الحركة الطلابية من التهميش الوظيفي إلى الطليعة الثورية

🖨️ طباعة هذه المقالة

في الدولة الريعية، حيث تُهيمن علاقات التوزيع على علاقات الإنتاج، وتقوم السلطة على التحكم بالريع وتوزيعه بدلًا من تحفيز الاقتصاد المنتج، يتحول التعليم إلى أداة لإعادة إنتاج البنية الطبقية عوضًا عن تفكيكها. فبدل أن يكون التعليم فعلًا تحرريًا يُنمي الوعي التاريخي والنقدي لدى الأفراد، يُختزل إلى وظيفة بيروقراطية، يُدفع إليها الشباب بدافع الحاجة لا الحلم، وبحثًا عن الأمان لا الحرية. وهكذا، يتشكل وعي زائف، يُقدّم الدولة كـ”راعية” بينما هي في الحقيقة قوة احتواء وإخماد للصراع الطبقي.

التعليم في الدولة الريعية: آلية لإعادة إنتاج السيطرة الطبقية

يعتمد الاقتصاد الريعي على الريع الخارجي (النفط، التحويلات، المعونات)، ما يُعفي الطبقة الحاكمة من الدخول في علاقة مباشرة مع الطبقات الكادحة من خلال الإنتاج، ويمنحها قدرة على توزيع الفتات بدلًا من إعادة هيكلة الاقتصاد لصالح الغالبية. وفي هذا السياق، تتضخم مؤسسات الدولة ومنها مؤسسات التعليم، ليس لتوليد المعرفة، بل كصمامات أمان اجتماعي، تُستوعب عبرها طموحات الشباب وطاقاتهم في قنوات مفرغة من الفعل الثوري.

فالدولة الريعية توسّع التعليم كمًّا دون أن تربطه بحاجات إنتاجية حقيقية، بل تدمجه في جهازها البيروقراطي المتضخم، مما يحوّل الجامعة إلى “مصنع للموظفين”، ويحوّل الطالب إلى أداة تنتظر التوظيف لا إلى ذات تسعى للتغيير. هذه البنية تُجهض الحلم الثوري داخل الجامعة، لكنها لا تقتله؛ بل تؤسس لوعي مزدوج، وعي مأزوم بين الانتماء إلى مؤسسة لا تؤمّن المستقبل، والانفصال عن مجتمع لا يعترف بالطالب إلا بوصفه عاطلًا محتملًا. وتبرز في هذا السياق حركات احتجاجية تطالب الدولة بالحصول على وظائف وهو نتيجة للصورة النمطية المشوهة للدولة باعتبارها رب العمل.

الطلاب كفئة ثورية: اغتراب ينتج وعيًا

في ظل هذه التناقضات، لا يُمكن للجامعة أن تبقى محايدة. إنها تمثل ساحة صراع بامتياز، حيث يلتقي التهميش الاجتماعي بالوعي السياسي، ويولد ما يُمكن تسميته بـالطالب المتمرد، وهو كائن طبقي مُنشق، لم يعد يرى في النظام القائم سوى جدار مسدود. إنه لا يُطالب فقط بوظيفة، بل يعيد مساءلة بنية الدولة، ومنطق الريع، وآلية التوزيع، والعنف الرمزي الذي يُمارس باسم التعليم.

هنا، يُمكننا القول إن الطلاب لا يشكلون طبقة بمفهوم ماركس التقليدي، لكنهم في السياق الريعي يشكلون ما يُشبه الطليعة الطبقية الثورية. فهم الفئة التي تقف على هامش الطبقات المستفيدة من الريع، وتتقاطع مع البروليتاريا في موقعها المهمّش، ومع المثقفين في وعيها النقدي. وبهذا المعنى، تتحول الحركة الطلابية من مجرد احتجاج اجتماعي إلى رافعة للعمل السياسي الثوري، تتجاوز المطالب الفئوية لتطرح الأسئلة الأكثر ثورية: من يملك؟ من يقرر؟ من ينتج؟ ومن يستفيد؟

من غياب الطبقة العاملة إلى بروز فئات بديلة: الطالب كطليعة تاريخية مؤقتة

واحدة من السمات البنيوية الأساسية للدولة الريعية، هي ضعف الطبقة العاملة الإنتاجية أو تهميشها البنيوي داخل الاقتصاد الوطني. فالدولة التي لا ترتكز على الانتاج، فلا تنتج ثروتها داخليًا، لا تُنتج طبقة عاملة واسعة ومتجذرة في دورة الإنتاج. وبدلًا من أن يكون للعمال موقع مركزي في بنية الاقتصاد والسياسة، يُحالون إلى هوامش النظام، أو يُستبدلون بعمالة أجنبية مؤقتة، أو يُدمجون في قطاعات خدمية لا تملك أدوات ضغط إنتاجي حقيقي.

في هذا الفراغ الذي تُحدثه هشاشة البروليتاريا، تبرز فئات أخرى تحمل سمات الطليعة الثورية. وفي مقدمة هذه الفئات، نجد الطلبة، الذين يُمثلون، في ظروف معينة، بديلًا طليعيًا مؤقتًا أو جزئيًا للطبقة العاملة. فهم لا يُنتجون القيمة، لكنهم ينتجون الوعي؛ لا يملكون وسائل الإنتاج، لكنهم يملكون أدوات المعرفة؛ لا يشكّلون كتلة اقتصادية مؤثرة، لكنهم يشكلون قوة رمزية وتنظيمية متقدمة.

بهذا المعنى، تُصبح الحركة الطلابية في الدولة الريعية أداة تعويضية للصراع الطبقي المؤجل، ورافعة رمزية يمكن أن تُحرّك الجمود الاجتماعي حين تغيب الأدوات التقليدية للثورة. إنها لا تلغي ضرورة وجود طبقة عاملة منظمة، لكنها تكشف أن الطليعة التاريخية ليست معطىً ثابتًا، بل موقع يُنتج تاريخيًا بحسب موازين القوى. وفي السياق الريعي، يكون الطالب — بما يحمله من تناقضات وطاقات ووعي — هو الأقدر على احتلال هذا الموقع، ولو مؤقتًا. كما ان الحركة الطلابية بفعل تعاملها مع المعرفة تكون أكثر الفئات الاجتماعية قدرة على التحرر من الهيمنة الثقافية للسلطة.

الجامعة: مختبر الثورة المؤجلة

لا تنجح السلطة دومًا في احتواء الجامعة. صحيح أنها توزّع المنح، وتراقب النشاط السياسي، وتستوعب الغضب داخل أروقة البيروقراطية، لكنها لا تستطيع كبح التناقض البنيوي بين وعودها ومآلات الواقع. فحين تنكسر العلاقة بين الشهادة والعمل، وبين التعليم والكرامة، يبدأ الطالب في التشكيك في شرعية الدولة ذاتها. ومع تصاعد هذا الوعي، تتحول الجامعة إلى مختبر للثورة المؤجلة، ومسرح يتكثف فيه صراع الطبقات في شكل رمزي، لكنه ينبئ بانفجار قادم.

ومن هنا، فإن كل حراك طلابي هو تمرين مبكر على الثورة، تمرينٌ يُعيد تعريف السياسة بوصفها صراعًا لا توافقًا، ويفتح المجال أمام إعادة بناء العلاقة بين المثقف والجماهير، بين النظرية والممارسة، بين الوعي والفعل.

من ضعف الحركة الطلابية إلى عجز المشروع الثوري

إن ضعف الحركة الطلابية لا يُقرأ بوصفه خللًا جزئيًا في حراك اجتماعي محدود، بل هو عرض مباشر لأزمة أعمق، تتمثل في فشل المشروع الثوري في تجذير نفسه داخل بنية المجتمع. فالحركات الثورية التي لا تملك امتدادًا في الجامعات، ولا تُنتج خطابًا قادرًا على استقطاب الطلبة، تبقى حركات معزولة، مُحاصَرة داخل هوامش النضال، وعاجزة عن بناء “الكتلة التاريخية” القادرة على قلب ميزان القوى.

فالطلبة ليسوا فقط جمهورًا احتجاجيًا؛ إنهم وقود الخيال السياسي، وشرط تجدد الخطاب، وطليعة الربط بين النظرية والممارسة. وحيث لا يوجد تنظيم طلابي ثوري، لا توجد ثورة مستمرة. لأن الثورة، كي تنجح، تحتاج إلى فئة تجرؤ على السؤال، وتملك الوقت والرغبة في الفهم، وتعيش التناقض في أوضح صوره: وهذا تمامًا ما يمثله الطالب.

خاتمة: من الجامعة إلى الشارع… ومن الوعي إلى الفعل

ليست الحركة الطلابية مجرد احتجاج على سوء الخدمات أو البطالة؛ إنها إعلان عن أزمة النظام بأكمله. إنها نداء طبقي يتجاوز الجدران، ويُعلن أن الدولة التي لا تنتج لا تستطيع أن تُقنع. إنها طليعة التغيير الثوري، حين يُصغي المثقف إلى الشارع، ويهجر الطالب وهم الانتظار، ويُدرك الجميع أن المعركة الحقيقية لا تُخاض داخل قاعات المحاضرات، بل في الشارع، في المصانع المغلقة، في الحقول المهجورة، وفي كل مكان يجب أن يُستعاد فيه الفعل البشري من قبضة رأس المال والريع والقمع الرمزي.

فكل جامعة تُخمد فيها الحركة الطلابية، هي جبهة ثورية تم إغلاقها؛ وكل طالب يُخرَج من السياسة، يُعاد إنتاجه كأداة لا كمواطن. وفي المقابل، كل مشروع ثوري ينجح في إعادة فتح الجامعة كفضاء للنقد والمواجهة، يكون قد ربح المستقبل، وبدأ الكتابة الحقيقية لتاريخه.

ما تقييمك لهذا المقال؟
⭐ متوسط التقييم: 5 من 5 (2 صوت)
📂 التصنيفات: مقالات

أضف تعليقًا

الحقول المشار إليها بـ * إلزامية.