في قلب منطقة تتسم بالصراعات والتنافسات الدينية والتدخلات الخارجية والتوترات الجيوسياسية، تبدو الكويت لاعباً فريداً من نوعه. ورغم أنها دولة صغيرة من حيث الحجم الديموغرافي والعسكري، إلا أنها تمكنت من فرض حضورها على الساحة الدبلوماسية بفضل سياستها الخارجية تعتمد على الحياد النشط والبراغماتية وخاصة دور الوساطة الفعال على امتداد العقود السابقة.
وبعيداً عن طموحات الهيمنة الإقليمية، فإن الكويت قادرة على لعب دور وسيط سلام مقبول مستقبلا، شريطة أن تعزز نقاط قوتها وتتغلب على بعض القيود البنيوية والصعوبات الراهنة .
تقع الكويت عند مفترق طرق إستراتيجي في الخليج، بين ثلاث أقطاب إقليمية رئيسية: المملكة العربية السعودية وإيران والعراق. هذا الموقع، الذي يتميز بمحوريته وأهميته، من جانب، ومحدودية عمقه الجغرافي، من جانب آخر. دفع دولة الكويت على امتداد تاريخها الحديث والمعاصر، إلى نهج تبنت خلاله مواقف دبلوماسية متوازنة .
بعد فترة الغزو العراقي، أعادت البلاد بناء سياستها الخارجية من خلال مبادئ تزاوج بين الأبعاد الأمنية والدبلوماسية، وتطوير شبكة من التحالفات الإقليمية والدولية الوازنة.
ودأبت دولة الكويت على تعزيز مسار دبلوماسي فريد، تميز بعدم سعيها لفرض أي رؤية أيديولوجية أو دينية في المنطقة. حث تحافظ على علاقات أخوية متميزة وعميقة مع شقيقاتها بدول مجلس التعاون الخليجي. كما تتواصل بشكل جيد مع الجارة القريبة إيران. وتتميز الكويت بمواقفها التاريخية في دعم القضية الفلسطينية، إضافة إلى توجهاتها الثابتة في تعزيز العلاقات مع محيطها العربي. وتسمح هذه المرونة الدبلوماسية الكويتة بإقامة جسور بين الجهات الفاعلة ذات المصالح المتباينة.
الدبلوماسية الكويتية.. مصدر للثقة والمصداقية
تعتمد الدبلوماسية الكويتية على تقاليد عريقة ووساطات فعالة بين دول الإقليم، أشادت بها المنظمات الأممية وثمنتها المحافل الدولية في كثير من المناسبات. ومن الأمثلة البارزة على ذلك دور الكويت الفاعل في 2017 خلال أزمة قطع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر لعلاقاتها مع قطر. وخلال هذه الأزمة كان أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أحد القادة القلائل القادرين على التواصل مع كافة أطراف الأزمة، والعمل على محاولة رأب الصدع بين الأشقاء. علاوة على ذلك، شاركت الكويت في البحث عن حلول دبلوماسية متوازنة للصراع في اليمن والنزاع في سوريا، من خلال استضافة المفاوضات أو تمويل المبادرات الإنسانية والإغاثية بإشراف أممي. وتساعد هذه الدبلوماسية الهادئة واللاصدامية تساهم إلى حد كبير في بناء الثقة المتبادلة، في ظل سياقات إقليمية يسود فيها مناخ من الحذر والصراع.
الكويت مركز للعمل الإنساني في خدمة السلام العالمي:
وتعتبر الكويت أيضًا فاعلا إقليميا ودوليا رئيسيًا في مجال المساعدات الإنسانية. وتعد من أبرز المانحين الرائدين في العالم العربي في مجالات الإغاثة في حالات الطوارئ والتنمية وإعادة الإعمار بعد الصراعات. وتشكل هذه “القوة المالية الناعمة” أداة استراتيجية لتعزيز السلام، من خلال دعم الاستقرار في المناطق المتضررة من الحرب، مثل العراق واليمن وقطاع غزة، إضافة إلى مناطق أخرى في كافة أنحاء العالم.
وفي عام 2018، استضافت الكويت مؤتمرا دوليا لإعادة إعمار العراق، شارك فيه عشرات الدول والمؤسسات. متبنية بذلك دور الوساطة الاقتصادي الناجع الذي يجمع بين التضامن والتأثير، يمكن أن يتعزز خلال السنوات القادمة، وخاصة في فترات الانتقال التي أعقبت مراحل صراع، حيث تشهد عدد من دول الشرق الأوسط مثل سوريا ولبنان.
نحو دور متزايد في المنظمات الإقليمية المتعددة الأطراف:
يمكن للكويت أيضاً أن تعمل على تعزيز دورها داخل المؤسسات الإقليمية والدولية، وتعزيز النهج الجماعي لتحقيق السلام والأمن. وفي إطار مجلس دول التعاون الخليجي. وتستطيع الكويت أن تدعو من خلال هذه المنابر إلى سياسة خارجية متناسقة وغير صدامية. إضافة إلى إطلاق حوار أمني إقليمي أوسع نطاقا، يشمل إيران والعراق وغيرهما من الفاعلين الرئيسيين.
كما تستطيع الكويت أن تقدم نفسها كصوت معتدل يدعم القانون الدولي في المحافل العالمية والإقليمية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية. كما يؤكد على عدم التدخل وحل النزاعات سلميا وحماية المدنيين خلال الصراعات. وتكتسب هذه المواقف مصداقية أكبر لتوافقها مع الممارسات الدبلوماسية المتأنية والحكيمة.
ورغم هذه المزايا، فإنه يتعين على الكويت أن تواجه عددا من التحديات الفعلية، إذا كانت ترغب في لعب دور فاعل ومتماسك في مسار بناء السلام الإقليمي. وفي مواجهة المنافسة الإقليمية، سيتعين على الكويت تعزيز قدراتها الدبلوماسية، وتدريب نخبها على الوساطة الحديثة، وتكييف خطابها مع التهديدات الجديدة (من أبرزها الأمن السيبراني، والتحول المناخي، وغيرها من الملفات..).
وتتمتع الكويت بإمكانات حقيقية للمساهمة في إحلال السلام في الشرق الأوسط، مستفيدة من مسارها المحايد وغير المنحاز ودبلوماسيتها المتوازنة والتزامها الإنساني المتعارف عليه أمميا ودوليا ورهانها على الحوار سبيلا لفض المشكلات القائمة. وفي بيئة تتناقص فيها الثقة وتتوسع التوترات، يمكن للكويت أن تجسد نموذجاً ناجعا للوساطة، وقادرا على جمع الخصوم، ودعم وبناء شبكة علاقات إقليمية أكثر استقراراً.
ولكي يتحقق هذا الدور، يتعين على الولايات المتحدة أن تعمل على تكييف أدواتها الدبلوماسية، والحفاظ على مواقفها المحايدة، وتعزيز تحالفاتها متعددة الأطراف، حتى تتمكن من التأثير بشكل أكبر على التوازنات الإقليمية مستقبلا.