منذ أن وضع ماركس أسس نظريته في الصراع الطبقي، ظل مفهوم “الطبقة الثورية” يشكّل قلب الرؤية الماركسية للتغيير. لكن هذا المفهوم لم يبق ثابتًا؛ تغيّر بتغيّر الأزمنة، وتحوّل بحسب من يمسك فعليًا بخيوط التناقض مع النظام القائم. من البروليتاريا في أوروبا الصناعية، الى التحالف بين العمال والفلاحين في روسيا، إلى الفلاحين في الصين، إلى شعوب المستعمرات، وصولًا إلى الحركات الاجتماعية المعاصرة، ظل السؤال مفتوحًا: من يحمل اليوم شروط الثورة؟ هذا المقال لا يبحث عن إجابة جاهزة، بل يتتبع كيف تغيّر تعريف “الطبقة الثورية”، وما الذي يمكن أن تعنيه في زمن الرقمنة، التفكك الطبقي، والسياسات الهوياتية.
ماركس: البروليتاريا كقاطرة التغيير
في النظرية الماركسية الكلاسيكية، تُعد البروليتاريا الصناعية الطبقة الثورية بامتياز. ليس فقط لأنها مستغَلّة، بل لأنها تحمل في موقعها البنيوي داخل عملية الإنتاج إمكانية تقويض النظام الرأسمالي برمّته. فالبرجوازية كانت يومًا طبقة ثورية ضد الإقطاع، لكنها تحولت إلى طبقة مهيمنة. أما البروليتاريا، التي لا تملك سوى قوة عملها، فهي الطبقة الوحيدة التي لا يمكنها التحرر دون إلغاء النظام الذي يستغلها. الثورة إذًا ليست مسألة إرادة بل ضرورة تاريخية ناتجة عن التناقض بين رأس المال والعمل. كما ان ماركس لم يعطي دور أساسي للفلاحين الا باعتبارهم حلفاء مع العمال
لينين: الطليعة وشعوب المستعمرات
مع تصاعد الإمبريالية وبداية استقرار الرأسمالية في أوروبا الغربية، لاحظ لينين أن الطبقة العاملة لم تعد بنفس الزخم الثوري. الحل كان في إعادة تعريف شروط الفعل الثوري: من جهة، ضرورة وجود حزب طليعي يحمل الوعي وينظّمه؛ ومن جهة أخرى، توسيع دائرة الفاعلين الثوريين في روسيا القيصرية لتشمل الفلاحين وذلك بناءً على طبيعة البنية الاجتماعية والاقتصادية لروسيا، والشعوب المستعمَرة التي تعيش تناقضًا حادًا مع المركز الإمبريالي. بهذا المعنى، لم تعد البروليتاريا وحدها في صدارة التغيير، بل كل من وُضع في موقع بنيوي يجعله عاجزًا عن التكيّف مع النظام القائم.
ماو تسي تونغ: الفلاحون في قلب الثورة
في الصين، كان السياق مختلفًا تمامًا. لم تكن هناك بروليتاريا صناعية كبيرة يمكن التعويل عليها، لكن كان هناك فلاحون يعانون من الإقطاع والقمع. ماو لم يرَ في غياب العمال الصناعيين عائقًا، بل فرصة لإعادة صياغة مفهوم الطبقة الثورية. الفلاحون، من خلال تجاربهم الجماعية في النضال، أصبحوا القوة التي تعبّر عن التناقض الرئيسي في المجتمع. وبذلك انتقل مركز الثقل من المدينة إلى الريف، ومن المصنع إلى الحقل.
الطبقة الثورية كمفهوم متغيّر
عند النظر في التجارب الماركسية المختلفة، يتضح أن “الطبقة الثورية” ليست فئة اجتماعية جاهزة، بل بناء تحليلي يتشكّل ضمن السياق التاريخي لكل مجتمع. لدى ماركس، البروليتاريا هي الأساس. عند لينين، تُعزَّز بوعي سياسي منظم، وقد تُستبدل إذا تغيرت الشروط. لدى ماو، تُعاد صياغتها لتلائم البنية الاجتماعية القائمة. ما يربط هذه التجارب هو استخدام المنهج الماركسي كأداة تحليل وليس كقالب ثابت. أي ان المنهج بتحليله للواقع أنتج التصورات حول الطبقة الثورة ضمن كل تجربة.
