلى واجهة خطابية: تُستخدم مفردات «القانون» و«المؤسسات» و«الشفافية» لتبرير سلطةٍ غير خاضعة فعلياً للمساءلة.

لكن مع ذلك، لا يمكن إغفال أن فكرة الدولة المدنية تحمل إمكاناً تحررياً مضمراً، شرط أن تُقرأ في سياقها الجدلي. فحين تنخرط الطبقات الشعبية والنقابات والحركات الاجتماعية في النضال من أجل حقوقها داخل الإطار القانوني، فإنها تُحوّل هذا الإطار ذاته إلى ساحة صراعٍ ديمقراطي. في هذه اللحظة، تتحول الدولة المدنية من أداةٍ للهيمنة إلى ميدانٍ للمواجهة، ومن مفهومٍ برجوازي إلى إمكانيةٍ ثورية. بهذا المعنى، لا ينبغي رفض المدنية باسم الماركسية، بل تفكيكها من الداخل واستثمار تناقضاتها. فالمدنية ليست نقيض الاشتراكية، بل يمكن أن تكون إحدى مراحلها التاريخية حين تُفتح مؤسسات الدولة أمام الصراع الاجتماعي وتُستعاد من أيدي النخب المهيمنة.

ما يحدث اليوم في العالم العربي يوضح هذا التناقض بجلاء: فبينما تستخدم الأنظمة الخطاب المدني لتثبيت سلطتها، تبرز من أسفل حركات احتجاجية ونقابية وشعبية تُطالب بمواطنةٍ حقيقية وعدالةٍ اجتماعية. في الشوارع والجامعات والنقابات، تُعاد صياغة معنى «الدولة المدنية» بوصفها حقاً في المشاركة والكرامة، لا بوصفها واجهةً للتجميل السياسي. إنّ هذه الصراعات اليومية – وإن بدت متفرقة – تعبّر عن جوهرٍ ماركسيّ واضح: فكل خطوة نحو توسيع المشاركة السياسية أو المساواة الاقتصادية هي، في الجوهر، معركة ضدّ شكلٍ من أشكال الدولة الطبقية.

يمكن القول إذن إنّ الدولة المدنية ليست محطة نهائية في التطور السياسي، بل مرحلة تاريخية متناقضة تُختبر فيها حدود البرجوازية وقدرتها على احتواء التناقض الاجتماعي. في داخل هذه الدولة، يتقاطع حلم المساواة مع منطق السوق، ويتجاور خطاب الحقوق مع ممارسة الامتياز. وكلما اشتدّ الصراع الطبقي، انكشفت حدود هذا الشكل المدني واتّضح أنه ليس غاية بحد ذاته، بل خطوة على طريق إعادة تشكيل الدولة ذاتها على أسسٍ اشتراكية وديمقراطية أعمق. فالمدنية، في معناها الحقيقي، ليست سوى لحظة في عملية التحرّر التاريخي الطويلة، لحظة لا تكتمل إلا حين تتحول الدولة من حارسٍ للملكية الخاصة إلى أداةٍ لتنظيم المصلحة العامة، ومن سلطةٍ للفصل بين الطبقات إلى وسيلةٍ لتجاوزها.

إعادة تعريف مفهوم المدني

بالعودة إلى مفهوم «المدني»، نكون امام حقيقة أنّ الحاجة لا تكمن في تكرار التعريفات أو استدعاء المفاهيم الجاهزة، بل في تفكيك المعنى ذاته وإعادة تركيبه داخل سياقه التاريخي والاجتماعي. فالمدنية ليست مجرد نقيض للعسكرية أو للدينية كما تُختزل عادةً في الخطاب الشائع، بل هي لحظة من لحظات تطور الوعي الاجتماعي، مرحلة في الحركة التاريخية لصراع الطبقات وتحوّل أدوات الإنتاج والعلاقات الإنسانية. لذلك أتعامل مع «المدني» لا كهوية ثابتة، بل كعملية مستمرة تتغير دلالتها بتغير البنية المادية التي تُنتجها.

في الأصل، كان ظهور المدنية في أوروبا جزءاً من التحول الرأسمالي الذي حرّر الفرد من الروابط الإقطاعية، لكنه في الوقت ذاته ربطه بالسوق. لقد منحته حرية شكلية على حساب تبعيةٍ اقتصادية أعمق. فالمدنية، بهذا المعنى، هي الوجه الحقوقي للرأسمالية: النظام الذي يُعلن المساواة القانونية بينما يُخفي اللامساواة الفعلية. لذلك لا يمكن قبولها بوصفها مفهوماً مكتفياً بذاته، بل يجب النظر إليها من خلال تناقضها الداخلي بين الحرية والاستلاب، بين الشكل والمضمون. هذه النظرة الجدلية هي التي تتيح لنا تجاوز الفهم الليبرالي السطحي الذي يرى في المدنية نهاية التاريخ، لنفهمها بدل ذلك كمرحلةٍ في مسار التحوّل الاجتماعي، قابلةً للتجاوز عبر بناء مجتمعٍ أكثر عدالة ومساواة.

من هذا المنطلق، «فالدولة المدنية» ليست بأي حال من الأحوال نهاية المطاف، بل خطوةً في الطريق الطويل نحو التحرر الإنساني. فهي تُعبّر عن تطور الوعي بالحقوق والعقد الاجتماعي، لكنها تظل محدودةً ما دامت تُبنى فوق قاعدة اقتصادية غير متكافئة. فالقانون وحده لا يصنع المواطنة؛ المواطنة تُصنع عندما يُعاد توزيع الثروة والسلطة بما يضمن مشاركة الجميع في إنتاج القرار وتحديد المصير. المدنية، حين تنفصل عن العدالة الاجتماعية، تفقد مضمونها وتتحول إلى غطاءٍ قانونيّ للاستغلال. لذلك، فإنّ إعادة تعريفها تستلزم أن نربطها لا بمبدأ الحياد، بل بمبدأ التحرر من كل علاقات التبعية، سواء كانت دينية أو عسكرية أو طبقية.

اننا مدعوين إلى النظر في كل مفهومٍ باعتباره جزءاً من حركةٍ تاريخية لا تعرف السكون. المدنية، من هذه الزاوية، ليست نظاماً قائماً بل سيرورة صراع: صراع بين قوى تسعى إلى توسيع الحريات الشكلية دون المساس بجوهر النظام الطبقي، وقوى أخرى تطمح إلى تحويل هذه الحريات إلى أدواتٍ للتحرر الفعلي. وفي هذا الصراع يتحدد مستقبل الدولة والمجتمع معاً. فإمّا أن تتحول الدولة المدنية إلى شكلٍ أكثر نعومة من السيطرة، أو أن تُصبح أفقاً لتحرّر الإنسان من كل أشكال الاغتراب والاستغلال.

من هنا، يصبح من الضروري في إعادة تعريف «المدني» أن تنطلق من قلب الفهم المادية للتاريخ. فالمدنية لا يمكن أن تُفهم إلا عبر تحليل علاقة الإنسان بعمله وبالملكية وبالدولة. وكل حديثٍ عنها خارج هذا الإطار يتحول إلى تجميلٍ لغويّ أو تبريرٍ أيديولوجي. لذلك تصبح صياغة المعنى على النحو التالي: المدني هو الكائن الذي ينتزع حريته من خلال العمل الجماعي، ويؤسس وجوده في علاقةٍ متكافئة مع الآخرين ضمن بنيةٍ مادية تُنتج المساواة لا الامتياز. المدنية بهذا المعنى ليست حالةً تُمنح، بل مشروعٌ يُنتزع، ولا تتحقق إلا حين تتوحّد الحرية الفردية مع العدالة الاجتماعية في بنيةٍ واحدة تُنهي اغتراب الإنسان عن ذاته وعن مجتمعه.

وهكذا، يتضح أن «المدني» ليس مجرد توصيفٍ قانونيّ أو اجتماعيّ، بل هو تعبير عن لحظةٍ في جدل التاريخ، لحظةٍ يتصارع فيها القديم والجديد داخل كل مجتمع. وحين ندرك هذا التناقض، يصبح من الممكن تحويل المدنية من مفهومٍ محايد إلى أداةٍ نقدية، ومن شعارٍ سياسي إلى مشروعٍ تحرريّ شامل. عندئذٍ، لا تعود المدنية مجرد مرادفٍ للحضارة أو للنظام، بل تصبح خطوةً واعية في مسارٍ جدليّ طويل نحو إنسانٍ لا يُعرّفه موقعه في السوق، بل موقعه في عملية التحرر الجمعي من كل أشكال الاستلاب. تلك هي، في نظري، الغاية التي من دونها يبقى الحديث عن المدنية تكراراً للسطح دون النفاذ إلى الجوهر.

الخاتمة

تدلّنا قراءة المدنية، حين تُفهم في سياقها الجدلي، على حقيقة بسيطة وعميقة في آن: أنّ كلّ ما يبدو ثابتاً في الاجتماع الإنساني ليس سوى مرحلةٍ في حركة الصراع. فالمدنيّة ليست حلاً للتناقض، بل صورةٌ من صوره المتحوّلة. في كلّ مرّةٍ تُبنى فيها مؤسسةٌ جديدة أو تُسنّ فيها القوانين، يظهر السؤال ذاته: لمن تُخدم هذه البنية، ومن يُستثنى منها؟

في النهاية، لا تكمن قيمة المدنية بما تقرّره من نصوص، بل بما تنتجه من وعيٍ بالتحوّل. إنها لحظةٌ يلتقي فيها الإنسان بنفسه عبر ما يصنعه من أنظمة، لحظة يتعلم فيها أن الحرية لا تُوهب، وأنّ القانون بلا مساواةٍ مادية ليس إلا قناعاً جميلاً لعالمٍ غير متكافئ. المدنية بهذا المعنى ليست نقطة وصول، بل طريقٌ يتقدّم فقط بقدر ما نجرؤ على نقده.

ما تقييمك لهذا المقال؟
⭐ متوسط التقييم: 4.56 من 5 (9 صوت)
📂 التصنيفات: دراسات, مقالات

أضف تعليقًا

الحقول المشار إليها بـ * إلزامية.