من النقابة إلى الثورة: هل يمكن للنضالات اليومية أن تتحوّل إلى مشروع للتغيير الجذري؟

في سياق تصاعد الاحتجاجات الشعبية في عدد من الدول نتيجة لتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، يبرز النضال المطلبي كأحد أشكال للتعبير الجماهيري عن الاستياء العام. وتتنوع المطالب بين تحسين الأجور، وتوفير شروط عمل ملائمة، وضمان الخدمات الاجتماعية، وتحقيق قدر من العدالة الاقتصادية. وعلى الرغم من شرعية هذه المطالب وواقعيتها، فإن اختزال النضال في بعدها المطلبي دون ربطها بأفق سياسي تحرّري يُعدّ خطرًا استراتيجيًا حقيقيًا.
ذلك أنّ غياب التأطير السياسي، وعدم توفر رؤية واضحة شاملة للأهداف والمهام السياسية، يُحوّل هذه التحركات الجماهيرية إلى طاقات قابلة للاحتواء أو التوظيف من قِبل قوى شعبوية او رجعية. وفي كثير من الحالات، تنجح السلطة الحاكمة، من خلال مؤسساتها، في الالتفاف على المطالب من خلال تقديم تنازلات ظرفية لا تمسّ البنية السلطوية القائمة، وهو ما يُعيد إنتاج الوضع القائم بدل تغييره.
إشكالية العفوية وغياب التنظيم السياسي الثوري
تواجه الحركات الاجتماعية، في الغالب، صعوبة في الانتقال من المطالب الاجتماعية والاقتصادية الآنية إلى مشروع سياسي جذري قادر على تقويض النظام القائم. ويعود ذلك، في جوهره، إلى غياب بنية تنظيمية سياسية فاعله تؤطّر الحراك وتمنحه أفقًا استراتيجيًا.
فالعفوية، رغم قدرتها على إطلاق شرارة الحراك، فإنها تتحوّل إلى نقطة ضعف في حال غياب قيادة قادرة على توجيه هذا الزخم الشعبي نحو أهداف بعيدة المدى. وغالبًا ما تُبدَّد الطاقات الجماهيرية في تحركات مشتتة تفتقر إلى التنسيق، مما يجعلها عرضة للتراجع أو الاحتواء، ولتكريس حالة اليأس والنكوص.
وتزداد خطورة هذا الوضع في ظلّ استخدام السلطة لأدواتها القمعية، في غياب أدوات حماية ذاتية، واستراتيجيات تنظيمية قادرة على تأطير الصراع ضمن مشروع طويل الأمد.
أزمة القيادة الحزبية والبنية التنظيمية
من أبرز ما تعانيه الحركات الشعبية المعاصرة هو غياب قيادة حزبية تمتلك مشروعًا تحرريًا وفق مهام واضحة، وتتمتع بالقدرة على الربط بين النضالات المطلبية اليومية والصراع السياسي الشامل. هذا الغياب غالبًا ما يترافق مع قطيعة بنيوية بين التنظيمات السياسية اليسارية والتقدمية والقواعد الجماهيرية، بما في ذلك النقابات والمنظمات الجماهيرية.
ففي الوقت الذي تهيمن فيه قوى رجعية أو بيروقراطية على عدد من هذه المنظمات الجماهيرية، مما يُفرغها من مضمونها النضالي، تبقى بعض القوى ذات الخطاب اليساري او المدني على اقل تقدير محصورة في أطر نخبوية محدودة التأثير ولا تتمتع بامتداد شعبي فعّال.
هذه الأزمة المزدوجة تُفضي إلى فراغ تنظيمي واسع، يجعل الجماهير إما تحت قيادة تُعيد إنتاج النظام القائم، أو دون تمثيل فعلي يعكس مصالحها.
وفي ظل غياب مشروع سياسي تحرّري واضح، تتقدّم القوى الرجعية والشعبوية لملء الفراغ القائم، ساعية إلى تحويل النضالات الاجتماعية إلى مطالب سطحية لا تمسّ جوهر البنية السياسية أو الاقتصادية.
وتُسهم هذه القوى في إعادة إنتاج السلطة عبر تقديم حلول وهمية ضمن إطار النظام ذاته، فتُفرغ الحراك من بعده السياسي-الاجتماعي وتُعيد توجيهه لخدمة توازنات قائمة بين النخب.
وعلاوة على ذلك، تسعى أطراف دينية أو طائفية أو قومية إلى استثمار هذه التحركات لصالح مشاريعها الإيديولوجية، ما يُحوّل الصراع من مواجهة جذرية للبنية الطبقية إلى صراعات هوياتية تُقوّض وحدة الجماهير وتُكرّس التبعية للنظام القائم.
محدودية الوعي السياسي والطبقي لدى الجماهير
إنّ الانخراط في النضال المطلبي، رغم ضرورته، لا يُنتج بالضرورة وعيًا سياسيًا أو طبقيًا راسخًا. فكثير من الفئات المشاركة تتحرك انطلاقًا من دوافع ذاتية معيشية آنية، دون امتلاك تصور متكامل حول طبيعة الأزمة أو ارتباطها ببنية النظام السياسي والاجتماعي.
ويُتيح هذا الغياب في الوعي المجال أمام صعود خطابات رجعية تُعيد إنتاج علاقات السيطرة والهيمنة، وتُعيق بلورة مشروع بديل ثوري. كما أنّ بقاء المطالب الاقتصادية والاجتماعية خارج إطار مشروع سياسي حقيقي يجعلها عرضة للتفريغ من مضمونها، لتُصبح قابلة للاحتواء عبر تنازلات مؤقتة هدفها امتصاص الغضب الشعبي دون المساس بالبنية العميقة للنظام. وقواه المسيطرة
خاتمة
إنّ اختزال النضال الجماهيري في مطالبه الاقتصادية والاجتماعية دون تأطير سياسي ثوري يُفرغه من قدرته على إحداث تغيير جذري. فغياب القيادة والتنظيم، وضعف الوعي الطبقي، يفتح المجال أمام قوى رجعية لاحتواء الحراك وإعادة إنتاج النظام القائم. وعليه، لا يمكن لأي نضال مطلبي أن يحقق تحولًا حقيقيًا ما لم يُدرج ضمن مشروع سياسي تحرّري شامل، يمتلك الأدوات الفكرية والتنظيمية والجماهيرية السياسية الضرورية، ويسعى ضمن برنامج ومهام حزبية واضحة لتقويض البنية الاقتصادية والسياسية القائمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *