تقدير استراتيجي: إيران اللاعب الإقليمي الدائم: ماذا سيحل بمشروع “إسرائيل الكبرى”؟

🖨️ طباعة هذه المقالة

من الفرضيات (العلم – سياسية) والواقعية بامتياز القول:

“إنّ الشرق الأوسط شهد نقطة تحوّل جيوسياسية عميقة بعد الرد الإيراني على إسرائيل، وما تلاه من إجبارها على الرضوخ للهدنة التي أدركت مقتضياتها سائر الفواعل الإقليمية والمحركين لمسار السياسات الدولية، لما ترتّب عليها من إعادة تشكيل المشهد الإقليمي، واهتزاز الصورة النمطية لإسرائيل، وتثبيت إيران لدعائم وجودها كقوة إقليمية، على عكس الخطط الاستخباراتية والعسكرية والمشاريع الجيوسياسية التي تقوم على محورية هدف إزالتها كتهديد وجودي”.

مما يطرح تساؤلات مهمة: هل ستقبل إسرائيل وداعموها بإيران كقوة أمر واقع، أم ستكون هناك مراحل ومحطات مستقبلية لإعادة استهدافها؟ ولطالما كانت إيران على دراية بالخطط الموجهة ضدها، وتتخذ احتياطاتها والخطط المضادة، فإن هذا سيقود إلى حروب مستقبلية تحكمها قاعدة: لا غالب ولا مغلوب.
السؤال الآخر والفرضية الأهم: هل ستقوم إسرائيل بإعادة صياغة مشروع “إسرائيل الكبرى” بعد إخفاقها في إزالة الوجود والخطر الإيراني؟

 

أولاً:
بداية، أود الإشارة إلى أن إزالة إيران عن الخريطة الجيوسياسية، من المنظور الأمني والعسكري، كانت الخطوة التي بدأ العمل عليها بعد التآمر الدولي لإسقاط الرقم الصعب، بشار الأسد، وترسانته العسكرية؛ وهي الخطوة التي ساهمت فيها إيران بعد تخليها، مع روسيا، عنه. روسيا التي تتذرّع – على لسان رئيسها ضابط الـKGB – بإلهام من منظّري الجيوبوليتيك أمثال ألكسندر دوغين، بأنها تتدخل في لحظات انهيار التوازنات الدولية، بما يمنع تشكّل النسق الدولي الذي تدّعي أنها تعمل مع الصين على تحقيقه، وأعني به “عالم متعدد الأقطاب”.

ورغم أن سقوط سوريا، وما يترتب عليه، كان -بحسب كافة المؤشرات– يشكّل قاعدة بيانات استراتيجية تمنع المخيلة السياسية الروسية من السماح بذلك، إلا أن ما حدث كان العكس تماماً؛ ما يثبت أن ثمن الغدر الروسي بحليفها، بشار الأسد، كان بقاءها في القسم الغربي من سوريا، بوصفه الممر الاستراتيجي الحيوي للفيلق الروسي في أفريقيا، والذي تمرّ عبره الإمدادات اللوجستية.

 

ثانياً:
إنّ مقتضيات إعادة صياغة المعادلة الجيوسياسية في الشرق الأوسط بعد هدنة 2025، والتي أُؤمن بأن إسرائيل لن تُقدِم عليها لكونها خطوة تنسف جهودها العامة لسنوات، قد ترشّحت بوادرها بناءً على مخرجات الحرب الأخيرة، التي ثبت أنها محكومة بقواعد اشتباك محدّدة، خشية اتساع نطاقها وفواعلها، وما لذلك من تداعيات تفتح أبواب الشك والاحتمالات من النواحي الاقتصادية والعسكرية.

فعلى الرغم من الدمار الذي تسببت به إسرائيل، ورغم ضرباتها التي ألحقت أضرارًا ببرنامج إيران النووي، فإنها لم تُنهِ قدرات إيران العسكرية أو الصاروخية، ولا تزال تشكّل تهديدًا استراتيجيًا لإسرائيل. كما أثبتت إيران، خلال هذا الصراع، قدرتها على الصمود وفرض نفسها كقوة إقليمية رئيسية. هذا الواقع يضع إسرائيل أمام خيارات استراتيجية معقّدة: إما أن تقبل إيران كشريك محتمل في صياغة شرق أوسط جديد، أو أن تواصل استهداف قوتها العسكرية والنووية.
وهذا ما سيدفع إسرائيل لتوسيع نطاق نفوذها على حساب البقع الجغرافية التي تشكّل اليوم عمقًا استراتيجيًا لها، في ظل تبدّل الأنظمة والسياسات والشخصيات في محيطها الأمني؛ وهو السيناريو المرجّح، بتعاون وتنسيق دولي، على المدى الاستراتيجي الطويل، لأن البديل هو تطويق إسرائيل وتحجيمها في حال رفضت إيران تسوية العلاقات السياسية.

 

ثالثاً:
في معرض الحديث، نتساءل: ما دلالات تأثير الهدنة الأخيرة من المنظور الجيوسياسي؟

الدلالة الأخطر أن ترتيبات النسق الإقليمي، والكيانات التي ظهرت بعد سقوط الأسد، والتي تأسست عليها أنماط من التحالفات والعلاقات المغايرة لما ساد سابقاً، هي ترتيبات غير ثابتة، وإن احتمال تغييرها في أي وقت وارد جداً.

وهذا يظهر جليًا من قدرة إيران على قلب الخطط التي استهدفتها، وهي خطط ترتبط مباشرة ببقية مناطق الإقليم. كذلك فإن إخفاق إسرائيل في تحقيق الهدف الجوهري من حربها على إيران – والمتمثل في قلب النظام الإسلامي، واستقدام نظام بديل، وتقسيم الجغرافيا الإيرانية، وتوظيفها بما يخدم مشاريعها – يؤكد ذلك.

هنا، لا بد من الإشارة إلى أن الهدنة عززت مكانة إيران كقوة إقليمية لا يمكن تجاهلها، وأظهرت قدرات عسكرية متقدمة، وأثبتت قدرتها على الرد المباشر، وتبيّن أن تكلفة هجماتها باهظة؛ فقد كلفت عملية اعتراض الهجوم الإيراني في نيسان/أبريل 2024 إسرائيل حوالي مليار دولار خلال خمس ساعات فقط، وفقًا لتقارير إعلامية.
كما فتحت الهدنة الباب أمام إعادة تشكيل النفوذ في المنطقة، وإعادة تغذية قواعدها المتقدمة في اليمن ولبنان؛ ما يفسّر خشية البعض من انتصار إيران وتأثيره على الوضع في سوريا، خاصة في ظل عاملين: أولهما قدرة إيران العسكرية واستمرارها في مشاريعها الجيوسياسية، والثاني هو الاستياء الروسي من تركيا.

ولكن هذا يبدو بعيد المنال، ولستُ من القائلين بأن التحرّك التركي قد تمّ من دون موافقة روسية. والنتيجة أن إيران باتت قوة راسخة في المعادلة الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط. فكيف ستتصرّف إسرائيل وداعموها؟!

 

رابعاً: خيارات إسرائيل الاستراتيجية:
تقف إسرائيل اليوم على المحك، من منظور النظرية الواقعية، وأمامها خيارات استراتيجية فرضها الواقع الجديد الذي خلقته وفرضته إيران، عبر مخزونها الاستراتيجي من مقومات القوة، سواء العسكرية أو التكنولوجية، بالإضافة إلى قراءتها الدقيقة لمكامن الضعف والتأثير الجيوسياسي لأعدائها، وقدرتها على اللعب على وتر الانقسامات العالمية، وتشبيكها مع الجوار الإقليمي، مع تحييد المشاكل غير الجوهرية، ومعرفتها بالمشاريع المعادية وتحركات القوى الفاعلة، وقدرتها على التنبؤ المسبق بسلوك الآخرين تجاه عناصر قوتها، فضلًا عن الثقل الديمغرافي والعقيدة الدينية، وتفريغها ورقة الضغط الشعبي من مضمونها، من خلال تكاتف الشعب مع القيادة – كما تبيّن من مواقف المعارضة الإيرانية الداخلية.

استنادًا إلى هذه المعطيات، فإن خيارات إسرائيل هي:

الخيار الأول: قبول إيران كشريك في صياغة الشرق الأوسط الجديد
يتطلب هذا الخيار قيام الحكومة الإسرائيلية بتحوّلات جذرية في السياسة الخارجية، التي طالما اعتمدت على عقيدة “الأطراف”، والتي ترى في إيران تهديدًا وجوديًا.

