ماركس الَّذي لا يعرفه أحد!

🖨️ طباعة هذه المقالة

ما إن نشرتُ أمس مقالي”أزمة الماركسية في العالم العربي” على موقع (رؤى شرق أوسطية)، بدعوة كريمة من الصديق ستار جبار رحمن، حتى انطلق “حُرّاس العقيدة” ـ كالعادة ـ بكل ألوان السباب. فقد أثار المقال، كما هو متوقَّع، امتعاض الكثير من الرفاق، واستياء أصدقاء ماركس في مقاهي وسط البلد.

ولذلك، فإن هذا المقال يُمثِّل امتدادًا فكريًا متعمَّدًا، يهدف ـ بكل صراحة ـ إلى زيادة هذا الامتعاض، وتعميق هذا الاستياء، تحديدًا لدى أولئك الذين لا يرغبون أبدًا في الوعي، بل يكرهون مَن يجرؤ على خلخلة أصنامهم الفكرية، حتى ولو كانت من ورق.

فالدوجمائيّ لا يُستفَزُّ حين يُنتقَد فكرٌ، بل حين يُنتزَع منه صنمٌ. وهذا بالضبط ما حدث: فقد مسّ المقال الجوهر النفسيّ للمتمترسين خلف شعارات حفظوها عن ظهر قلب، دون أن يسائلوا يومًا بنيتها أو يفهموا سياقها. لذا يأتي هذا المقال الثَّاني لا ليراجع أو يبرر، بل ليواصل، بوعي، عملية الخلخلة.

الفكرة المركزيَّة هنا بسيطة وصادمة في آنٍ معًا: إن معظم من يعرّفون أنفسهم اليوم كماركسيين في عالمنا العربيّ المنكوب، لا يعرفون ماركس حقًا. هم يعرفون صورة باهتة، مهترئة، مُفرغة من المعنى، مكرّرة إلى حد الابتذال. يعرفونه من خلال مقتطفات جاهزة من قبيل: “الدين أفيون الشعوب”، و”الأفكار المسيطرة هي أفكار الطبقة المسيطرة”، و”الصراع الطبقيّ هو محرك التَّاريخ”، و” كلما زاد تراكم الرأسمال، زاد بؤس العمال”، و”الوعي لا يشكل الحياة، بل الحياة هي الَّتي تشكل الوعي”… إلى آخر الكليشيهات الَّتي تُلقى في الحلقات الدراسيَّة والندوات، وتُردَّد كما تُردَّد التعاويذ في طقوس دينيَّة. المفارقة أن هذه العبارات، بصيغها المعممة، لا تختلف كثيرًا عن تأملات رجل بسيط في المقهى، لديه بعض التجربة الحياتيَّة، وميول احتجاجيَّة، ولا يحتاج إلى ماركس ليكتشفها أو يتفلسف بها.

ماركس الحقيقيّ ليس هو هذه القشرة البلاغيَّة. ماركس هو المفكر الَّذي نذر مشروعه لفهم العالم من خلال نقد الاقتِصَاد السّياسيّ. لم يكن واعظًا ثوريًا، بل عالمًا اجتماعيًّا غاص في بنية القِيمة، في زمن الإنتاج، في طبيعة العمل، في شروط التبادُل، في قوانين تراكم الرَّأسمال. مشروع ماركس لم يكن سياسيًّا في جوهره، بل عِلميًّا؛ حاول أن يؤسّس لفهم ماديّ للتَّاريخ، يبدأ من البنية الاقتصَاديَّة لا من نوايا الأفراد أو عواطف الجماهير. وكل اختزاله في جُمل ملتهبة أو في وظيفة حزبيَّة هو خيانة له، ولو باسم الولاء.

وهنا تتجلى مفارقة مريرة. إن أغلب من يرفعون اليوم راية ماركس، لا يملكون الحد الأدنى من معرفة الاقتِصَاد السّياسيّ. لم يقرأوا سميث ولا ريكاردو ولا حتى كانتيون أو كينيه، إنهم يتحدثون عن “الثورة” و”البروليتاريا” كما يتحدث المراهقون عن الحبّ الأوَّل: باندفاعٍ خالص، لكن بلا معرفة، بلا تاريخ، بلا تحليل.

ثمّ إن ماركس لم يكن معزولًا عن التَّاريخ، ولم يهبط بوحي من السماء. بل كان أحد نتاجات الحضارة الأوروبيَّة الحديثة. نشأ في حضن الاقتِصَاد السّياسي الكلاسيكيّ، وتأثر بروحه العلميَّة، ثم تمرد عليه. لم يكن عدوًا لريكاردو، بل امتدادًا نقديًا له. وقف على كتفيه، ورأى ما لم يره، واكتشف في قوانينه ما كان يُقدّم على أنه “طبيعي” وهو في حقيقته “تاريخيّ”. وإنكار هذه الاستمراريَّة، الَّتي أقر بها ماركس نفسه مرارًا، لا يشي إلا بجهل مؤسف، أو تعصب مَرَضيّ.

ومع ذلك، يواصل الكثير من “الماركسيين” في العالم العَربيّ رفض هذه الحقيقة. يصرّون على أن ماركس لحظة مطلقة، مفصولة عن كل ما قبلها، ويعاملونه كإعلان سماويّ، لا كمفكر بشريّ في سياق تاريخيّ. هؤلاء لا يريدون ماركس الحيّ، بل ماركس المحنّط؛ لا ماركس المفكر، بل ماركس الرمز؛ لا ماركس الجدلي، بل ماركس العقيدة. لذا، لا عجب أن تتحوّل الماركسيَّة، على أيديهم، إلى لغة خشبيَّة، وإلى قاموس متجمّد، وإلى وسيلة لاصطياد المنح والمؤتمرات!

ماركس مفكر عظيم، نعم. لكنه ليس فوق النقد، ولا فوق التَّجاوز. عظمته تكمن في أنه نفسه مارس النقد والتجاوز؛ أنه لم يقدّس أحدًا، ولم يقف عند حدّ. هو واحد من مفكري الاقتصَاد السّياسي العظماء، لا أولهم ولا آخرهم. من أراد أن يقرأه بحق، عليه أن يفهم قبله، ويتجاوزه بعده، لا أن يحبس نفسه داخل جُمَل ميتة يلوكها في كل ندوة ومقال.

وهنا أطرح سؤالًا بسيطًا، لكنه مزعج: هل يمكن إعادة اكتشاف ماركس بلا ماركسيَّة؟ هل يمكن استعادته كمفكر في بنية القيمة والتاريخ والعمل، لا كقائدٍ ثوريّ يُصفق له المريدون؟ هل يمكن أن نقرأه أخيرًا قراءة علمية، خارج سلطة الشعارات؟

هذا المقال لا يقدّم إجابة. بل يدعو، مرة أخرى، إلى طرح السُّؤال، لا بوصفه تمرينًا ثقافيًا، بل كضرورة لفهم العالم. إن أخطر ما يمكن أن يحدث لمفكر مثل ماركس، هو أن يتحوّل إلى شعار، وأن يُختزل مشروعه في جُمل محفوظة تُرددها الألسنة دون أن تمسّها العقول. فمن لا يجرؤ على نقد ماركس، لا يفهمه… ومن يكرّر عباراته دون وعي، إنما يُعيد إنتاج الجهل، وربما الفوضى، باسم الثورة.

ما تقييمك لهذا المقال؟
⭐ متوسط التقييم: 4 من 5 (5 صوت)
📂 التصنيفات: مقالات, مقالات رأي

أضف تعليقًا

الحقول المشار إليها بـ * إلزامية.