اختيار الكادر: جوهر التنظيم وصراع البقاء

🖨️ طباعة هذه المقالة

اختيار الكادر ليس إجراءً تنظيميًا عابرًا، بل هو لحظة تأسيسية تُحدد طبيعة الحزب نفسه: إما أن يُبنى على الوعي والانضباط الثوري، أو يُترك لعوامل الانحدار البيروقراطي. فالماركسية ليست تأملًا نظريًا، بل أداة للتغيير الجذري، وهذا التغيير لا يتم إلا بتنظيم يُدار بوعي، ويقوده مناضلون قادرون على الربط بين الفكر والممارسة. الكادر ليس فردًا فقط، بل هو تجسيد للمسار السياسي، ورمز لوجه الحزب أمام قاعدته وجماهيره.
في كل اختيار كادر، يتجسد سؤال كبير: هل الحزب بصدد بناء جهاز قادر على إنتاج الفعل التاريخي، أم يكتفي بإعادة إنتاج ذاته شكليًا؟ فالكادر ليس موظفًا حزبيًا، بل هو الفاعل الذي يحوّل النظرية إلى ممارسة، والوعي إلى قرار، والخطاب إلى صراع حيّ على الأرض.

التراكم الصامت الذي يعيد تشكيل الحزب
الحزب الثوري ليس بنية مغلقة أو آلة صماء، بل كيان حيّ يتشكل باستمرار من خلال اختياراته التنظيمية اليومية. إن كل قرار داخلي، من تعيين كادر إلى توزيع المهام، هو بمثابة “ذرة تراكم سياسي” تسهم في صياغة الشخصية العامة للحزب. التغيرات التي قد تبدو إدارية أو ثانوية في لحظتها، تتحول بمرور الزمن إلى ملامح جوهرية تحدد هوية الحزب وأفقه التاريخي.
التراكم الصامت ليس أقل خطورة من القرارات الصاخبة؛ فإما أن يُنتج مسارًا تصاعديًا يبني حزبًا قادرًا على المبادرة، أو يُغرق الحزب في دوامة من الانحدار البيروقراطي. وإذا كانت الكوادر المختارة تحمل وعيًا نقديًا، وانضباطًا ثوريًا، واستعدادًا للمبادرة وتأثير واسع في المنظمات الجماهيرية، فإن الحزب سينمو كمشروع سياسي جذري يُنتج الفعل. أما إذا سادت روح التهاون والمحسوبية، فإن النتيجة الحتمية ستكون حزبًا مشلولًا، يُعيد إنتاج عجزه يومًا بعد يوم حتى يفقد اتجاهه بالكامل.

كادر بلا قاعدة؟ كارثة مضمونة
صعود الكوادر إلى المواقع القيادية لا ينبغي أن يكون مجرّد تحريك لقطع داخل هيكل تنظيمي، بل انعكاسًا حيًا لنشاط سياسي واجتماعي وجماهيري فعلي. فالكادر الذي لا ينبع من القاعدة، ولا يعبّر عنها، يبقى معلقًا في الفراغ، بلا جذور ولا شرعية. وحين لا يكون خلف الكادر امتداد جماهيري حقيقي ملموس، في قطاعه الشبابي أو العمالي أو الفلاحي او المحلي، فهذا لا يكشف فقط عن فشل سياسي في بناء التنظيم او أخطاء فردية، بل عن خلل عميق في معايير التقييم والاختيار.
مثل هذا الخلل، إذا تُرك دون مواجهة، يفتح الباب لتسلل المحسوبيات، وتغليب التوازنات الداخلية على الكفاءة الثورية. وهو ما يُنتج قيادة منفصلة عن واقعها، لا ترى الجماهير إلا من بعيد، وتفقد تدريجيًا قدرتها على المبادرة والتوجيه. حزب من هذا النوع لا يعبّر عن طبقته ولا يمتلك أدوات التواصل والتأثير بالجماهير، بل يتحوّل إلى هيكل فوقي هش، يتحرك دون قاعدة، ويتكلم دون أن يُصغي.
وحين يغيب الارتباط الحيّ بالشارع، تفقد القيادة شرعيتها الفعلية، ويبدأ الحزب بالتحلل من الداخل. لا لأن هناك خصمًا قويًا في الخارج، بل لأن الانفصال بين القيادة والقاعدة يصبح هو العدو الداخلي الذي ينخر الحزب من جذوره.

الكادر ليس مجرد فرد، بل هو شكل الحزب القادم
الكادر ليس مجرد فرد يُملأ به فراغ تنظيمي؛ إنه تجسيد حيّ للاتجاه الذي يسير نحوه الحزب. كل اختيار لكادر هو رسالة سياسية، يحمل مضمونها في سلوكه، وأسلوبه، وقراراته. فالكادر في موقع القيادة لا يُمارس دوره فقط عبر المهام التي يُكلّف بها، بل من خلال القدوة الثورية التي يجسدها. وهكذا، يتحوّل إلى مرآة تعكس صورة الحزب أمام قاعدته وأمام الجماهير.
اختيار شخص غير مؤهل، أو جاء نتيجة توازنات داخلية ومحسوبيات، لا يعني فقط ارتكاب خطأ تنظيمي يمكن معالجته، بل يعني أن الحزب يُعيد تعريف نفسه بطريقة خطيرة: الكفاءة ليست أولوية، والمبادئ قابلة للتأجيل. ومع الوقت، يتغلغل هذا المنطق إلى أعماق التنظيم وفي جميع الحلقات التنظيمية، فيُعيد تشكيل بنيته الثقافية الداخلية: تنتقل المبادرة من المناضلين إلى المنتفعين والوصوليين والانتهازيين، ويحل الولاء الشخصي محل المعيار السياسي، ويُقصى الكادر المثقف والملتزم لصالح من يضبط إيقاعه مع السلطة الداخلية.
هكذا يبدأ الحزب بالتحوّل من حركة سياسية إلى شبكة مغلقة، ومن تنظيم حيّ إلى جهاز بيروقراطي، ومن أداة للتغيير إلى هيكل يدافع عن نفسه فقط. وهذا هو التمهيد الفعلي للتآكل التنظيمي والانحلال السياسي.

الخطأ القاتل: عندما تقود الرداءة الحزب
من أخطر الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها أي حزب هو تعيين كوادر غير كفؤة في مواقع قيادية. الأخطاء السياسية قد تُصحَّح، والهزائم الانتخابية قد تُعوَّض، لكن وضع شخص غير مؤهل في منصب قيادي يعني خلق سلسلة لا تنتهي من الأخطاء، وتكريس ثقافة الضعف والرداءة داخل التنظيم. هؤلاء لا يكتفون بالفشل، بل يُقرّبون كل من يبرره ويمارس نفس الانتهازية التي مارسوها، فيجلبون من هم على شاكلتهم، حتى يصبح الحزب مشوهًا بالكامل. في النهاية، الحزب الذي يسمح بذلك لن يحتاج إلى عدو خارجي لإسقاطه، بل سينهار من الداخل بفعل التحلل التنظيمي الذي يضرب جذوره، فالانهيار يبدأ من لحظة قبول الرداءة كمعيار، والانتهازية كحنكة. وما يبدأ كخطأ في التقدير، سرعان ما يتحول إلى عرف تنظيمي مدمّر، يُقوّض ثقة القاعدة، ويُعيد تعريف النجاح بمعايير الانتهازية، لا الكفاءة.

الخاتمة
اختيار الكادر ليس مجرد تفصيل ثانوي، بل هو القرار الذي يحدد وجود ومستقبل الحزب كله. إما أن يتم بناء الحزب على أسس الكفاءة والمسؤولية، أو يُترك للولاءات والعلاقات الشخصية، فيفقد الحزب جوهره الثوري ويتحول إلى كيان مترهل يستهلك نفسه ببطء حتى يختفي تمامًا من المشهد. لا مجال للحياد هنا: إما أن يكون الحزب مدرسة للكفاءات الثورية، أو يتحول إلى مأوى للانتهازيين، حيث تُكافأ الرداءة، ويُقصى الوعي، ويُحاصر الفعل الحقيقي تحت ركام العلاقات الشخصية.

(ملاحظة: المقال سبق ان نشر في وسائل التواصل الاجتماعي وتم اعادة نشره مع اعادة بعض الصياعات والتعديلات والاضافات)

ما تقييمك لهذا المقال؟
⭐ متوسط التقييم: 4.4 من 5 (5 صوت)
📂 التصنيفات: مقالات, مقالات رأي