تنبثق هذه الدراسة من سؤال جوهري يلامس طبيعة التحوّل في البنى الحزبية الحديثة: كيف تتشكل العلاقة بين حجم الحزب ووظيفته الانتخابية؟ وكيف تستطيع الأحزاب الجمع بين الحاجة إلى قاعدة جماهيرية واسعة والحفاظ في الوقت نفسه على تماسكها التنظيمي الداخلي؟ ببساطة، هذا السؤال ليس تقنياً ولا إجرائياً، بل هو سؤال سياسي-اجتماعي يكشف، بمجرد تفكيكه، عن البنى الطبقية التي تتحرك داخلها الأحزاب، وعن الشروط الموضوعية التي تُعيد تشكيل العمل السياسي في عالم يعيش مخاضات متسارعة.
سنركز في هذا السياق على الفرق بين نمطين من التوسع: الأول هو التوسع الداخلي في بنية الحزب عبر العضوية والفروع والهياكل، بينما الثاني هو التوسع الخارجي عبر بناء منظمات جماهيرية رديفة تعمل في المدار السياسي للحزب دون أن تكون مكوّناً مباشراً منه. في الوقت نفسه، ستبحث الدراسة في الظروف التي تجعل التوسع التنظيمي ضرورياً أو غير ضروري، خصوصاً عندما يعتمد الحزب أو يمتنع عن الاعتماد على المال السياسي أو على شبكات المجتمع الأهلي التقليدية من طائفة وعشيرة وروابط عصبية.
بوصف الحزب نتاجاً لموقع طبقي داخل البنية الاجتماعية، وبوصف التوسع—بكل أشكاله—استجابة لشروط مادية لا يمكن فصلها عن نمط الدولة، وطبيعة المجتمع، وآليات إعادة إنتاج السلطة السياسية، فإنه لا يُعالج في هذه الدراسة بمعزل عن سياقه التاريخي. بل إننا ندرسه ضمن منطق الجدل بين البنية الفوقية (الحزب، الخطاب، التنظيم) والبنية التحتية (الاقتصاد، الطبقات، العلاقات الاجتماعية)، حيث تتفاعل القوى وتتصادم وتعيد تشكيل نفسها باستمرار.
الإطار النظري للعلاقة بين حجم الحزب ووظيفته الانتخابية
تتطلّب دراسة العلاقة بين حجم الحزب ووظيفته الانتخابية الدخول إلى عمق البنية التي تنتج الظاهرة، وليس الاكتفاء بوصفها فقط. فالحزب السياسي، وفق المقاربة الماركسية، هو تعبير تنظيمي عن موقع طبقي داخل البنية الاجتماعية، وليس مجرد جهاز إداري هدفه المنافسة في الانتخابات. من هنا يصبح الحجم، بالمفهوم التنظيمي، ليس مجرد مسألة تقنية تخص عدد الأعضاء، بل هو انعكاس لطبيعة الدور التاريخي الذي ينهض به الحزب، ولشكل الصراع الطبقي الذي يتحرك ضمنه.
عندما نتحدث عن الأحزاب الانتخابية، فنحن أمام نمط محدد من التنظيمات السياسية التي صاغتها شروط الدولة الحديثة، خصوصاً في بنيتها البرجوازية. هذه الأحزاب لا تملك رفاهية الانغلاق أو الحفاظ على نخبوية صارمة، لأنها تعمل في فضاء سياسي يفرض عليها خوض منافسة علنية، والبحث عن قاعدة اجتماعية واسعة تمنحها القدرة على تحصيل الأصوات. لكن هذا التوسع ليس دائماً أو ثابتاً، ولا يتبع مساراً خطياً. فالأحزاب الانتخابية قد تختار طريق التوسع التنظيمي المباشر عبر زيادة العضوية، أو قد تختار مساراً آخر يعتمد على بناء منظمات جماهيرية رديفة تحقق الغرض نفسه دون الحاجة إلى تضخم داخلي.
هذا التفريق بين التوسع التنظيمي والتوسع الجماهيري غير التنظيمي يمثل نقطة مركزية في فهم تطور الأحزاب الحديثة. فالتوسع التنظيمي يعني نمو الحزب داخل نفسه: فروع جديدة، عضويات واسعة، جهاز إداري كبير. أما التوسع الجماهيري فيعني بناء شبكة من المنظمات الاجتماعية القريبة من الحزب—شبابية، طلابية، نسائية، نقابية، إعلامية—تقوم بوظائف جماهيرية لصالحه دون أن تنخرط في بنيته الداخلية.
من منظور مادي-تاريخي، هذا الخيار ليس محايداً. فالأحزاب التي تعتمد على قاعدة اجتماعية “طبيعية” مثل الطائفة أو العشيرة أو المال السياسي، لا تحتاج إلى توسع تنظيمي كبير، لأنها تستند إلى موارد جاهزة لا ترتبط بالعضوية الحزبية. أما الأحزاب التي تتوجه إلى قطاعات اجتماعية حديثة، أو تعتمد على عمل سياسي-طبقي، أو ترفض الارتكاز على المال السياسي، فهي مضطرة إلى بناء تنظيم واسع ومنضبط كي تعوّض غياب تلك الموارد التقليدية.
بمعنى آخر، نوع الاقتصاد السياسي الذي يعمل داخله الحزب هو ما يحدد شكل التوسع. في المجتمعات التي تهيمن فيها البنى التقليدية، يمكن للحزب أن يكون صغيراً لكنه قوي انتخابياً، لأنه يعود إلى دعم عشائري أو ديني أو مالي. أما في المجتمعات التي تُضعِف فيها الحداثة السياسية تلك الروابط التقليدية، يصبح التوسع التنظيمي ضرورة موضوعية.
بهذا المعنى، يصبح الحجم—سواء كان صغيراً أو كبيراً—نتاجاً لشروط اجتماعية واقتصادية أعمق من مجرد “اختيار تنظيمي”. هنا يتبدّى المنظور الماركسي كأداة تفسيرية قادرة على ربط الظاهرة الجزئية (عدد الأعضاء، الشبكات الجماهيرية) بالبنية الكبرى (شكل الدولة، نمط الإنتاج، البنية الطبقية، الثقافة السياسية)، وهي مستويات لا يمكن فصلها عن دراسة أي حزب يعمل داخل نظام انتخابي.
التوسع التنظيمي كآلية انتخابية وحدوده البنيوية
التوسع التنظيمي داخل الحزب الانتخابي يبدو، للوهلة الأولى، خياراً منطقياً. فالحزب الذي يريد الفوز يحتاج إلى أعضاء أكثر، فروع أكثر، جهاز انتخابي أوسع. لكن هذا الخيار ليس مستقلاً عن طبيعة البيئة السياسية التي يتحرك فيها. فالتوسع التنظيمي ليس واجباً على كل حزب انتخابي، لكنه يصبح ضرورياً كلما كان الحزب لا يعتمد على المال السياسي أو على شبكات المجتمع الأهلي التقليدية مثل الطائفة والعشيرة. الحزب الذي يعمل من دون هذه الدعامات لا يملك “طاقة اجتماعية مجانية”، وعليه أن يبنيها بنفسه عبر التنظيم.
إن الأحزاب التي تنشط في بيئات تقوم على الروابط العصبية أو الطائفية تمتلك قدرة ذاتية على الحشد، تجعل التوسع التنظيمي خياراً ثانوياً. فالحزب الطائفي، مثلاً، لا يحتاج إلى آلاف الأعضاء كي يضمن الأصوات، لأن علاقات الانتماء تنتج نفسها ذاتياً. والحزب العشائري يرتكز على شبكة تضامن موروثة؛ أما الحزب المرتبط برجال الأعمال فيرتكز على تدفقات المال السياسي التي تعوّض أي نقص تنظيمي. هذه الأحزاب تستطيع أن تفوز بكتلة انتخابية معتبرة دون أن تكون كبيرة تنظيميا.
أما الحزب الذي يرفض هذه الأدوات، أو لا يستطيع استخدامها، فمضطر إلى بناء تنظيم قوي ومتشعب. فالتوسع التنظيمي هنا ليس رفاهية، بل شرط للبقاء السياسي. ينطبق هذا خصوصاً على الأحزاب ذات الطابع الأيديولوجي، وعلى أحزاب الطبقات الوسطى والطبقات العاملة، التي تحتاج إلى إقناع الأفراد، لا مجرد استثمار علاقاتهم التقليدية. الحزب اليساري، مثلاً، لا يملك سوى التنظيم وسلاح الوعي الطبقي كي ينافس في ساحة يغمرها المال السياسي. ولهذا ظهرت في التجارب العالمية نماذج لأحزاب انتخابية ذات توسع تنظيمي ضخم، مثل أحزاب العمل والاشتراكية الديمقراطية في أوروبا، التي كانت عضويتها بالملايين، لأنها لم تكن تعتمد على الطائفة أو المال بل على الطبقة العاملة المنظمة.
لكن للتوسع التنظيمي حدوداً. فزيادة العضوية تُنتج تحديين بنيويين:
- خطر تفكك الانضباط الداخلي: فكلما اتسعت العضوية، أصبح من الصعب الحفاظ على وحدة الخط السياسي، وازداد احتمال الاختراقات والانقسامات.
- تضخم الجهاز الإداري: الذي قد يتحول إلى عبء يستهلك موارد الحزب وطاقته، مما قد يدفعه إلى التحول نحو البراغماتية أو التسويات السياسية على حساب مبادئه.
لهذا تميل الأحزاب إلى الانتباه لمعادلة دقيقة: كيف تنمو من دون أن تتحول إلى جهاز بيروقراطي مترهل؟ كيف تتوسع دون فقدان الهوية؟ في لحظات معينة، يبدو التنظيم الكبير نعمة انتخابية ونقمة أيديولوجية في الوقت نفسه.
بهذه الصورة، يصبح التوسع التنظيمي نتيجة لمعادلة اقتصادية-اجتماعية: كلما قلّت الموارد التقليدية للحزب، ازداد اعتماده على التنظيم؛ وكلما كثرت مصادر المال والدعم الأهلي، تراجع حاجته إلى التوسع الداخلي. وهذا ينسجم تماماً مع التحليل المادي-التاريخي الذي يرى في الأحزاب تجسيداً لشروطها الاجتماعية وليس مجرد تعبير عن إرادة قياداتها.
التوسع عبر المنظمات الجماهيرية كبديل عن التضخم الداخلي
في العقود الأخيرة، برز نمط جديد من التوسع الحزبي يمكن وصفه بـ”التوسع الخارجي”، حيث تختار الأحزاب الانتخابية بناء شبكة واسعة من المنظمات الجماهيرية المرتبطة بها، دون أن تكون جزءاً من بنيتها التنظيمية. هذه الشبكات—شبابية، طلابية، نقابية، نسائية، إعلامية، رقمية—تعمل لصالح الحزب في الميدان، لكنها لا تخضع لقواعد العضوية والانضباط المركزي.
هذا النمط ليس مجرد خيار تنظيمي، بل استجابة تاريخية لتحولات الدولة الحديثة، وللشروط الاجتماعية الجديدة التي جعلت التضخم التنظيمي عبئاً أكثر منه رصيداً. ففي عالم سريع الحركة، حيث تتغير القواعد الانتخابية وتتحول المزاجات الاجتماعية بسرعة، يصبح الحزب بحاجة إلى مرونة، وإلى قدرة على التفاعل مع قطاعات واسعة دون أن يتحول إلى جهاز بيروقراطي ضخم.
تؤدي هذه المنظمات الجماهيرية ثلاث وظائف أساسية:
الأولى أنها تخلق غطاء اجتماعياً واسعاً للحزب، يسمح له بالتغلغل في بنى المجتمع دون الحاجة لضمّ كل فرد إلى الحزب. المنظمة الشبابية تتوجه للطلاب، المنظمة النسائية للفئات النسائية، النقابة للفئات المهنية، من دون أن يصبح كل هؤلاء أعضاء حزبيين.
الثانية أنها تحافظ على صلابة الحزب الداخلية. فالانفتاح الجماهيري يتم عبر “المنظمات القريبة”، فيما يحافظ الحزب ذاته على انضباط قوي وقاعدة عضوية أصغر وأكثر تدريباً.
الثالثة أنها تمنح الحزب القدرة على الحشد الانتخابي، لأن هذه المنظمات تعمل كأذرع تعبئة قادرة على تحريك قطاعات اجتماعية مختلفة في اللحظة الانتخابية.
هذه الظاهرة تعبّر عن محاولة الحزب التوفيق بين مطلبين متناقضين: مطلب التوسع الجماهيري الذي تفرضه الانتخابات البرجوازية، ومطلب الحفاظ على البنية الصلبة اللازمة لأي مشروع سياسي يسعى لتغيير الواقع الاجتماعي. فالحزب، كي يظل حزباً، يحتاج إلى هوية وانضباط، لكنه كي ينافس انتخابياً يحتاج إلى جمهور واسع. المنظمات الجماهيرية تصبح هنا “حلّاً وسطاً”: توسع بدون تضخم، نفوذ اجتماعي بدون خطر التفكك الداخلي.
وقد أثبتت التجارب العالمية هذا النموذج: الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية اعتمدت على النقابات كرافعة جماهيرية؛ الأحزاب الدينية اعتمدت المنظمات الدعوية؛ الأحزاب القومية اعتمدت اتحادات الشباب. كل هذه الأمثلة تكشف أن الحزب لا يكبر دائماً داخل نفسه، بل يكبر حول نفسه.
بهذا المعنى، يصبح التوسع الجماهيري الموازٍ انعكاساً لاعتماد الحزب على “بنية اجتماعية حليفة” تتوسع معه. فالحزب الذي لا يعتمد على الطائفة أو المال السياسي سيحتاج أكثر إلى هذه المنظمات كي يعوض النقص في الموارد التقليدية. بينما الأحزاب المدعومة مالياً أو طائفياً لا تحتاج لبناء هذه الشبكات، لأن قاعدتها الاجتماعية جاهزة ومضمونة.
الفئات والطبقات والطليعة الثورية في استراتيجيات التوسع الحزبي
تعتبر مسألة تحديد الفئات والطبقات التي ينبغي أن يركز عليها الحزب السياسي جزءاً مركزياً من فهم العلاقة بين الحجم التنظيمي والبنية الانتخابية. فالحزب لا يمكنه الاعتماد على توسع عددي فقط، بل يحتاج إلى شبكة جماهيرية تُمكّنه من التأثير الاجتماعي والسياسي، مع الحفاظ على الانضباط الداخلي. بناء على هذا المنظور، يتضح أن هناك فئات استراتيجية تحمل إمكانات ثورية أو تنظيمية يمكن أن تُستخدم لتعويض محدودية حجم الحزب الداخلي، كما هو موضح في تجربة الأحزاب الانتخابية وغير الانتخابية.
أولاً، الطبقة العاملة تبقى حجر الزاوية في أي مشروع ثوري. العمال يمتلكون القدرة المادية على الإنتاج، وبالتالي فإن تنظيمهم يخلق ضغطاً واقعياً على النظام الرأسمالي ويمنح الحزب شرعية طبقية. لكن في سياقات الريع أو الاقتصادات الريعية حيث تكون الطبقة العاملة ضعيفة أو هامشية، تظهر الحاجة إلى استثمار فئات أخرى يمكن أن تؤدي وظيفة الطليعة الثورية. هذه الفئات تتضمن فئات وسطى هجينة مثل الموظفين الشباب والمثقفين والطلاب، الذين رغم عدم ارتباطهم المباشر بوسائل الإنتاج، إلا أن لديهم وعياً سياسياً وقدرة على التنظيم تجعلهم عنصراً فعالاً في التغيير الاجتماعي. هذه الطليعة، كما تبيّن الدراسات الماركسية الحديثة، يمكن أن تصبح جسراً بين النظرية والممارسة، وبين المؤسسات التعليمية والشارع، ويمثلون نواة للطليعة الثورية المؤهلة للضغط على النظام والتأثير في السياسات العامة.
ثانياً، الحركة الطلابية تشكل نموذجاً واضحاً للفئات الطليعية المؤقتة التي يمكن للحزب استثمارها. في سياق التعليم الريعي، غالباً ما يتم تهميش الطلاب وتحويلهم إلى أدوات لتغذية الجهاز البيروقراطي، مما يولد لديهم شعوراً بالاغتراب والرفض للوظائف التقليدية التي تعرضهم فقط كقوة توظيف. هذا الاغتراب يمكن أن يولّد وعياً سياسياً ثورياً، يجعل الطلاب طليعة لديها القدرة على التنظيم والتأثير الثقافي والسياسي. الحزب القادر على استثمار هذه الطاقات يمكنه توسيع نفوذه الاجتماعي دون التضخم الداخلي، من خلال منظمات جماهيرية قريبة تشمل اتحادات طلابية، جمعيات شبابية، ومراكز ثقافية وفكرية.