وهنا يجب التأكيد أن كل بنية اجتماعية لأي بلد، بناءً على تركيبته الاقتصادية والثقافية والتاريخية، تنتج شكلًا خاصًا من الفاعل الثوري والذي يتغير مع صيرورة الحراك الاجتماعي فيتقدم فاعل ويتراجع اخر. فليست هناك طبقة ثورية واحدة صالحة لكل زمان ومكان، بل تُبنى الطبقة الثورية داخل مشروع تغييري مرتبط بمرحلة تاريخية وسياق محلي محدد.
كما أن الطبقة الثورية، في جوهرها، هي الطبقة التي يجعل النظام القائم استمرار وجودها مستحيلاً في شكله الحالي، إذ يشكّل تهديدًا جذريًا لشروط حياتها ومصالحها التاريخية. وعندما تصل هذه الفئة إلى نقطة تصبح فيها الثورة الخيار الوحيد الممكن أمامها، تكتسب عندها موقع الفاعل الثوري الموضوعي داخل الصراع الاجتماعي في تلك اللحظة التاريخية.
في زمننا: من العمّال الرقميين إلى الحركات الاجتماعية
اليوم، تغيّرت خريطة العمل والإنتاج. لم تعد المصانع تحتل المركز، بل المنصات الرقمية وسلاسل التوريد العالمية والعمل المرن. ظهرت فئات جديدة: عامل التطبيقات، المبرمج المستقل، الناشط البيئي، الطالبة المنظّمة، والعاملات في الاقتصاد غير الرسمي. هذه الفئات تعيش تناقضات حقيقية مع النظام، لكنها تفتقر إلى الرابط البنيوي الذي يجمعها، وإلى وعي طبقي موحد أو تنظيم سياسي يربط نضالاتها ببنية الإنتاج.
التحديات النظرية والعملية لإعادة تعريف الطبقة الثورية
إعادة تعريف الطبقة الثورية في القرن الحادي والعشرين تصطدم بعدة معوّقات: تفكك البنية الطبقية التقليدية، صعود الفردانية، تراجع التنظيم النقابي والسياسي، وتحوّل الكثير من الحركات إلى مطالب هوياتية جزئية. كما أن غياب التنظيم يجعل من الصعب تحوّل الاحتجاج إلى مشروع تغييري. الماركسي الحقيقي اليوم لا يبحث عن الطبقة الثورية في نصوص الماضي، بل في تناقضات الحاضر ان شغله الشاغل هو تحليل بنية النظام وما ينتجه من صراع وتناقضات ولا يكتفي بالنظر لتلاوينه وتجلياته السياسية السطحية. ليكون قادر على تحليل ودراسة وإعادة صياغة احتجاجات طبقاته وفئاته الثورية وتحويلها لقوة قادرة على احداث التغيير المنشود
الخاتمة: الطبقة الثورية كمشروع لا كحقيقة جاهزة
الطبقة الثورية ليست معطى سوسيولوجيًا بل مشروع سياسي. إنها تتشكّل عندما تلتقي ثلاث عناصر: موقع بنيوي داخل النظام الرأسمالي، وعي نقدي بهذه العلاقة، وتنظيم قادر على تحويل التناقض إلى قوة فعل جماعي. ويضاف إلى ذلك أن هذه الطبقة تعيش حالة من التناقض الحاد تجعل استمرارها ضمن شروط النظام القائم أمرًا مستحيلاً، ما يحوّل الفعل الثوري إلى خيار اضطراري لا مجرد بديل سياسي.. لذلك، لا يمكن الحديث عن طبقة ثورية إلا من خلال تحليل ملموس لواقع ملموس. ومثلما قال ماركس: “ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم”. الثورة لا تبدأ من الشعارات، بل من حيث يتكوّن تحليل وفهم لبنية النظام القائم والرفض البنيوي المنظم والواعي له
تحليل رصين لظاهرة اجتماعية مهمة وهي الطبقة الاجتماعية والتغيرات التي طرأت عليها .ادعم فكرة اعادة تعريف الطبقة كمجموعة اجتماعية تتميز في موقعها في نظام الإنتاج ومقدار وطريقة حصولها على الثروة وبالتالي تأثيرها كفاعل .علينا الإقرار بتراجع المفهوم التقليدي في ظل التشابك والتعقيد على صعيد التطور التكنولوجي من جهة وتعدد التصنيف الاجتماعي للفئات الهشة.