تقدير موقف: مخاطر دخول الجيش السوري إلى لبنان وتداعياته.

🖨️ طباعة هذه المقالة

بين الواقع في سوريا وتحركات القيادة السياسية الجديدة في المجالين الداخلي والخارجي، وبين ما يُنشر عبر وسائل الإعلام وبعض المراكز البحثية، حول أدوار وخطط تفتقد إلى الإثبات والتصريح المُعلَن، هنالك بون شاسع، ولطالما أن المصدر الموثوق مفقود، والطابع الرسمي عما يُنشر غائب كليًّا، فالأرجح التعامل مع ما يُروَّج بوصفه شائعات، أو إذا أخذناها على محمل الجد، فالأولى بالباحث المستبصر والمحقق المدقق أن يعتبر ما يُروَّج فرضية علمية لها عنوانها التبويبي العريض، والفرض والطلب، ومن ثم البرهان وصولًا إلى النتيجة؛ فهنا نقف على المدخلات والمخرجات، ونتوصل إلى النتائج والتوصيات التي تتكفل، عند وصولها إلى صانع القرار، بتبصيره بحقيقة الموقف وأبعاده ومآلاته المستقبلية.

ينطلق هذا التقدير المعنون بـ: “مخاطر دخول الجيش السوري إلى لبنان وتداعياته” من فرضية رئيسية مفادها: “إن ما تشير إليه بعض التقارير غير المؤكدة إلى دخول الجيش السوري الجديد إلى مدينة طرابلس في لبنان، مع خطط محتملة لمواجهة حزب الله – في حال كانت صادقة – فإن لها تداعيات سياسية وأمنية خطيرة تمتد آثارها إلى النطاق المحلي، وبالتالي العودة إلى دائرة تهديد الأمن والاستقرار الإقليمي، وتزعزع تسويات وتوازنات النسق الإقليمي التي تبلورت مع مطلع عام 2025م”.

الموقف الأول: مخاطر وتداعيات دخول الجيش السوري إلى طرابلس:

أولًا: تصعيد التوترات الطائفية:

لبنان وسوريا دولتان تعانيان من انقسامات طائفية ودينية عميقة، حيث تُعَد طرابلس الواقعة في شمال لبنان من أبرز المدن الحساسة التي شهدت توترات طائفية سابقة، خاصة بين إخوة الدين الواحد (السنة والشيعة). وهنا يزيد دخول الجيش السوري، واحتمال خروج بعض الفصائل ذات الطابع الديني عن السيطرة، إلى طرابلس من احتمالية إشعال فتيل مواجهات طائفية، خاصة إذا ما قوبل بمقاومة من حزب الله أو القبائل الشيعية في المناطق المجاورة، مثل منطقة البقاع أو الهرمل. هذه المواجهات، حسبما يرى مراقبون من أبناء لبنان، قد تمتد إلى مناطق أخرى في لبنان، مما يهدد بإعادة إشعال نزاعات طائفية تشبه تلك التي شهدها لبنان خلال الحرب الأهلية (1975–1990) أو خلال تداعيات الصراع السوري بين عامي 2011 و2017.

ثانيًا: تقويض سيادة لبنان ومفرزاته داخليًّا سياسيًّا وعسكريًّا:

دخول قوات سورية إلى الأراضي اللبنانية يُعدّ انتهاكًا صارخًا للسيادة اللبنانية، خاصة في ظل الجهود الحالية لتعزيز سيطرة الدولة اللبنانية على أراضيها بعد سنوات من الهيمنة السورية أيام الأنظمة السابقة حتى عام 2005. هذا التحرك قد يُثير ردود فعل داخلية قوية من قبل القوى السياسية اللبنانية، مثل تيار المستقبل أو القوات اللبنانية، التي طالما عارضت أي تدخل سوري. كما أن مثل هذا الحدث قد يُعزز من نفوذ حزب الله كقوة “مقاومة” ضد التدخل الخارجي، مما يُعقد جهود نزع سلاحه أو الحد من نفوذه، وفقًا لقرارات الأمم المتحدة مثل القرار 1701.

