في حقبة العولمة النيوليبرالية، حيث تتشابك المصالح الرأسمالية العابرة للقارات، يتحول الصراع الفكري إلى حلبة حاسمة في معركة الهيمنة الطبقية. لم تعد السيطرة الرأسمالية مقتصرة على أدوات الإنتاج المادي، بل تجاوزتها إلى احتكار وسائل إنتاج الفكر والرموز والثقافة، بما يعيد تشكيل الوعي الجماهيري وفقًا لمصالح رأس المال.
فالعولمة ليست مجرد عملية اقتصادية توسعية، بل هي مشروع أيديولوجي شامل، يسعى إلى تدجين الشعوب وتفريغ الوعي من محتواه النقدي، من خلال تسويق نماذج زائفة للحرية والتقدم تُغلف بها علاقات القهر والاستغلال. إن هذه الهيمنة الرمزية، كما بيّن بيير بورديو، تشكل أخطر أدوات السيطرة، إذ تعتمد على إعادة إنتاج القيم السائدة من خلال آليات قبول طوعي يُفهم كاختيار ذاتي، مما يعمق الاستلاب الثقافي.
الوعي والوعي الزائف: أدوات السيطرة في العصر الرقمي
لطالما شكّل الوعي النقدي سلاحًا مركزيًا في يد الحركات الثورية. إنه الوعي القادر على كشف البنية العميقة للاضطهاد، وفضح الآليات التي يُعاد عبرها إنتاج الخضوع داخل المجتمعات المعاصرة. في المقابل، فإن “الوعي الزائف” – بتعبير ماركس وإنجلز – يشكل الدرع الأيديولوجي للرأسمالية، إذ يُقنع الجماهير بأن مصالح الطبقات السائدة تمثل المصلحة العامة.
ومع الثورة الرقمية والتدفق الهائل للمعلومات، أصبحت صناعة “الوعي الزائف” أكثر دقة وخطورة، تتكرر هنا نفس الوظائف التي ناقشناها سابقًا بشأن الهيمنة الرمزية، ويمكن تعزيز الطرح بربطه بوقائع رقمية معاصرة مثل توصيات المنصات أو تصفية نتائج البحث، حيث تتجسد في خوارزميات تروّج للأفكار السائدة، وتقصي المحتوى النقدي، مما يُنتج وعياً مُجزّءاً، استهلاكياً، منزوع الجذر الطبقي والتاريخي.
الصراع الأيديولوجي كمعركة ضد الهيمنة الثقافية
لم يعد الصراع الأيديولوجي اليوم محصورًا في مواجهة مباشرة مع الأنظمة السياسية الرجعية، بل بات معركة شاملة ضد البنى الفوقية التي تكرّس الاستلاب والامتثال، بدءًا من الإعلام والمدرسة، مرورًا بالأدب والدين، وانتهاءً بمواقع التواصل التي تحوّلت إلى وسائط دقيقة لإعادة إنتاج السيطرة الطبقية الناعمة، خصوصًا من خلال الخوارزميات التي تُعيد ترتيب الأولويات الثقافية والمعرفية.
وهنا نستحضر مفهوم “المثقف العضوي” عند أنطونيو غرامشي، الذي يشير إلى الدور التاريخي الذي يؤديه المثقف المرتبط بالطبقة العاملة، في تفكيك الخطاب المهيمن وتقديم بدائل فكرية جذرية. فالمعركة ليست فقط حول من يملك وسائل الإنتاج الاقتصادي، بل أيضًا من يحتكر إنتاج المعنى والرمز والتصور.
من النظرية إلى الممارسة:
ضرورة الارتباط بالجماهير في عالم تغمره المعلومات المضللة، يصبح الفكر الثوري بلا معنى ما لم يتجسد في ممارسة حية، كما أظهرت تجربة الثورة الكوبية التي مزجت بين التحليل الماركسي والتنظيم الشعبي، أو كما فعلت التنظيمات القاعدية في أمريكا اللاتينية حينما ترجمت النظرية إلى مبادرات نضالية جماهيرية. لم تعد قراءة نصوص ماركس ولينين كافية، بل لا بد من ترجمتها إلى أدوات تحليل ملموسة تساعد الجماهير على فهم واقعها، واكتشاف القوى التي تستغلها، والتفكير في وسائل التحرر.
