الكاكيستوقراطية: حين تصبح الرداءة منظومة حُكم داخل المؤسسات

في بيئة العمل المعاصرة، لم تعد التحديات محصورة في المنافسة أو ضغوط السوق، بل بات الخطر الأكبر في بعض المؤسسات كامناً في نمط غير مرئي لكنه فعّال، يعبث بالمنظومة من الداخل، ويقوّض مبادئ المهنية والشفافية والتطور. إنه نمط “الحُكم بأسوأ العناصر”: الكاكيستوقراطية.

الكاكيستوقراطية (Kakistocracy) مصطلح مشتق من الكلمة اليونانية “kakistos” وتعني “الأسوأ”. يُشير إلى نظام تُسند فيه المناصب والمواقع القيادية إلى الأفراد الأقل كفاءة وخبرة، وغالبًا ما يكونون الأقل التزامًا بالقيم المؤسسية، نتيجة توازنات داخلية غير شفافة، أو اعتبارات شخصية، أو ثقافة ولاء تحكمها المحاباة لا الاستحقاق.

هذا النمط من الحوكمة لا يتجسد بالضرورة في قرارات فجّة أو إدارات استبدادية، بل يتغلغل بهدوء في البنية المؤسسية، ويعيد تشكيل ثقافة العمل تدريجيًا. يُصبح المعيار للترقية ليس الأداء، بل القدرة على التكيّف مع منظومة الولاء، وغضّ الطرف عن مظاهر الخلل، بل والمشاركة فيها أحيانًا. ومع مرور الوقت، يُقصى الكفء لأنه صريح، ويُهمّش المجتهد لأنه يُربك التوازن القائم، وتُكافأ الرداءة لأنها لا تُهدد أحدًا.

ما إن تترسّخ الكاكيستوقراطية حتى تبدأ المؤسسة في فقدان حيويتها، رغم ما قد يبدو من استقرار خارجي. يتراجع مستوى المبادرة، وتتحول فرق العمل إلى كيانات تتنافس على البقاء لا على التميز. تغيب ثقافة المساءلة، وتذبل روح النقد البنّاء، ويُستبدل الطموح المهني بحسابات البقاء داخل المعسكر الصحيح.

النتائج لا تلبث أن تظهر: ضعف في إنتاجية الفرق، تسرب الكفاءات الصامت، انتشار ثقافة الخوف والتملق، وفقدان القدرة على اتخاذ قرارات استراتيجية. الكاكيستوقراطية تخلق مؤسسات جامدة، تبدو حية في الشكل، لكنها خاملة في الجوهر، غير قادرة على الابتكار أو الاستجابة للتغيرات، لأنها رهينة مصالح ضيقة وأصوات غير مؤهلة.

التحدي الأكبر في هذا النمط لا يكمن فقط في ضرره الإداري، بل في قدرته على التنكر. فهو لا يُعلن عن نفسه، ولا يرفع شعارات مضادة للكفاءة. بل يتستر خلف شعارات “الاستقرار” و”الخبرة المتراكمة” و”الانسجام الداخلي”، في حين أنه يُعيد توزيع السلطة بطريقة تُقصي أصحاب الرؤية، وتُكرّس منطق الولاء المغلق.

فهل من سبيل للخروج من هذه الدوامة؟

المؤسسات التي تسعى للتطور الحقيقي مطالبة أولًا بامتلاك الشجاعة المؤسسية للاعتراف بالمشكلة. فالكفاءات لا تُنبت في بيئة تخاف من النقد، ولا تنمو في مناخ يُكافئ السكون ويعاقب الحِراك. الحل ليس في استبدال أشخاص، بل في إعادة بناء الثقافة التنظيمية، على أسس واضحة: الشفافية، الاستحقاق، المحاسبة، واحترام الصوت المهني، حتى وإن خالف السائد.

المؤسسة الصحية ليست تلك التي تخلو من الاختلاف، بل تلك التي تُدير التعدد بذكاء، وتمنح الكفاءات فضاءً للحركة، دون أن تخشى اهتزاز مواقع النفوذ التقليدية. التغيير الحقيقي يبدأ من الإدراك بأن الحفاظ على الرداءة لحماية التوازن الداخلي، هو في حد ذاته قرار استراتيجي يقود حتمًا إلى التراجع.

الكاكيستوقراطية ليست ظاهرة هامشية. إنها خطر ممنهج، ومرض إداري بطيء، لا يُحدث صدمة آنية، بل يُراكم الضعف حتى ينهار البناء من الداخل. وكلما طالت فترته، ازدادت كلفة العلاج، وقلّ احتمال الاسترداد.

المؤسسات التي تنشد البقاء والتفوق مطالبة باجتثاث هذه الظاهرة من جذورها، وبناء بيئة تُعلي من قيمة الجدارة لا الانتماء الضيق. لأن التميز لا ينمو في تربة الرداءة، والنهوض لا يكون إلا بأيدي الأكفاء، مهما كانت أصواتهم عالية… أو مُربكة.

One thought on “الكاكيستوقراطية: حين تصبح الرداءة منظومة حُكم داخل المؤسسات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *