أزمة الماركسية في العالم العربي

🖨️ طباعة هذه المقالة

ليس من باب المبالغة أن نقول إن الماركسية، في سياقها العَربي، لم تُولد فعلًا حتى تموت، ولم تتجذّر حتى تُجتث، بل قُدِّمت دومًا كصورة بلا مضمون، وكمذهب بلا تاريخ، وكمجموعة شعارات تتلوى داخل سرديات الاستبداد أو تنصهر في أحزاب بيروقراطيَّة فقدت صلتها بالواقع، فضلًا عن التاريخ.

فالماركسية في العالم العربيّ لم تكن يومًا مشروعًا نقديًّا جذريًّا يستهدف البنية، بل كانت، في أفضل أحوالها، خطابًا احتجاجيًّا، مؤقتًا، تماهى غالبًا مع الدَّولة “الوطنيَّة” حين تسربلت سربال “الاشتراكية”، واختزل الصراع الطبقي في معركة إصلاح زراعيّ أو تأميمات شكليَّة لمصانع عاجزة. وهكذا، تحوّلت الماركسيَّة إلى جهاز مفاهيمي هشّ، موظَّف داخل آليات السلطة لا في مواجهتها، مجنَّد لتبرير السياسات لا لنقدها.

لقد أُفرغت الماركسية من مادتها الجدلية، من نقدها العميق لقانون القيمة، ومن تحليلها التَّاريخي لآليات إنتاج الثروة وشروط استغلال الإنسان. لم يُقرأ ماركس قراءةً علميَّةً، بل قُرئ كما تُقرأ النصوص المقدَّسة، واستُهلك كما يُستهلك الرمز، ووُضع على منصّة الأنبياء، لا على رفّ المفكرين الجدليين. لم يُقرأ كأحد أعمدة الاقتصاد السياسي بوصفه علمًا اجتماعيًّا، بل كالكائن الذي قال كل شيء، وفهم كل شيء، ومن بعده لا علم ولا تحليل ولا اجتهاد! وهذه القراءة الوثنية لم تفعل سوى أن جرّدت الماركسية من شرطها الجدلي، وجعلتها عقيدة صلبة بدل أن تكون أداة تحليل مرنة.

ماركس، في الحقيقة، لم ينبت من فراغ، ولم يكن طارئًا على سلالة الفكر الاقتصاديّ، بل هو امتدادٌ نقديٌّ ناضج لخط كلاسيكي يبدأ مع كانتيون وكينيه ويمر بسميث وريكاردو، ثم يتجاوزهما عبر كشف الطابع التاريخي للقوانين التي صنّفاها كقوانين طبيعيَّة. لقد وُلد ماركس من رحم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، لكنه لم يتوقف عند عتباته، بل جدّله، وفكّكه، وذهب أبعد: لم يصف العلاقات الاقتصادية، بل كشف بنيتها التاريخيّة والاجتماعية كعلاقات قهر واستغلال. وهو ما لا تفعله الشعارات.

أما “رأس المال”؟ فهو نص مكدّس على الرفوف، تتداوله النُّخَب إما بوصفه قسم الولاء إلى “العقيدة”، أو كأداة رمزية للاستعراض الثقافي، لا بوصفه عملًا نقديًّا لتحليل بنية نمط الإنتاج الرأسماليّ. تمّ تدجينه، كما دُجِّن صاحبه، داخل ماكينة الرطانة الثقافوية، حيث يتحدث الجميع عن القيمة الزَّائدة، دون أن يفهم أحد ما القيمة أصلًا.

في هذا السياق، تماهى كثير من “الماركسيين” مع نظام الفُتات: الفُتات الأكاديمي، والفُتات الصحفي، والفُتات الأيديولوجي. رطانةٌ لا تتوقف عن الحديث عن “الإمبريالية”، و”الصراع الطبقي”، و”البروليتاريا الثورية”، لكن بلا تحليل للواقع، ولا فهم لبنية الاقتصاد العربيّ، ولا حتى قراءة جدّية لماركس نفسه. وكل من نَقد، وجرؤ أن يفكّر خارج هذا القطيع، أُلصق به تهمة “التحريفية” أو “الليبرالية”! وكأن الماركسية قد أُغلقت أبوابها عند جملةٍ قالها ماركس، أو مقطع من لينين.

ولأن الماركسية منظومة تُبنى على الجدل، فإن اختزالها في دوجمائية حزبية، أو في شعارات ضد “الإمبريالية”، دون تفكيك فعلي لبنية التبادل، للعمل، للزمن، للقيمة، يعني قتلها. وهو ما جرى.

نعم، أزمة الماركسية في العالم العربي ليست في تغييبها، بل في حضورها المشوّه، حضورها كشعار، لا كعلم. حضورها كرطانة، لا كمنهج. حضورها كختم أيديولوجيّ على أوراق الوظيفة والتمويل والمنصب، لا كأداة تحليل ثوريّ تكشف عن بنية القهر والاستغلال في العالم كما هو، لا كما ترويه نشرات الأحزاب.

ثمّة ما هو أسوأ من غياب الماركسية: وجودها على يد من لا يعرفونها. على يد من يحوّلونها إلى صنم مفرغ من المعنى، ويتقاضون أجورهم باسمها. هؤلاء لم يقرؤوا الاقتصاد السياسي، ولا عرفوا قانون القيمة، ولا أدركوا أن ماركس نفسه ما كان ماركسيًّا، بالمعنى الذي يحول الفكر إلى لافتة، والمنهج إلى شعار.

وأُكرّر: لا أكتب دفاعًا عن ماركس، فأنا لست معنيًّا بتقديس أحد. لكنني أراه، في ميزان التاريخ، مفكرًا عظيمًا من مفكري الاقتصاد السياسي، لا أكثر ولا أقل. واحدًا من أولئك الذين سعوا، ضمن نسق اجتماعيّ متغيّر، إلى بناء علم اجتماعيّ قادر على فهم العالم وتغييره. وما ينبغي اليوم، ليس عبادته، بل نقده، وتجاوزه إن أمكن، تمامًا كما فعل هو مع من سبقوه.

واليوم، في عالم تهاوت فيه سرديات التقدّم، وتكشّفت أوهام الحداثة، تحتاج الماركسية، بوصفها فهم ماركس للتاريخ وللاقتصاد وللمجتمع، إلى إعادة بناء. لا بوصفها عقيدة، بل كنقد جذريّ لقانون القيمة، ككشف لجدلية العمل والطاقة والزمن، كصرخة ضد اقتصاد سياسيّ زائف!

لا يمكن أن تقوم للماركسيَّة قائمة إن لم تُفكك من جديد، على أرضٍ غير أوروبية، بمفاهيم تُصاغ محليًّا، بتجارب تُنقّب خارج مركز العالم، بنقدٍ لا يكتفي بإدانة الرأسمال، بل يفكك قانون القيمة نفسه، من أجل إعادة بناء علم جديد، علم نقد الاقتصاد السياسي.

ما تقييمك لهذا المقال؟
⭐ متوسط التقييم: 3 من 5 (7 صوت)
📂 التصنيفات: مقالات, مقالات رأي

أضف تعليقًا

الحقول المشار إليها بـ * إلزامية.