توظيف القوى اليسارية لوسائل التواصل الاجتماعي: المخاطر والتحديات

🖨️ طباعة هذه المقالة

في عصر الهيمنة الرقمية، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أداة رئيسية في النضال السياسي، سواء لنشر الوعي أو لتنظيم الحركات الثورية والمدنية. غير أن الاستخدام الفعّال لهذه الوسائل يتطلب فهمًا دقيقًا للفرق بين التوعية والتوجيه، حيث يؤدي كل منهما دورًا مختلفًا في الصراع الطبقي. فالتوعية تستهدف الجماهير العريضة، وتهدف إلى كشف تناقضات النظام الرأسمالي وتحفيز الوعي السياسي، بينما يركز التوجيه على الكوادر السياسية والتنظيمية، بهدف تعميق المعرفة الفكرية وتعزيز القدرات التحليلية والاستراتيجية للأعضاء.

 

وسائل التواصل الاجتماعي: أداة ثورية أم سلاح ذو حدين؟

تمنح وسائل التواصل الاجتماعي الحركات اليسارية والمدنية قدرة على الوصول إلى جماهير واسعة، متجاوزة بذلك احتكار الأنظمة لوسائل الإعلام التقليدية. ولكنها في الوقت نفسه ليست مساحة محايدة، إذ تتحكم فيها قوى مسيطرة يمكنها توظيفها واستغلالها لمراقبة الحركات السياسية أو نشر التضليل الإعلامي أو حتى تفكيك التنظيمات من الداخل. لذا، فإن استخدامها بذكاء واستراتيجية يصبح أمرًا ضروريًا للحفاظ على فعاليتها كأداة لا يمكن تغافلها للنضال.
لا يمكن فصل أدوات الإنتاج — ومنها أدوات الإعلام الرقمي — عن البنية التحتية الاقتصادية التي تنتجها. فوسائل التواصل الاجتماعي ليست أدوات “محايدة” كما توحي بعض التصورات الليبرالية، بل هي نتاج علاقات الإنتاج الرأسمالية المتقدمة، وتخضع لمنطق السوق والربح. الشركات الكبرى مثل Meta وX (تويتر سابقًا) تعمل تحت مظلة احتكارية، حيث تُحوِّل البيانات إلى سلعة، وتُعيد إنتاج الأيديولوجيا السائدة بما يخدم الطبقة المسيطرة.
وبالتالي، فحتى لو استُخدمت هذه الأدوات من قبل القوى الثورية، فإنها تعمل في بيئة رقمية تُملي شروطها الخوارزميات التي تعزز الإثارة والسطحية، لا التحليل العميق. وهنا يتجلّى “السلاح ذو الحدين”: فبينما يمكن استغلالها للوصول إلى الجماهير، يمكن في الوقت ذاته احتواؤها وتحريف محتواها وتفريغه من مضمونه الثوري.

 

التوعية الجماهيرية والتوجيه الداخلي: تحديد الأهداف والاستراتيجيات

يجب أن يستند استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في العمل السياسي إلى فصل واضح بين التوعية الجماهيرية والتوجيه الداخلي، بحيث يخدم كل منهما غاياته المحددة:

  1. التوعية الجماهيرية: تهدف إلى نشر الفكر السياسي وتحفيز الجماهير على التفاعل مع القضايا السياسية والاجتماعية، مثل البطالة، والاستغلال الرأسمالي، وانتهاكات حقوق العمال. لذا، يجب أن يكون هذا المحتوى بسيطًا، واضحًا، وسهل المشاركة.
  2. التوجيه الداخلي: يعنى بتعزيز الوعي الفكري لدى الأعضاء والمناصرين، من خلال تحليل النظريات الماركسية، ومناقشة التجارب التاريخية، واستعراض الاستراتيجيات السياسية. هذا النوع من المحتوى يجب أن يكون أكثر عمقاً وتعقيدًا، بهدف تطوير قدرة الكوادر على التحليل والفهم العميق.

إن الفصل بين التوعية الجماهيرية والتوجيه الداخلي ينطلق من تحليل مستويات الوعي الطبقي

  • الوعي العفوي الذي ينبثق من التجربة المباشرة مع الاستغلال، الطائفية، الفساد، الخ
  • والوعي السياسي الذي لا يُكتسب بشكل طبيعي، بل يُنقل عبر التنظيم الثوري الواعي.
    وسائل التواصل الاجتماعي قد تكون وسيلة لنقل هذا الوعي السياسي شرط أن يُفصل بوضوح بين لغة الخطاب العام التي تُبسط المفاهيم لجذب شرائح أوسع من الطبقة العاملة، وبين الخطاب الداخلي الذي يصقل الكوادر ويجهّزهم نظريًا لمعارك فكرية وتنظيمية أعمق. الفشل في التمييز بين هذين المستويين يؤدي غالبًا إلى تبسيط مفرط أو نخبوية معزولة، وكلاهما خطران قاتلان لأي مشروع تحرري.

المجموعات المغلقة: التوجيه وليس الدعاية

من الأخطاء الشائعة في العمل السياسي عبر وسائل التواصل الاجتماعي استخدام المجموعات المغلقة كأداة للدعاية، رغم أن جمهورها الأساسي يتكوّن أصلًا من مؤيدين يتبنون نفس التوجهات الفكرية والسياسية. يؤدي هذا إلى إعادة تدوير الخطاب داخل دائرة مغلقة، مما يخلق حالة من الركود والانكفاء على الذات، ويحدّ من الانفتاح على رؤى جديدة، بدلًا من توسيع آفاق النقاش وتعزيز الوعي السياسي للأعضاء. لذا، ينبغي أن تُوظَّف هذه المجموعات كمساحة للحوار الفكري العميق، وتطوير قدرات الكوادر، وتعزيز الفهم الاستراتيجي، بما يسهم في بناء رؤية سياسية أكثر نضجًا وفاعلية.
في التنظيم الثوري، لا يجب التعامل مع “المجموعات المغلقة” كمساحة لعرض الولاء بل كـبنية فوقية لإعادة إنتاج الوعي الثوري بشكل نقدي وجدلي. فماركس لم يُشيد بالنقاش المغلق الذي يعيد تكرار نفسه، بل انتقد بشدة أي انغلاق دوغمائي يمنع الفكر من التطور.
المجموعات المغلقة يجب أن تتحول إلى فضاء تعليمي دائم، يُشبه نوعًا ما “مدرسة حزبية” افتراضية، يتم فيها تحليل الواقع المادي المتغير، وفهم تناقضاته، وبناء أدوات نظرية وتنظيمية تتجاوز الردود الانفعالية. إنها مختبر استراتيجي، لا منبر دعائي.

 

نحو استخدام فعّال لوسائل التواصل الاجتماعي

لذا يجب أن يكون استخدام وسائل التواصل الاجتماعي واعيًا واستراتيجيًا لتحقيق أهداف واضحة، وذلك عبر:

  • الفصل بين التوعية الجماهيرية والتوجيه الداخلي: بحيث يكون المحتوى الجماهيري بسيطًا ويركز على القضايا الاقتصادية والاجتماعية، بينما يتناول التوجيه الداخلي التحليل النظري العميق.
    • تعميق الفكر الماركسي والنقدي: بدلاً من الاكتفاء بالشعارات، يجب استثمار المنصات الرقمية في نشر تحليلات معمقة، وعقد ندوات مباشرة، وتنظيم نقاشات تفاعلية لبناء وعي نقدي بين المتابعين.
    • كسر العزلة داخل الدوائر المغلقة: يجب أن تتجنب الحركات اليسارية الانعزال داخل مجموعات النشطاء الملتزمين، وتسعى للوصول إلى جمهور أوسع من خلال استراتيجيات ذكية تستهدف الفئات العاملة والشباب.
    • الاستفادة من الأدوات الرقمية لتنظيم الحراك السياسي: يمكن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للتنسيق بين المجموعات، والتعبئة لحملات احتجاجية أو إضرابات عمالية، وتعزيز القدرة على التأثير الفعلي.
    • تحليل البيانات وتطوير الاستراتيجيات: يجب التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي كأداة ديناميكية تتطلب متابعة وتحليلًا مستمرين، مما يسمح بتطوير استراتيجيات أكثر فاعلية للوصول إلى الشرائح المستهدفة.

 

خاتمة

وسائل التواصل الاجتماعي ليست مجرد منصات للنشر، بل ساحات معركة رقمية تتطلب استراتيجيات واعية. فلا يكفي نشر الخطاب اليساري، بل يجب ضمان وصوله بفعالية إلى الفئات المستهدفة، وتعزيز وعيها السياسي، وتمكينها من أدوات التحليل والنضال.

لتحقيق ذلك، ينبغي الموازنة بين التوعية الجماهيرية والتوجيه الداخلي، وتجنب الانعزال داخل الدوائر المغلقة، مع استغلال التكنولوجيا بذكاء لتجاوز الرقابة وتوسيع التأثير. فنجاح القوى اليسارية لا يُقاس بعدد المتابعين، بل بقدرتها على تحويل الوعي الرقمي إلى فعل سياسي منظم يُحدث تغييرًا حقيقيًا في الواقع.
فالماركسية ليست نظرية للتفسير فقط، بل أداة للتغيير. ومن هذا المنظور، فإن النجاح لا يُقاس بـ”الانتشار”، بل بـ”التحوّل”: هل ساهم هذا الانتشار في بناء وعي طبقي قادر على تفكيك علاقات الهيمنة؟ هل نتج عنه تنظيمات قاعدية؟ هل تَرجَم الوعي إلى إضراب؟ إلى انتفاضة؟ إلى مشروع سياسي بديل؟
اليسار الذي ينخدع بفتنة الأرقام على وسائل التواصل قد يقع في فخ “النرجسية الرقمية”، بينما اليسار الثوري الحقيقي هو من يحوّل كل لايك أو تعليق إلى نقطة انطلاق في مشروع تعبوي منظم.

ما تقييمك لهذا المقال؟
⭐ متوسط التقييم: 5 من 5 (3 صوت)
📂 التصنيفات: مقالات

أضف تعليقًا

الحقول المشار إليها بـ * إلزامية.