ومن العوامل التي تدعم هذا الخيار: امتلاك إيران نفوذًا واسعًا عبر وكلائها في العراق ولبنان واليمن، ورضوخ بعض الحلفاء الإقليميين لإسرائيل، نتيجة إدراكهم لحجم المخاطر التي يمكن أن تسبّبها إيران للمكاسب الاقتصادية والاستقرار الإقليمي، أمنيًا وعسكريًا.

ومن ذلك على سبيل المثال إدانة دول الخليج للضربات الإسرائيلية على إيران في يونيو/حزيران 2025، بما يعكس هذا التحول. كما أن خطر نشوب حرب إقليمية، في ظل العقيدة الدينية والعسكرية لدى إيران، يزيد من زخم هذا السيناريو، مما يدفع الدول الكبرى للضغط من أجل التهدئة، بدليل مواقف بريطانيا وألمانيا، وتحذيرات الأمم المتحدة من حرب إقليمية شاملة.

لكن بالمقابل، هذا الخيار يواجه عقبات كبيرة، منها:

  • الرفض الإسرائيلي والأمريكي القاطع لفكرة شراكة إيران،
  • تصنيف إيران أمريكيًا كـ”عائق وجودي”،
  • صعوبة تغيير مضمون مشروع “إسرائيل الكبرى”،
  • العداء التاريخي العلني،
  • الرأي العام الإسرائيلي الرافض لأي تقارب،
  • الاعتماد الإسرائيلي على دعم الولايات المتحدة وحلفائها.

الخيار الثاني: استهداف القوة الإيرانية
وهو الخيار الأكثر انسجامًا مع العقيدة الأمنية الإسرائيلية، ويتضمّن:

  • أولًا: عمليات عسكرية مستمرة، تستهدف المنشآت النووية والصاروخية باستخدام قدراتها السيبرانية والجوية المتقدمة، وقد تجلّى ذلك في عملية “عم كلافي”.
  • ثانيًا: دعم المعارضة الإيرانية المسلحة، ومنها مجاهدي خلق، وإثارة النزعات الانفصالية، خصوصًا في إقليم الأحواز.
  • ثالثًا: تعزيز التحالفات الإقليمية، خاصة مع دول مثل السعودية والإمارات، رغم الطابع غير المعلن لهذا التنسيق.

غير أن هذا الخيار محفوف بالمخاطر، منها:

  • الكلفة العسكرية الباهظة،
  • خطر التصعيد إلى حرب شاملة،
  • محدودية الدعم الدولي،
  • ورفض أمريكي متزايد لأي انزلاق غير محسوب، كما أظهرت بعض التقارير الإعلامية.

 

خامساً: نتائج التقدير:

  1. إسرائيل تواجه معضلة استراتيجية حقيقية: قبول إيران كقوة إقليمية يتعارض مع عقيدتها الأمنية ويواجه رفضًا داخليًا وخارجيًا.
  2. استمرار استهداف إيران ينطوي على مخاطر تصعيدية تتجاوز قدرات إسرائيل، لا سيما في ظل تهديد الصواريخ ووكلاء إيران.
  3. رغم الخسائر، احتفظت إيران بقدرات عسكرية معتبرة ونفوذ إقليمي فعّال.
  4. تميل إسرائيل إلى الاستمرار في نهج استهداف القوة الإيرانية بدل قبولها، بما يتماشى مع مشروع “إسرائيل الكبرى” وعقيدتها كقاعدة متقدمة أمريكيًا.
  5. ستعتمد إسرائيل على تفوّقها التكنولوجي والسيبراني لضربات دقيقة، مع تعميق تحالفاتها الخليجية.
  6. ستحرص على تجنّب حرب شاملة بسبب كلفتها المرتفعة ومخاطرها الإقليمية، مفضّلةً سياسة “الضربات الموجعة”.
  7. الشرق الأوسط يقف عند مفترق طرق جيوسياسية سيحدد مستقبله لعقود مقبلة.

 

ما تقييمك لهذا المقال؟
⭐ متوسط التقييم: 4.67 من 5 (6 صوت)
📂 التصنيفات: مقالات, مقالات رأي

أضف تعليقًا

الحقول المشار إليها بـ * إلزامية.