غالبًا ما تتداخل مفاهيم التعبير عن الرأي الجماهيري، لكن الفرق بين التمرد (Rebellion/Insurrection) والاحتجاج (Protest) يتجاوز مجرد الدلالة اللغوية، ليعكس موقفًا قانونيًا، سياسيًا، وأخلاقيًا بالغ الأهمية. فهم هذا التمييز ضروري لتحديد طبيعة أي حراك جماهيري، وكيفية تعامل السلطات معه، وحقوق الأفراد المشاركين فيه.
الاحتجاج هو تعبير جماعي عن الرفض أو الاعتراض على سياسة أو قرار معيّن، ويُعد عادةً سلميًا في طبيعته، متضمنًا أشكالًا مثل المسيرات، الاعتصامات، ورفع اللافتات. هذا الحق في الولايات المتحدة الأمريكية محمي بقوة بموجب التعديل الأول في الدستور الأميركي، ويُقابل عادةً بضبط بسيط من قبل السلطات، وقد يتخلله تفاوض مع المحتجّين. يُنظر إلى الاحتجاج كحق ديمقراطي أساسي يضمن حرية التعبير والمساءلة.
على النقيض تمامًا، التمرد هو عمل جماعي يهدف إلى تحدي أو إسقاط سلطة شرعية قائمة، غالبًا باستخدام القوة أو العصيان المسلح. يتضمن التمرد عادةً استخدام العنف، العصيان المدني، أو السيطرة على مواقع حيوية. يُعدّ التمرد جريمة خطيرة بموجب القانون الفيدرالي إذا تجاوز حدود التعبير السلمي، ويستدعي تدخلًا أمنيًا وعسكريًا، وقد يتم تفعيل “قانون التمرد” الفيدرالي. يُنظر إليه كتهديد مباشر للنظام العام والدستور.
هذا التمييز الدقيق يتحول أحيانًا إلى ساحة صراع سياسي، إذ تُستخدم التسميات كأداة لتبرير الإجراءات الحكومية. في حالة أحداث لوس أنجلوس عام 2025، وصف منظمو المظاهرات تحركاتهم بأنها احتجاجات مدنية سلمية ضد ممارسات وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك (ICE). في المقابل، اعتبرت الإدارة الفيدرالية (إدارة دونالد ترامب) هذه الأحداث تمردًا (Insurrection)، مستندة إلى هذا التصنيف لتبرير تدخل الحرس الوطني بموجب “Title 10″، وهو جزء أساسي من القانون الفيدرالي الأمريكي يحدد كل ما يتعلق بالقوات المسلحة الأمريكية (الجيش، البحرية، وغيرها).
ومن الواضح أن التسمية في هذه الحالة كانت سياسية بامتياز، وليست وصفًا موضوعيًا بحتًا للأحداث. لقد وظّفتها السلطة الفيدرالية لمنح غطاء قانوني لاستخدام القوة، بينما رفضت حكومة ولاية كاليفورنيا هذا التصنيف بشدة، مؤكدة أن الأحداث تندرج ضمن الحق الدستوري في التظاهر السلمي. النتيجة التي يمكننا استخلاصها هي أن ما حدث كان في الأساس احتجاجات غاضبة، تطورت في بعض المناطق إلى مواجهات عنيفة. سياسيًا، استُخدم مصطلح “تمرد” بوضوح لتوفير غطاء قانوني لتدخل عسكري في ولاية معروفة بمعارضتها لسياسات الرئيس ترامب.
تاريخ لوس أنجلوس يحمل في طياته أحداثًا مفصلية تُعرف بـ”تمردات لوس أنجلوس”، وهي ليست مجرد اضطرابات عابرة، بل تعكس غضبًا عميقًا وجذورًا راسخة للتمييز والعنف، خاصة في سياق العلاقات العرقية وتعامل الشرطة. هذه الأحداث، على الرغم من تباعدها الزمني، تشكل سوابق هامة لفهم الديناميكيات الاجتماعية والسياسية التي قد تؤدي إلى حراك جماهيري واسع، مثل الأحداث التي شهدتها المدينة مؤخرًا في عام 2025.