وهذا يتطلب:
تحليل الواقع الطبقي الحديث: البطالة، العمل غير المستقر، التهميش الرقمي، قمع النقابات.
تقديم خطاب بديل: يتجاوز الشعارات، ويتحدث بلغة الناس، دون تفريط في عمق التحليل.
تفعيل التنظيمات القاعدية: مثل لجان العمال، أو المبادرات القاعدية الرقمية التي ظهرت في بعض الحركات العمالية الحديثة، إذ لا يمكن تحقيق التغيير دون تأطير الوعي في هياكل نضالية حقيقية.
الكادر الحزبي أمام تحديات العولمة الرقمية لم تعد مهام الكادر الحزبي تقتصر على توزيع المنشورات أو حضور الاجتماعات، بل أصبحت معركة يومية على جبهات متعددة: في الفضاء الرقمي، وفي الشارع، وفي المؤسسات التعليمية والإعلامية.
في هذا السياق، يبرز خطر البيروقراطية التنظيمية التي تقمع الفكر النقدي داخل الأحزاب، تمامًا كما تفعل البيروقراطيات في أجهزة الدولة، حيث يتشابه المنطق القائم على الانضباط الشكلي، وتهميش المبادرة الفكرية، وقمع كل ما يهدد النظام القائم من الداخل داخل الأحزاب الثورية نفسها. فالقيادات التي تخشى الكادر المفكر تُنتج جمودًا يعيق التطور، ويحوّل الأحزاب إلى أجهزة بيروقراطية لا تختلف كثيرًا عن المؤسسات الرسمية التي تدّعي مناهضتها.
إن المطلوب اليوم هو إعادة الاعتبار لدور النقد والنقد الذاتي، كما دعا إليه لينين في تنظيراته حول مركزية المراجعة الداخلية في تجديد الحزب، وكما طبّقته بعض التجارب التنظيمية الحديثة مثل حركة زاباتيستا في استخدام النقد أداة دائمة لإعادة هيكلة الممارسة النضالية كوسيلة لتجديد الرؤية وتجذير الممارسة، بدلًا من التعامل مع الكادر المفكر كـ”تهديد داخلي”. لا يمكن لحزب يدّعي تمثيل الطبقة العاملة أن يكمم أفواه مثقفيه العضويين.
العولمة كتناقض: بين التهديد والفرصة
من منظور ماركسي ديالكتيكي، ليست العولمة مجرد تهديد رأسمالي، بل هي أيضًا فضاءٌ مفتوح لاحتمالات الصراع، تنطوي على إمكانيات جديدة لإعادة بناء الوعي الطبقي وتعزيز التضامن الأممي.
- العولمة كآلية لهيمنة رأس المال لا شك أن العولمة، بصيغتها النيوليبرالية، عمّقت التفاوت الطبقي، كما يتجلى في ازدياد فجوة الأجور عالميًا وتآكل أنظمة الحماية الاجتماعية، خاصة في دول الجنوب العالمي وساهمت في تفكيك البنى الاجتماعية التقليدية، وسلّعت كل ما يمكن تحويله إلى سلعة: من الخدمات العامة إلى التعليم والصحة، وصولًا إلى البيانات الشخصية. إنها تعبير عن رأس مال عابر للحدود، ينزع إلى تدمير كل ما يقف في وجه الربح: الدولة، السيادة، القوانين، وحتى الطبيعة.
لكن في الوقت نفسه، فإن الترابط العالمي الذي تخلقه العولمة يفتح المجال لتشكيل “نحالف طبقي عالمي”، كما يتجلى في الإضرابات العمالية العابرة للحدود أو حملات المقاطعة الرقمية ضد الشركات متعددة الجنسيات جديد، يمتلك وعيًا كونيًا بمعاناتها المشتركة، ولديه إمكانات الاتصال والتنظيم والمواجهة غير المسبوقة.
