المسرح كصرخة وجودية ضد العبث المؤسساتي من خلال مسرحية دازاين-عائشة 13

🖨️ طباعة هذه المقالة

يرتبط المسرح ارتباطا وثيقا بالحياة والوجود ، ليطرح فكرا جدليا تتحول فيه الممارسة الابداعية الى ممارسة معرفية، فالأسئلة التي لطالما قدمها المسرح عن الوجود الانساني ، هي أسئلة تنغمس في الواقع لتبحث فيه عن أجوبة قابلة لإعادة صياغة الفكر والمعنى الوجودي والابستيمولوجي الذي يساعدنا على فهم ذواتنا وفهم الآخر المختلف عنا والتكريس للهوية كمشروع فعلي يبني أسس الذات الانسانية فكريا ونفسيا، في سياق قوامه الحوار الدائم مع الواقع المتغير، فالمسرح هو في مجمله وعي بالذات وإدراك للآخر. وتعتبر مقاربة الدازاين بالمسرح أهم مقاربة وجودية يمكن الانطلاق منها لتفعيل هذا المبحث الكينوني من أجل التحول بالخطاب الفلسفي من مجرد طرح لغوي إلى قضايا ممارستية تعالج اليومي والراهن انطلاقا من الفعل المسرحي ذاته، لنبحث عبر هذا الطرح في المفارقة التأويلية للدازاين كمفهوم وكوجود يسجل حضوره في العرض المسرحي من خلال قراءة في مسرحية دازاين- عائشة 13- للمخرج التونسي سامي النصري سنة 2021.
تطرح هذه المسرحية مقاربة وجودية تسائل من خلالها الواقع النفسي والاجتماعي والأخلاقي في ظل تفشي ظاهرة الفساد خاصة داخل المؤسسات الصحية. فأحداث المسرحية تدور في مصحة للأمراض النفسية حيث تتقاطع القضايا النفسية والاجتماعية، الذاتية والجماعية، ضمن طرح هووي لتنتفض الذات الانسانية وتتجرد من آلامها وتواجه العالم رغم علتها ومرضها، وتواجه العدمية بما هي صيرورة انحطاط مجتمعي، انحطاط للقيم والتقاليد، لتتسلح بإرادة القوة والصورة الأبدية الموغلة في الميتافيزيقا ليصبح الموت خلودا أبديا للفكرة على حساب الجسد.
ففي هذا العمل نسمع صرخة المستضعفين ضمن إسقاطات نفسية وتراجيدية تحاكي الذات الإنسانية لتتجرد أصواتهم من قيد السلطة النفسية والاجتماعية، ومن قيد الوهم والأزمة، هي ضغوطات الواقع التي حولت المواطن، وخاصة المرأة إلى مريض نفسي، لتتعالى أصواتهن المستضعفة كنداء للرفض والتغيير. فهنّ تشمل الزوجة المعنفة جسديا ونفسيا، والأنثى المنبوذة، والأم العزباء المرفوضة من المجتمع، والمغتصبة المظلومة والمقهورة، والأم التي طردها ابناؤها ، والطبيبة النفسية التي تعيش بدورها فوضى نفسية بين العلمي والواقعي.

