الكمبرادور الجديد: قراءة في تحوّل وظائف اليسار

🖨️ طباعة هذه المقالة

في السنوات الأخيرة، شهدت بنية “اليسار العربي” تحوّلات دراماتيكية جعلته، في كثير من السياقات، يسارًا منزوع السياسة، مُدجّنًا، يتحرك في فضاءات المجتمع المدني المموَّل، ويعمل ضمن برامج “التحول الديمقراطي” القادمة من الخارج. هذه التحولات لا تُفهم من منظور داخلي صرف، بل من خلال تحليل بنية النيوليبرالية الكمبرادورية الجديدة: فئة هجينة من النخب المدنية، الإدارية التي لا تمثل مصالح شعبية أو وطنية، بل تُعيد إنتاج مصالح رأس المال العالمي، وتؤسس التبعية من موقع الوسيط المحلي.

إعادة تعريف السياسة: من الصراع إلى للورش والحلقات النقاشية…
الكمبرادور النيوليبرالي داخل اليسار لا يُهاجم السياسة مباشرة، بل يُعيد تعريفها بوصفها “حوكمة”، أو “شفافية”، أو “تمكين”، ويُقصي المفاهيم التي شكّلت تاريخيًا عُمق اليسار – كالطبقة، الصراع، إعادة التوزيع، والقطيعة مع بنى السيطرة. فيجري تهميش الأدبيات اليسارية الكلاسيكية (ماركس، غرامشي، لينين، سمير أمين)
في هذا الإطار، يتراجع التفكير السياسي الجذري لصالح تنظير بيروقراطي ناعم لا يزعج أحدًا: لا السلطة القائمة، ولا المانحين، ولا النخب الكمبرادورية. هكذا، يتحوّل كثير من الفاعلين في الحقل المدني إلى إعلاميين ونشطاء وخبراء في كتابة المشاريع وإعداد التقارير، بدل أن يكونوا منظمين سياسيين في الصراع الاجتماعي.
وبدل أن يكون الفاعل المدني حاملًا لمشروع سياسي تحرري ومنظم جماهيري، يتحول إلى بيروقراطي صغير، يجيد كتابة المشاريع، تنظيم ورش العمل، ورفع تقارير “الأثر” إلى المانحين. تتوارى مهمة التنظيم السياسي الجماهيري خلف ستار من الأنشطة الرمزية، فيصبح “النشاط” بديلاً عن “النضال”، و”المناصرة” بديلاً عن “المواجهة”.

التموضع في المجتمع المدني: بوابة لتدجين اليسار
في قلب هذا التحول نجد ما يُعرف بـ”المجتمع المدني” وقد أصبح هو الحاضنة الأساسية لأنماط العمل الجديدة التي يُعيد الكمبرادور النيوليبرالي تشكيلها. لم يعد المجتمع المدني ساحة مواجهة أو مساءلة شعبية، بل منصة شراكة دولية تُدار من خلال التمويل، وتقنيات القياس، والمخرجات القابلة للعرض.
وفي هذا السياق، يتراجع العمل السياسي التمثيلي والتنظيمي لصالح “الورشات”، “المؤتمرات”، و”برامج الشفافية”. أما اليسار الذي كان يفترض به أن يقود هذا الفضاء من موقع نقدي تحرري، فقد اندمج في هذا الإطار بوصفه فاعلًا ضمن منظومة إدارة التغيير لا منظومة النضال من أجل تغييره.