- الفضاء الرقمي كأداة نضال رغم محاولات رأس المال احتكار الفضاء الرقمي، إلا أن هذا الفضاء يمكن للحركات الثورية، إذا أحسنت استخدامه، تحويله إلى ساحة نضالية مركزية، عبر إنتاج المحتوى، وتنسيق الحملات الرقمية، وربطها بالنضالات الميدانية. فكما تستغل الرأسمالية الخوارزميات لنشر الوعي الزائف، يمكن للحركات الثورية أن تبني “أممية رقمية” تستعيد تقاليد التضامن الأممي، من خلال: • إنتاج محتوى نقدي ثوري موجه للجماهير الرقمية. • فضح انتهاكات رأس المال المعولم أمام الرأي العام العالمي. • ربط النضالات المحلية بحركات عابرة للحدود. • تحويل التكنولوجيا نفسها إلى موضوع للنقد والتحليل (اقتصاد المنصات، عمالة التطبيقات، الذكاء الاصطناعي…).
- استعادة مفهوم التضامن الاممي، كما تعكسه مبادرات تنظيمية رقمية حديثة مثل إضرابات عمال تطبيقات التوصيل العابرة للحدود، أو تحالفات نقابية رقمية تشكّلت لمواجهة استغلال المنصات إن ما كان يبدو، في زمن سابق، مجرد أمنية طوباوية، بات اليوم ممكنًا أكثر من أي وقت مضى. فالعمال، من الهند إلى المكسيك، ومن مصر إلى جنوب أفريقيا، يواجهون استغلالًا من نفس الشركات متعددة الجنسيات، ويتعرضون لنفس أنماط الإفقار، ويمكنهم ـ عبر التنظيم الرقمي الذكي ـ بناء تحالف طبقي عالمي يعيد إحياء معنى الأممية.
الخاتمة: الصراع الفكري كمعركة وجودية
لم يعد الصراع الفكري ترفًا نظريًا أو ترفًا نخبويًا، بل أصبح ضرورة وجودية لحركات التحرر في زمن العولمة. من دون وعي نقدي قادر على فضح الأيديولوجيا السائدة، ومن دون كادر ثوري مسلح بالمعرفة الماركسية ومتصالح مع الممارسة الجماهيرية، ومن دون تنظيمات منفتحة على الفكر النقدي وتُدرك أهمية التجديد النظري، ستظل الأحزاب الثورية حبيسة ماضٍ نضالي رمزي، عاجزة عن مواجهة وقائع تتغير بسرعة البرق، ما لم تُعيد تعريف أدوارها التنظيمية في ضوء التحولات الرقمية والاقتصادية، وتستثمر في بناء أدوات تحليل واتصال جديدة تُقرّبها من النضالات الجارية وتُعيد ربطها بالقاعدة الجماهيرية.
إن المعركة اليوم ليست فقط مع رأس المال كقوة اقتصادية، بل مع بنيته الأيديولوجية والثقافية، وهي معركة لا تقل ضراوة. ومثلما قال ماركس: “الأفكار لا تخرج من رؤوس البشر، بل من شروطهم المادية.”، وهو ما نلمسه بوضوح في زمننا الراهن من خلال إنتاج الخطابات السياسية والثقافية التي تُصاغ على أساس أوضاع العمل المرن، والبطالة المقنّعة، وواقع المدن الذكية التي تُطوّع البشر لخدمة رأس المال تحت غطاء الحداثة.
ومن هنا، فإن النضال الفكري، إذا لم يُربط بالواقع الملموس وبمصالح الطبقات الكادحة، يصبح مجرد لغو أكاديمي، ما لم يُترجم إلى أدوات تنظيم، وتحليل، وتثقيف، تُغذي النضالات اليومية وتفتح أفقًا لتغيير جذري قابل للتحقق.