هي انتفاضة المرأة بما هي كينونة الهي التي تبحث عن هويتها الوجودية وسط عُقد المجتمع، المرأة التي تبحث عن كيان سليم يجردها من عنف العقلية الذكورية التي سيطرت على الهي الحالمة، إلا أن الأمر لا يتعلق هنا بالتوجه مباشرة إلى الرجل بقصد امتداح مركزيته والتنويه بسلطانه على المرأة معرفة وفعلا، واستنتاج أهليته عليها، بل إن اللوم هنا موجه للعائلة، للأفراد والأسرة، فالمجتمع ثم الدولة، فالكل يشترك في جريمة أصابع الاتهام فيها موجهة إلى كل ما يدفع المرأة الى الجنون. فالعرض هنا يدعو إلى قطع العلاقة مع إشكالية الذاتية وتقويض نزعة الوجودية الإنسانية التي تتبناها ضمن رحلة جدلية بين العقل والجنون.
إن العلاقة بين المسرح والجنون هي علاقة تبادلية تضعنا ضمن إسقاطات نفسية وفصامات وجودية، ومعاناة إنسانية مرهقة، ليشكل كلا منهما مفارقة بالنسبة إلى الآخر. فالمسرح هو ضرب من الجنون العاقل باعتبار أن الممارسة المسرحية هي فضاء للجنون من منظور كونه طاقة تخيلية إبداعية، والجنون هو مسرح غير عاقل يختلق فيه المريض فضاءات وعوالم وهمية لاواقعية، فالمريض النفسي يعيش وضعه الجنوني ليس كعالم متخيل وإنما كواقع حقيقي يعبر عنه بطرق مختلفة وغير متجانسة تتراءى لنا من الخارج كعالم جنوني لا يمكن التعايش معه. وبالتالي فإن طرح هذه العلاقة البارادوكسية بين المسرح والجنون، يساعدنا على الكشف عن الأبعاد الجمالية لهذه الثنائية من خلال الربط بين مسرح الجنون وجنون المسرح.
تطرح مسرحية دازاين-عائشة 13- اشكاليات الوجود الآني في المكان والزمان، اشكالية الجسد المتحرر من جنون الواقع وقيد المجتمع وزيف الحقيقة، من خلال قضية المرأة وعلاقتها بالمجتمع، وهي قضية مازالت إلى الآن محل جدل ونقاش وأطروحات مختلفة بين الرؤية الثقافية العامة للمجتمع وبين تصورات الحياة المعاصرة وأفاق تحرر المرأة و تطور مكانتها. وعلى الرغم من استمرارية التساؤل الذي يفتح لنا نقاشا جماليا وفكريا حول المرأة والمجتمع، بروح درامية قوية جسدته شخصية عائشة الطبيبة المريضة، الثائرة المثقفة، ليبحث العرض من خلال هذه دازاين الشخصية في كينونة الهوية الإنسانية في ظل الأزمة النفسية التي يواجهها التونسي عموما وتفشي إشكاليات العنف والتطرف وغياب الثقة وتطور الأمراض النفسية والاجتماعية ضمن كينونة الهم.
إن تحليلية الدازاين وماهية الوجود في علاقة بالمرأة هي توطيد لأواصر هذه العلاقة التي تحيل ماهية الشخصية على الركح إلى كائنات تأويلية تتجاوز مجرد طرحها الآني إلى طرح أعمق هو بالأساس طرح وجودي لكل من يرى ذاته في هذه الشخصيات لدفع المشاهد إلى زحزحة العالم الوثوقي المحيط به. فشخصية عائشة ليست مجرد امرأة ، بل هي فكرة حية لا تموت، هي أنموذج لنساء كثيرات آمنّ بالحرية والكتابة، شغفن بالعلم والقراءة وتوغلن في الطب النفسي قراءة وممارسة إلى حد الإصابة بالجنون، جنون لا ينبع فقط من الداخل بل هو أساسا وليد الخارج.
إن السؤال عن الوجود في مسرحية دازاين-عائشة 13- هو تسائل من منطلق جسدي نفسي بالأساس بالرجوع إلى المصحة العقلية كفضاء لمعالجة الأزمة النفسية الوجودية، باعتبارها اللحظة الهيكلية الأولى لمسألة الهوية والذات التي تسبقها محاولة “فهم قبل مفهومي للوجود”1 درسوني، وفاء، هايدغر وسؤال الميتافيزيقا عن الوجود أو من التقويض الفينومينولوجي للأنطولوجيا إلى التأسيس الهيرمينوطيقي لتحليلية الدازاين، مجلة العلوم الانسانية عدد 41 مجلد ب جوان 2014 ص532 ولكن هذا الفهم غير قابل للصياغة على نحو جدي مادام هناك خلل رئيسي في السلطة التي تسير المؤسسة الصحية التي بنت بدورها مفهومية خاصة بها للوجود المخادع نظرا للخور الموجود في المؤسسات الصحية. ليصبح “هذا التمثل قبل المفهومي للوجود، “هو الفاعل الحقيقي في “لا تمثلية ” الوجود وعدم قابلية فهمه وتعقله2محمد محجوب ، هايدغر ومشكلة الميتافيزيقا، دار الجنوب للنشر، تونس، ط 1، 1995 ص75 وهو ما خلق صراعات لفظية وجسدية بين الشخصيات كان منبعها الأساسي هو الصراع الوجودي، صراع السلطة والقوة والهيمنة على الآخر، فمن يمتلك الحقيقة يمتلك القوة، لكن “هذه المعقولية الجارية لا تؤدي إلى شيء آخر غير اللامعقولية”3Martin Heidegger, Etre et temps, Trad. de l’allemand par François Vezin ,Collection Bibliothèque de Philosophie, Série Œuvres de Martin Heidegger, Gallimard 1986P. 27. التي عبر عنها العرض بمختلف حالات الجنون التي فرضها الواقع على الشخصيات ليست كنتيجة بقدر ما هي وسيلة للتعبير عن الوضع.

 

 

ما تقييمك لهذا المقال؟
⭐ متوسط التقييم: 4.67 من 5 (3 صوت)
📂 التصنيفات: اهم المقالات, مقالات, مقالات رأي

أضف تعليقًا

الحقول المشار إليها بـ * إلزامية.