تفريغ النقابات والاتحادات من مضمونها الجماهيري
الأخطر من إقصاء التنظيمات الشعبية هو تفريغها من مضمونها، وتحويلها إلى واجهات نخبوية لا تمتلك قاعدة اجتماعية حقيقية. فالنقابات العمالية، واتحادات الطلبة، والروابط المهنية – التي كانت في لحظات سابقة أدوات مقاومة – باتت في كثير من الحالات تُدار من قبل كوادر نخبوية أو مدنية تنتمي فعليًا إلى البنية الكمبرادورية.
هذه المؤسسات لم تُؤسس بالضرورة حديثًا، بل هي عريقة وذات جذور نضالية، لكن بفعل تأثير النيوليبرالية الكمبرادورية – التي تُعبّر عن مصالح طبقية خارجية – جرى تحويلها إلى كيانات تُدار بمنطق التقييم والمخرجات، لا التعبئة والتأطير.
لكن الأخطر من مجرد استبعاد هذه الأطر الشعبية، هو تفكيك دورها الأصلي وتحويلها إلى واجهات نُخبوية هامشية. فالكومبرادور النيوليبرالي الجديد لا يكتفي بإقصاء التنظيمات العمالية والطلابية، بل يُعيد تشكيلها من الداخل لتتماهى مع شروط التمثيل المقبول تمويليًا، لا القاعدي سياسيًا.
فنجد “نقابة مستقلة” لا تضم سوى مئات الأعضاء من أصل ملايين، أو “اتحاد طلابي” يُهيمن عليه طلاب مرتبطون بالتمويل والمنظمات الأجنبية، ينظرون اننا اتحاد للنوع وليس الكم ليُستبعد الأغلبية من العمل السياسي والتعبوي الحقيقي. بهذه الطريقة، يُعاد إنتاج هذه المؤسسات التمثيلية لا بوصفها أدوات مقاومة، بل بوصفها مساحات رمزية للشرعية الشكلية، تُمنح لتزيين مشهد مدني نُزعت منه كل مضامينه الصراعية.
هذا التحول ليس مجرد “تقييد سياسي” من الدولة، بل تعبير عن هيمنة طبقية معولمة، تُمارس سلطتها من خلال أدوات “مدنية” تبدو بريئة، لكنها تُعيد إنتاج السيطرة من خلال اختراق وإضعاف أدوات المقاومة الجماعية. لينتج مجتمع مدني هش، تديره نخب تمويلية معزولة، وتُمثَّل فيه الطبقات الشعبية كأرقام في التقارير لا كقوة سياسية.
لكن الأخطر من كل ذلك، أن هذا التفكيك لا يُقصي فقط على ما هو موجود جالياً، بل يُجهض كذلك ما هو ممكن مستقبلاً. فهو يعيد تشكيل وعي المنتسبين الجدد لهذه المؤسسات، فيجعلهم يرون النقابة أو الاتحاد كمجرد وسيلة للحصول على التمويل أو التدريب، لا كأداة للصراع وتغيير شروط الحياة. ويصبح التنظيم شكليًا، بل وظيفيًا، خاليًا من أي مشروع سياسي أو أفق تحرري.

يسار التمويل: واجهة تقدمية لهيمنة ناعمة
هكذا، يُعاد إنتاج “يسار ناعم” يُموَّل، يُدار، ويُستخدم بوصفه واجهة تقدمية للهيمنة الإمبريالية الناعمة. إنه يسار لا يطالب بإعادة توزيع الثروة، ولا بتفكيك البنية الطبقية، بل يدير نفسه ضمن سقف التمويل الدولي، ويكتفي بتمثيل “الواقعية السياسية” بدل أن يُبشّر بأفق تحرري. يرفع الشعارات مناهضة للطائفية والفساد ان كان ذلك ضرورياً، لكنه يحرص لا تتوفر أدوات تحقيقها.
فلا تنبع خطورته من تناقض نواياه، بل من وظيفته البنيوية كوكيل معرفي للتبعية. فهو يعطّل تشكل كتلة تاريخية جديدة، ويمنح السلطة الطائفية الفاسدة القائمة والمركز الإمبريالي شهادة “مشاركة” عبر مشاريعه ولغته التكنوقراطية.

استعادة السياسة، استعادة اليسار
إن نقد هذا النموذج لا يعني الانغلاق أو رفض قيم العصر، بل العكس تمامًا: إنه يعني تحرير اليسار من شروط التبعية والتمويل، وإعادة بنائه كحركة سياسية/اجتماعية تعبّر عن قاعدة منتجة، لا كوكيل إداري لمراكز التمويل.
فلا يسار بدون سياسة، ولا سياسة بدون تنظيم، ولا تنظيم بدون قاعدة اجتماعية. أما المشروع التكنوقراطي المموّل، فليس يسارًا، بل نسخة تقدمية مُزيّفة للكمبرادور المعولم.
الكمبرادور النيوليبرالي داخل اليسار العربي ليس فاعلًا تقنيًا فقط، بل أداة لتفكيك السياسة، تفريغ التنظيمات، وتعطيل الصراع الاجتماعي. واستعادة اليسار إذًا، ليست مجرد استعادة لخطاب قديم أو حنين إلى رموز تاريخية، بل هي معركة مزدوجة: معركة ضد الأفكار التي تصوّر التغيير كعملية إدارية تقنية، وضد الوكلاء “المدنيين” الذين يروّجون لهذا الوهم بلغة التقدم وحقوق الإنسان. إنها معركة من أجل إعادة بناء يسار يكون فيه المشروع السياسي واضحًا، والتنظيم صلبًا، والارتباط بالقاعدة الاجتماعية عضويًا.

ما تقييمك لهذا المقال؟
⭐ متوسط التقييم: 4.5 من 5 (2 صوت)
📂 التصنيفات: مقالات

أضف تعليقًا

الحقول المشار إليها بـ * إلزامية.