في سياق تعمّق التناقضات العالمية للرأسمالية، وتحوّلها إلى نظام شامل يفرض منطقه على تفاصيل الحياة اليومية، لم يعد بالإمكان الفصل بين النضالات الوطنية والمحلية، وبين الحركة الأممية لمناهضة الرأسمالية. فكل نضال وطني ضد الاستغلال، وضد التبعية الاقتصادية أو الاستبداد السياسي، يجد نفسه حتمًا في مواجهة مع منظومة عالمية من السيطرة، تُعيد إنتاج ذاتها عبر آليات معقدة من العولمة والنيوليبرالية. وهذا ما يجعل من الربط الجدلي بين النضال الوطني والنضال العالمي ضرورة نظرية ونضالية في آنٍ معًا
الرأسمالية كنظام عالمي: العولمة وإعادة إنتاج السيطرة
لم تعد الرأسمالية مجرد نمط إنتاج اقتصادي، بل غدت منظومة شاملة تشمل نماذج الحياة والثقافة والعلاقات الاجتماعية. من خلال العولمة، فرضت الرأسمالية على الشعوب أنماطًا استهلاكية، وهندست أنظمة تعليمية وإعلامية تعمل على إعادة إنتاج قيمها وقواعدها. كما أدت السياسات النيوليبرالية إلى تفكيك القطاع العام، وتعميم منطق السوق، وخلق ما يُعرف بـ”دولة الحد الأدنى”، التي تنسحب من وظائفها الاجتماعية لصالح رأس المال العابر للحدود. وبالتالي، فإن مناهضة هذا النظام لا يمكن أن تكون داخل حدود الدولة فقط، بل تستلزم مقاومةً متعددة الجبهات
كلما توسعت الرأسمالية، توسعت معها ساحات النضال. ومع تعمّق العولمة، بات من الوهم الاعتقاد بإمكان تحقيق العدالة الاجتماعية أو السيادة الاقتصادية داخل حدود قطرية معزولة. من هنا، جاءت الحركات الاجتماعية المعاصرة كمحاولات لتجاوز النضالات المحلية نحو فضاء أممي من التنسيق والمقاومة. لكن ما تزال هذه الجهود تعاني من التشرذم وغياب الرؤية الموحّدة، وهو ما يفتح الباب أمام قوى الهيمنة لإعادة تموضعها بأشكال جديدة
وحدة النضال الوطني والاممي: مستويات متكاملة للتحرر
النضال الوطني ليس نقيضًا للنضال العالمي، بل أحد تجلياته الضرورية. فالمقاومة ضد الاستعمار أو ضد التبعية البنيوية للمراكز الرأسمالية، لا تتحقق بالكامل إلا إذا اندرجت ضمن جبهة أممية واسعة تتجاوز حدود الدولة-الأمة. ولعلّ من أبرز الدروس التاريخية المستخلصة من تجارب آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية في النصف الثاني من القرن العشرين، أن النجاحات التي تحققت على المستوى الوطني سرعان ما تآكلت حين عُزلت عن سياق أممي داعم، أو حين واجهت وحدها قوى السوق والمؤسسات المالية الدولية.
لقد قدمت الماركسية، منذ نشأتها، أداة تحليلية ثورية لفهم بنية النظام الرأسمالي، من خلال نقدها لآليات التراكم، وفهمها العميق لعلاقة العمل برأس المال، وربطها بين البنية الاقتصادية والتشكيلات الفوقية (الدولة، الثقافة، الإيديولوجيا). لكنها لم تكن فقط أداة لفهم العالم، بل مشروعًا لتغييره. وقد تطورت هذه الماركسية عبر مدارس متعددة، وكلها أسهمت في بلورة أدوات نضالية تتكيّف مع السياقات المحلية دون أن تتخلى عن الجوهر الأممي للصراع الطبقي.
المفارقة التاريخية في الحركات اليسارية: من الأممية إلى الانكفاء
إن المفارقة العميقة التي تواجهها الحركات اليسارية اليوم، هي أنها كانت قبل قرن أكثر أممية وتنظيمًا مما هي عليه الآن، رغم أن الرأسمالية آنذاك كانت أقل عولمة. فبينما كانت الأممية الثانية والثالثة تُشكّلان أطرًا مركزية للتخطيط والعمل المشترك، أفضت التحولات النيوليبرالية وسقوط الاتحاد السوفيتي إلى مرحلة من التراجع الفكري والتنظيمي، تميّزت بانكفاء الأحزاب على قضاياها المحلية، وضعف التنسيق النظري والميداني. وقد أضعف هذا من قدرتها على مجابهة الرأسمالية المتجددة بأدوات عابرة للحدود، في حين أن المطلوب هو العكس: فكلما ازدادت الرأسمالية تطورًا وعولمة، ازدادت الحاجة إلى نضال أممي منسق على كافة المستويات. وكأن اليسار يسير بالمقلوب، عكس مسار التاريخ.
التنسيق الإقليمي كضرورة تاريخية: حالة الأحزاب اليسارية العربية
في هذا السياق، تبرز ضرورة استثنائية لإعادة بناء تنسيق إقليمي يساري، لا كخطوة تنظيمية فحسب، بل كخيار استراتيجي يرتكز على وحدة البُنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تواجهها شعوب الإقليم. ففي العالم العربي، تتشابه مظاهر التبعية الاقتصادية، من اقتصاد الريع إلى الدين الخارجي، كما تتقاطع أشكال القمع السياسي، من المركزية السلطوية إلى تقييد الحريات. ورغم ذلك، تظل الأحزاب اليسارية العربية غارقة في عزلتها القُطرية، مما يفرغها من بعدها التاريخي الجذري.
إن أحد أبرز أسباب صعود التيارات القومية في منتصف القرن العشرين، ثم التيارات الدينية في العقود الأخيرة، هو الغياب شبه الكامل للفعل اليساري الإقليمي المنظم. لقد ملأت هذه التيارات الفراغ السياسي الذي خلفه اليسار، عبر خطابات شمولية تحاكي مشاعر الجماهير وتمنحها إطارًا هوياتيًا بديلاً عن المشروع التحرري الجذري. غير أن هذه الخطابات لم تنجح في تقديم بديل فعلي عن التبعية، بل غالبًا ما أسهمت في تعميقها، من خلال إعادة إنتاج منطق الدولة الأمنية أو التواطؤ مع المؤسسات المالية الدولية.
لهذا، فإن بناء تنسيق يساري عربي جديد يجب أن يتجاوز الطابع الرمزي أو الاحتفالي، ويتجه نحو مشروع نظري وميداني متكامل. ينبغي أن يشمل هذا المشروع تبادل الخبرات، والنشر، والتدريب، وإنشاء مراكز أبحاث، وتوحيد البرامج، وبناء أدوات تحليل جماعية لقراءة الاقتصاد السياسي العربي، ومسارات تحوّله، والتحالفات السياسية والطبقية الممكنة، وربط النضال الوطني بالإقليمي والأممي. فالتحديات واحدة، وموقعنا من النظام العالمي واحد، يجب أن يكون قادراً على التصدي لتحالف القوى الرجعية والظلامية الإقليمية المتحالفة، ولا تحرر حقيقياً ممكناً من دون إعادة بناء جبهة يسارية عابرة للحدود، تنبع من الواقع العربي، وتحاكي في الوقت نفسه منطق الصراع الطبقي العالمي.
نحو يسار يعيد تشكيل العالم
إن المهمة العاجلة اليوم ليست فقط في استعادة اليسار لدوره الوطني، بل في إعادة بناء موقعه الإقليمي والأممي. فالمعركة ضد الرأسمالية لا تُخاض منفردة، ولا تُربح داخل حدود دولة واحدة. إنها معركة طويلة، متشابكة، متعددة المستويات، تتطلب من اليسار أن يعيد اكتشاف جذوره الأممية، ويستثمر المشتركات التاريخية بين الشعوب، ويبني تحالفات فكرية وتنظيمية جديدة قادرة على كسر عزلة النضال وتفكيك بنية الهيمنة. هذا هو التحدي، وهذه هي الفرصة التاريخية التي لا يجب تفويتها.