يجب أن يكون اختيار الفئات الاستراتيجية متوافقاً مع الصراع الطبقي وتحولات المجتمع. فالفئات ذات القدرة الإنتاجية (العمال)، والفئات ذات الوعي والتنظيم (الطلاب، المثقفون، الشباب)، والفئات الوسطى الصغيرة (التجار والحرفيون) تشكل محوراً للتنظيم الحزبي. استثمار هذه الفئات من خلال منظمات جماهيرية مؤقتة أو شبه مستقلة يحقق للحزب تأثيراً مجتمعياً كبيراً دون زيادة التعقيد الداخلي. في الوقت نفسه، يشكل تحالف هذه الفئات مع الطبقة العاملة قاعدة حقيقية للطليعة الثورية القادرة على التغيير البنيوي، بما يتجاوز مجرد تحقيق مكاسب انتخابية.
هذه الاستراتيجية تتيح للحزب بناء شبكة تأثير متعددة الطبقات، تربط بين الحركة الطلابية والفئات الاجتماعية المختلفة، بين الانضباط التنظيمي والقدرة على التعبئة الجماهيرية، وبين البنية الحزبية المركزية والشبكات المجتمعية الموازية. وبهذا يصبح الحزب ليس مجرد جهاز انتخابي يسعى للحصول على الأصوات، بل مشروعاً سياسياً قادراً على استثمار الطاقات الطليعية وإعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية بما يتوافق مع الأهداف الطبقية والسياسية العميقة.
الخاتمة
يتبين ان العلاقة بين حجم الحزب وبنيته الانتخابية ودور المنظمات الجماهيرية عن مسار أعمق من مجرد توصيف لنماذج تنظيمية. فالمسألة في جوهرها تتعلق بموقع الحزب داخل البنية الاجتماعية، وبنوع العلاقة التي يقيمها مع الطبقات التي يدّعي تمثيلها. هنا يصبح السؤال الحقيقي: كيف يمكن للحزب، بوصفه أداة للصراع الطبقي، أن يحافظ على قدرته على التأثير دون أن يتحول إلى جهاز بيروقراطي مترهّل أو إلى مؤسسة تابعة لمصادر القوة التقليدية؟
من خلال هذا السؤال، يتضح أنّ التوسع—سواء أكان داخلياً أم خارجياً عبر المنظمات الجماهيرية—يمثل في النهاية محاولة للحزب كي يبقى فاعلاً في مجتمع يتبدل باستمرار. لكنه أيضاً اختبار لقدرة الحزب على المواءمة بين منطق الدولة ومنطق الحركة الاجتماعية؛ بين قواعد اللعبة الانتخابية ومتطلبات الوعي النقدي؛ بين الحاجة إلى الانتشار والحاجة إلى الصلابة.
أن ما يبدو خياراً تنظيمياً هو، في الحقيقة، انعكاس لتوتر أعمق بين مستويين من العمل السياسي: المستوى الذي يفرضه الواقع الانتخابي كآلية لإدارة السلطة، والمستوى الذي يفرضه الصراع الاجتماعي باعتباره محرّك التاريخ. وعندما تنجح الأحزاب في خلق شبكة جماهيرية تعمل في فضائها السياسي دون أن تبتلعها، فإنها لا توسع نفوذها وحسب، بل تُعيد صياغة مفهوم الحزب ذاته: ليس كتجمع أفراد، بل كعقدة في شبكة اجتماعية واسعة تتجاوز حدود التنظيم التقليدي.
بهذا المعنى، تفتح الباب أمام إعادة التفكير في مستقبل الأحزاب، لا من خلال سؤال الحجم أو الشكل، بل من خلال سؤال الدور: ما الوظيفة التاريخية للحزب في زمن تتسارع فيه التحولات الطبقية وتتغير فيه أدوات التعبئة؟ الإجابة على هذا السؤال تمثل الخطوة القادمة في أي نقاش جدي حول التحول في بنى العمل السياسي الحديثة.