إذ بدأت اضطرابات واتس عام 1965 في 11 أغسطس، إثر توقيف رجل أمريكي من أصل أفريقي بتهمة القيادة تحت تأثير الكحول في حي واتس جنوب لوس أنجلوس. هذه الحادثة، التي تبدو بسيطة في ظاهرها، أشعلت فتيل غضب مكبوت استمر لخمسة أيام، وشارك فيه ما بين 10 إلى 30 ألف شخص. لم يكن السبب المباشر هو الحادثة نفسها، بل تراكم عقود من التمييز العنصري، الفقر، البطالة، وقسوة الشرطة في الأحياء السوداء.
كانت النتائج وخيمة: 34 قتيلًا، 1,032 جريحًا، حوالي 4,000 اعتقال، وأضرار مادية بلغت نحو 40 مليون دولار. استدعى الوضع إعلان حظر التجول ونشر الحرس الوطني للسيطرة على الأوضاع.
وبعد ما يقرب من ثلاثة عقود، اندلعت اضطرابات لوس أنجلوس عام 1992 في 29 أبريل، عقب تبرئة أربعة ضباط شرطة متورطين في ضرب رودني كينغ، وهو رجل أمريكي من أصل أفريقي، على الرغم من وجود فيديو يوثق الحادثة بوضوح. استمرت الاضطرابات لخمسة أيام أيضًا، وشملت أعمال عنف واسعة، نهبًا، إحراقًا، واشتباكات عنيفة مع الشرطة. تدخل كل من الحرس الوطني والشرطة الفيدرالية للسيطرة على الوضع.
كانت التكلفة البشرية والمادية لهذه الاضطرابات أعلى بكثير: أكثر من 60 قتيلًا، 2,383 جريحًا، 12,000 اعتقال، وخسائر مادية تُقدّر بنحو مليار دولار. تركت هذه الأحداث أثرًا عميقًا على العلاقات العرقية، معززةً النقاش حول وحشية الشرطة وضرورة الإصلاح.
وأُطلق على كلتا الحادثتين وصف “تمرد” أو “ثورة”، لأنهما لم تكونا مجرد احتجاجات سلمية، بل انفجارات واسعة من العنف الاجتماعي ضد الظلم والتمييز. ففي عام 1965، كان التمرد موجهًا ضد التهميش والظروف المعيشية القاسية، بينما في عام 1992، كان انتفاضة ضد الظلم القضائي ووحشية الشرطة.
مدينة لوس أنجلوس لطالما كانت مرآة لتحديات المجتمع الأمريكي، حافلة بأحداث رسمت معالم العلاقة المعقدة بين المواطن والسلطة، وبين التعبير عن الرأي والتعامل الأمني. من “تمرد واتس” عام 1965 إلى اضطرابات “رودني كينغ” عام 1992، شكّلت هذه الأحداث التاريخية فصولًا من الغضب المكبوت والبحث عن العدالة في وجه التمييز والظلم.
واليوم، تجد لوس أنجلوس نفسها مرة أخرى على مفترق طرق، إذ تشهد أحداث يونيو عام 2025 صدى لتلك الجذور التاريخية، لكن هذه المرة في سياق معاصر يركّز على قضايا الهجرة وتطبيق القانون الفيدرالي. هنا، لم يعد الفرق بين “الاحتجاج” و”التمرد” مجرد جدل قانوني، بل أصبح نقطة اشتباك حقيقية بين السلطة الفيدرالية وحقوق الولايات، وبين الغضب الشعبي والتبرير الرسمي لاستخدام القوة. هذا يستدعي أن نتعمق في تفاصيل ما جرى في يونيو 2025، لنفهم كيف تحولت حملات الهجرة الروتينية إلى مواجهة شاملة، وما التداعيات التي تركتها على المشهد السياسي والمجتمعي الأمريكي.
اندلعت احتجاجات عنيفة في لوس أنجلوس مطلع يونيو 2025، إثر حملة مداهمات واسعة نفذتها وكالة الهجرة والجمارك الأميركية (ICE) استهدفت أكثر من 120 شخصًا، بينهم أطفال. قوبلت هذه المداهمات بردّ فعل شعبي عنيف من المتظاهرين، الذين استخدموا الزجاجات الحارقة والألعاب النارية، بينما ردّت السلطات بالغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي. أسفرت الأحداث عن مقتل متظاهر واحد على الأقل، وإصابة آخرين، واعتقال العشرات، من بينهم شخصيات نقابية بارزة.
تفاقمت الأزمة بتدخل غير مسبوق من الحكومة الفيدرالية، إذ أعلن الرئيس ترامب عن إرسال 2000 جندي من الحرس الوطني إلى لوس أنجلوس تحت سلطة “Title 10″، لتأمين عمليات ICE. وصفت الإدارة الفيدرالية هذه الأحداث بأنها “تمرد” ضد سلطة الحكومة، معتبرة إعاقة عمليات ICE تحديًا واضحًا لها.
في المقابل، انتقدت حكومة ولاية كاليفورنيا، بقيادة الحاكم (غافن نيوسوم) ورئيسة البلدية (كارين باس)، هذا القرار بشدة، مؤكدة أن الوجود الفيدرالي سيصعّد التوتر، وأن السلطات المحلية قادرة على ضبط الوضع. شددت قيادة كاليفورنيا على أنها لا تقاوم القانون، بل ترفض التصعيد الفيدرالي، ودعت إلى الاحتجاج السلمي.
ولم تتوقف حملات الترحيل الفيدرالية بشكل كامل، بل استمرت بوتيرة عالية، مع تسجيل آلاف الاعتقالات على مستوى البلاد. ومع ذلك، شهدت الأحداث تحديات قضائية من خلال دعاوى فدرالية ومدنية، ونجحت بعض القرارات القضائية في وقف جزئي لعمليات الترحيل التي تتم دون أوامر تفتيش.
سياسيًا، تصاعد الخلاف بين إدارة ترامب وولاية كاليفورنيا، التي خصصت 25 مليون دولار للدعم القانوني للمتأثرين. بينما عززت ICE توجيهاتها لتسريع وتوسيع عملياتها، شهدت الأحداث تعزيزًا للحركة المجتمعية التي نظمت دوريات لدعم المتضررين ورفعت دعاوى قانونية ضد ممارسات ICE.
في المجمل، تطورت المظاهرات الأولية ضد حملات الترحيل إلى مواجهة واسعة النطاق بين السلطات الفيدرالية وقيادة ولاية كاليفورنيا. عمليات الترحيل لا تزال مستمرة، لكنها تواجه تحديات قضائية ودعمًا قويًا من الولاية والمجتمعات المحلية. الانقسام السياسي حول حدود السلطة الفيدرالية وسيادة الولاية أصبح واضحًا، بينما تتواصل جهود المجتمع المدني في تنظيم الدعم القانوني والتوعية لمواجهة الممارسات الفيدرالية.
لم تكن احتجاجات لوس أنجلوس عام 2025 مجرد رد فعل عفوي على مداهمات وكالة الهجرة والجمارك (ICE)، بل كانت تعبيرًا عميقًا ومتجذرًا في أطر فكرية متعددة، تشكّلت بفعل تداخل قضايا الهوية، والعدالة الاجتماعية، ورفض السلطة المركزية. هذه الأحداث، التي تصاعدت إلى مواجهة شاملة مع الحكومة الفيدرالية، تجسد صراعًا أوسع حول دور الدولة وحقوق الأفراد، ويمكن فهمها من خلال التحليل الفكري التالي:
-
الليبرالية التقدمية: تتبنى هذه الفلسفة أن وظيفة الدولة الأساسية هي حماية الحقوق الفردية والحد من تدخلها، خاصة في مسائل الهجرة والخصوصية. المتظاهرون، من هذا المنطلق، رأوا في مداهمات ICE دون أوامر قضائية انتهاكًا للحقوق، متوافقًا مع المفهوم الليبرالي الرافض لـ”الدولة البوليسية”.
