العلاقة بين الحزب والمنظمات الجماهيرية ليست تنسيقًا خارجيًا أو تحالفًا ظرفيًا، بل علاقة عضوية تُجسّد مدى تجذّر الحزب في نضالات الطبقات الشعبية. في المنظور الماركسي، لا تُعدّ هذه الأطر أدوات استدعاء أو فضاءات تكتيكية، بل ساحات فعل حقيقي تتبلور فيها الصراعات الطبقية ويتشكل فيها الوعي الجماعي. الحزب الثوري لا يقف على هامشها، بل يعيش داخلها، من خلال نواة تنظيمية متجذّرة تُحوّل الغضب الشعبي إلى قوة سياسية واعية.
هذه العلاقة ليست مصلحية أو مؤقتة، بل تفاعل حيّ يرتبط بمشروع سياسي يربط بين المهام اليومية والتحولات الاستراتيجية. الحزب لا يختزل هذه الأطر إلى أدوات بيروقراطية، لكنه أيضًا لا يذوب فيها حتى يفقد دوره الطليعي. إنها علاقة جدلية: يرفع الحزب وعي الجماهير من جهة، ويتطور هو نفسه من خلال التجربة الميدانية من جهة أخرى. بهذا المعنى، العلاقة ليست تقنية ولا ظرفية، بل جزء عضوي من العملية التاريخية للثورة.
النواة الثورية: المحرك الداخلي للمنظمات الجماهيرية
النواة الحزبية في الأطر الجماهيرية ليست جهازًا إداريًا معزولًا، بل هي القلب النابض الذي يضخ الوعي السياسي والتنظيم داخل الجسد الجماهيري. وجودها لا يقوم على التنسيق الشكلي، بل يُعبّر عن انغراس فعلي للحزب في صلب الحياة اليومية للصراع الطبقي.
هذه النواة تشكّل همزة الوصل بين العفوية الشعبية والمشروع الثوري، وهي الضامن لتحويل التنظيمات من أدوات مطلبية إلى قنوات فعل سياسي موجّه. لا تتصرف النواة من موقع قيادة فوقية، بل تنخرط في العمل الميداني، تعيش هموم الناس، وتعيد إنتاج أدوات التنظيم الذاتي وتطوير الوعي الجماعي.
النواة لا تبقى على حالها؛ بل تتجدد من خلال استيعاب الكوادر النشيطة من القواعد الجماهيرية، وتُعيد إنتاج ذاتها تنظيمياً وسياسياً بناءً على المتغيرات الواقعية. إنها ليست مندوبًا للحزب في التنظيم، بل طليعة متجذرة تكتسب شرعيتها من التجربة والنضال، لا من التعيين المركزي.
وجود نواة ثورية فعالة داخل هذه التنظيمات هو ما يحوّلها من تجمعات مشتتة إلى أدوات تنظيم اجتماعي ثوري، ويمنحها البنية التحتية اللازمة لإحداث اختلال حقيقي في ميزان القوى.
العمق أم الانتشار؟ جدل التأثير الحزبي
السؤال الدائم: هل الأفضل للحزب أن يرسّخ تأثيرًا عميقًا في تنظيم جماهيري صغير، أم أن يسعى للانتشار في تنظيم جماهيري واسع؟
الجواب لا يكمن في المفاضلة بين العمق والاتساع، بل في الدمج الجدلي بينهما. فالترسّخ في تنظيم ضيق قد يبني نواة صلبة، لكنه يبقى معزولًا نخبوياً بلا تأثير، بينما الانتشار العددي دون تأثير نوعي ينتج سطحية لا تصنع تغييرًا حقيقيًا.
المطلوب هو بناء نواة ثورية داخل تنظيم جماهيري واسع، بحيث توفر له هذه النواة الوضوح السياسي، وتستفيد هي بدورها من الفضاء الأوسع للحركة والتأثير. نجاح الحزب يُقاس بقدرته على تحويل هذه التنظيمات إلى أدوات نضال سياسي مباشر، لا بعدد الحضور أو العضوية فقط.
من يقود يكشف من يبني: مقياس الفعل التنظيمي
إن وجود قيادات شابة فعالة داخل الحزب لا يُعدّ مجرد مؤشر شكلي على “التجديد”، بل هو دليل ملموس على أن الحزب نجح في بناء منظمات شبابية واسعة وفعالة. فالشباب لا يظهرون في القيادة تلقائيًا، بل يصعدون نتيجة عمل تنظيمي عميق وملموس وجذور حقيقية في الأوساط الطلابية والشبابية. وهذا ينطبق أيضًا على القيادات العمالية: عندما تضم قيادة الحزب عناصر من صلب الطبقة العاملة، فهذا يعني أنه تمكن من بناء نقابات فاعلة ومؤثرة، لها حضور حقيقي في مواقع الإنتاج وفي معارك العمل.
الكادر الحزبي لا يُقاس بشعارات الولاء النظري ولا بترديد الخطاب، بل بقدرته على التنظيم والانخراط الفعلي في الواقع، وترجمة هذا الحضور ببناء منظمات جماهيرية واسعة وفعالة، تضم مئات الآلاف من الناس، تعبّر عن مصالحهم وتدافع عنها، ومن لا يحوز على ثقة الناس من خلال العمل اليومي، لا يستحق موقعاً في القيادة، مهما كانت صلاته بالمركز أو علاقاته الشخصية. القيادة الحقيقية تُنتزع في الميدان، لا تُمنح في الغرف المغلقة. وكلما ابتعدت تركيبة القيادة عن هذا المعيار، كانت مؤشراً على أزمة تجذّر الحزب في المجتمع، وعلى تفشي أمراض المحسوبيات والتوازنات الفوقية التي تفكك بنيته وتُفرغه من مضمونه.
إذا وُجدت هذه القيادات – الشابة أو العمالية – في مواقع متقدمة دون أن يكون الحزب قد نجح فعلًا في بناء منظمات جماهيرية واسعة وفاعلة في مجالاتهم، فإن ذلك يشير إلى أزمة تنظيمية وقيمية خطيرة. وجود قيادة لا تستند إلى تجربة نضالية حقيقية يعني أن الحزب فقد بوصلته، وأن آليات الترقي فيه أصبحت مفصولة عن العمل الميداني. وهذه الحالة لا تؤدي فقط إلى العجز، بل تمثل خطرًا داخليًا قادرًا على تقويض الحزب من الداخل، عبر تكريس نخبة شكلية تفرغ القيادة من معناها، وتقطع الصلة بين الحزب وجذوره الجماهيرية.
من التعبئة إلى التنظيم الثوري: قلب مفهوم العمل الجماهيري
غالبًا ما يُختزل العمل الجماهيري في التعبئة الموسمية أو الحشد الانتخابي، مما يُفرغه من مضمونه الثوري. لكن الفهم الماركسي لهذا العمل يجعله جزءًا من مشروع التغيير الجذري. لا يتجاهل المطالب اليومية، بل يربطها بأفق استراتيجي أشمل.
عندما تُقاد هذه الأطر بوعي ثوري، تتحول إلى أدوات بناء سياسي واجتماعي. النقابات تصبح ساحات للصراع الطبقي، واتحادات الطلبة تتجاوز المطالب الجامعية لتخوض مواجهة مع سياسات الدولة.
الحزب لا “يستخدم” هذه الأطر، بل يعيد تشكيلها ضمن مشروع ثوري متكامل. من خلال كوادره، يتحوّل العمل الجماهيري من احتجاج موسمي إلى أداة لإعادة صياغة التوازنات الاجتماعية والسياسية. فالتنظيم هو السبيل لتحويل الجمهور المنفعل إلى قوة واعية ومؤثرة.
خاتمة
العلاقة بين الحزب والمنظمات الجماهيرية ليست خيارًا تنظيميًا أو قرارًا تكتيكيًا عابرًا، بل معيار جوهري لمدى جدية الحزب في بناء مشروع ثوري حقيقي. الحزب الذي يتمكن من تنظيم الفئات الشعبية داخل أطر جماهيرية حية، ويغرس نواته الثورية داخلها، هو الوحيد القادر على تحويل الغضب الاجتماعي إلى قوة سياسية واعية.
فالثورة لا تُصنع بالنوايا ولا بالتنظيرات، بل بالتنظيم، وبحضور حي داخل نضالات الناس اليومية.