-
نظرية العصيان المدني: تستند هذه النظرية، التي أرسى دعائمها مفكرون مثل (هنري ديفيد ثورو) و(جون راولز)، إلى حق الأفراد في تحدي القوانين غير العادلة، بشرط أن يكون ذلك سلميًا. منظمو الاحتجاجات، من اتحادات ونقابات، اعتبروا تحركاتهم “عصيانًا مدنيًا مشروعًا” ضد ما وصفوه بالظلم المؤسسي.
-
نقد السلطة الفيدرالية (فكر ما بعد الحداثة): يتمحور هذا التوجّه الفكري، المتأثر بآراء مثل (ميشيل فوكو)، حول نقد المؤسسات الكبرى مثل الدولة الفيدرالية عندما تفرض سلطتها باسم “النظام”. فالتدخل القسري لوكالة ICE واستخدام الحرس الوطني دون شفافية يُنظر إليهما كمثال على “السلطة المنضبطة التي تراقب وتُخضع”.
-
الاشتراكية المحلية: تؤمن هذه الفلسفة بأولوية تحكم المجتمعات المحلية في شؤونها، بما في ذلك سياسات الهجرة. إن تبنّي كاليفورنيا ولوس أنجلوس لـ”سياسات الملاذ الآمن” يأتي ردًا مباشرًا على المركزية الفيدرالية، ويعكس هذا التوجّه نحو التمكين المحلي.
-
أدبيات المقاومة اللاتينية والأفريقية الأميركية: استلهم المتظاهرون شعاراتهم وحججهم من أعمال مفكرين ونشطاء بارزين مثل (جيمس بالدوين)، (أنجيلا ديفيس)، و(سيزار تشافيز). هذا الاستدعاء للأدبيات التاريخية للمقاومة يبرّر الرفض الشعبي كفعل دفاع عن “الكرامة الجماعية”، من خلال شعارات مثل “لسنا غير شرعيين” و”ICE = استبداد الدولة”.
نلحظ أن احتجاجات لوس أنجلوس 2025 لم تكن مجرد رد فعل عشوائي، بل كانت تحركًا متجذرًا في فكر رافض للتهميش المؤسسي، مؤمن بأولوية الحقوق المدنية، داعم للشرعية المحلية في مواجهة السلطة الفيدرالية، ومتبنٍ للمقاومة كحق أخلاقي في وجه القوانين الظالمة.
تتسق هذه الجذور الفكرية مع عدة تيارات سياسية معاصرة في الولايات المتحدة:
-
اليسار التقدمي: يعارض بشدة وكالة ICE ويدعم سياسات الملاذ الآمن والهجرة الإنسانية، مثل (برني ساندرز) و(ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز).
-
الليبرتاريون: يعارضون التدخل الفيدرالي المفرط ويدعمون مقاومة القوانين التي تقيد الحريات الشخصية، مثل (الحزب الليبرتاري).
-
الاشتراكيون الديمقراطيون (DSA): يرون في سياسات الترحيل قمعًا رأسماليًا ويدعون إلى التضامن الأممي.
-
الحركات العرقية/الهوياتية: تعزز روايات المظلومية التاريخية وتدعو لتفكيك أنظمة القمع العرقي مثل (Black Lives Matter) ومنظمات حقوق اللاتينيين.
-
الأناركيون ومناهضو الفاشية: يعدّون وكالة ICE أدوات قمع فاشية ويطالبون بمقاومتها.
-
على الجانب الآخر، الجمهوريون الشعبويون يرون في هذه الاحتجاجات فوضى، ويبررون الحزم الفيدرالي تحت شعار “القانون والنظام” (مثل الرئيس ترامب وحلفائه).
هنا يتضح كيف يمكن للخلفيات الفكرية المتنوعة أن تتجمع لتشكّل حراكًا جماهيريًا، وتصبح هذه التحركات نقطة تلاقٍ وتصادم للتيارات السياسية المعاصرة في الولايات المتحدة، مؤكدة على استمرارية النقاش حول العدالة، السلطة، ومستقبل الهوية في أمريكا.