ثالثًا: إضعاف كلٍّ من حزب الله والقوات السورية ونتائج غير مأمونة:

كان حزب الله المدعوم – وما زال – من إيران حليفًا وثيقًا لنظام بشار الأسد حتى سقوطه في ديسمبر 2024، وساهم بشكل كبير في دعم القوات السورية خلال الحرب الأهلية السورية. ولكن المعطيات الميدانية اختلفت مع وصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة في دمشق؛ فأصبح حزب الله في مواجهة مباشرة مع الحكومة السورية الجديدة، التي يعتبر كلٌّ منهما الآخر تهديدًا بسبب ارتباطه بإيران ودوره في دعم النظام السابق. وعلى فرض أن التقارير الإعلامية الارتجالية غير المسؤولة صحيحة عن خطط الجيش السوري لضرب حزب الله، فقد يؤدي ذلك إلى مواجهات عسكرية مباشرة على الحدود السورية–اللبنانية، خاصة في مناطق مثل القصير والهرمل، التي شهدت بالفعل اشتباكات في فبراير ومارس 2025. هذه المواجهات قد تتسبب بخسائر كبيرة؛ بالنسبة لحزب الله فهي أقل، لكونه ابن الجغرافيا ويعلم تفاصيل الجيبوليتيك اللبناني بالتفصيل، ويملك ترسانة عسكرية خفيفة ومتوسطة وبعيدة المدى والنطاق. ولكن لا بد أن يتكبد خسائر كبيرة لأن الهجوم عليه سيكون بريًّا، الأمر الذي لن يتم بدون مشاركة إسرائيلية تستغل الموقف لصالحها. بالمقابل، سيتكلف الجيش السوري الكثير جراء تواضع أسلحته، وأغلبها خفيفة، واحتمالات انضمام الحاضنة الشعبية لحزب الله وقتالها لصالحه.

رابعًا: زعزعة استقرار لبنان وسوريا:

يعاني لبنان بالفعل من أزمات اقتصادية وسياسية عميقة، وأي تصعيد عسكري قد يُفاقم هذه الأزمات، خاصة مع وجود أكثر من مليون لاجئ سوري في لبنان. ومن جهة أخرى، لا تزال الحكومة السورية الجديدة في مرحلة إعادة بناء، وقد تجد نفسها عاجزة عن السيطرة على المناطق الحدودية إذا تصاعدت الاشتباكات مع حزب الله أو القبائل الشيعية. هذا قد يؤدي إلى فراغ أمني في سوريا قابل للاستغلال والاختراق، وهنا تكمن الخطورة الأمنية والعسكرية التي قد تكون لها مغبّات جسيمة.

الموقف الثاني: هل يمكن أن نشهد تدخلًا إقليميًّا؟

أولًا: دور إيران:

من البديهي القول إن حزب الله هو اليوم الذراع الإقليمية الأبرز لإيران في المنطقة، وهو في حالة شبه مبتورة بعد استشهاد قادته، وتطويقه جغرافيًّا، وانقطاع سبل الإمداد اللوجستي والعسكري. وأي هجوم مباشر عليه من قبل الجيش السوري الجديد قد يُثير رد فعل إيراني. إيران، التي خسرت حليفها الرئيسي في سوريا (نظام الأسد)، قد تسعى لدعم حزب الله عبر إرسال تعزيزات أو تصعيد عمليات تهريب الأسلحة عبر العراق. ومع ذلك، فإن قدرة إيران على التدخل العسكري المباشر واردة جدًّا بعد الحرب الأخيرة التي أثبتت فيها مقدرتها العسكرية وجدية تهديداتها. لذلك، لن تقف إيران مكتوفة الأيدي في حال تضرر حزب الله ضررًا بالغًا يؤثر على وجوده العسكري في لبنان.

ثانيًا: تدخل إسرائيل:

أضعفت إسرائيل حزب الله بشكل كبير في 2024، وتراقب الوضع على الحدود السورية–اللبنانية عن كثب، وأي تصعيد بين الجيش السوري وحزب الله يُشجع إسرائيل على التدخل، خاصة إذا رأت في ذلك فرصة للقضاء على بقايا البنية العسكرية لحزب الله أو قطع خطوط إمداداته.

ثالثًا: تركيا والقوى “ودول المعتقد الأيديولوجي ذاته”:

يبقى الاحتمال واردًا جدًّا بتلقي هيئة تحرير الشام، التي تتلقى دعمًا مباشرًا من تركيا، دعمًا إضافيًّا إقليميًّا من دول مثل السعودية أو قطر إذا تصاعد الصراع مع حزب الله للحد من نفوذ إيران وحزب الله، مما قد يوسع نطاق الصراع إلى صراع إقليمي على أساس العامل الديني.

رابعًا: روسيا والولايات المتحدة:

لا تملك روسيا، التي خسرت نفوذها في سوريا بعد سقوط الأسد، القدرة حاليًّا على التدخل بشكل مباشر، لكنها قد تسعى للعب دور الوسيط لتجنب تصعيد يُهدد مصالحها في الساحل السوري. بالمقابل، قد تعمل الولايات المتحدة، التي تدعم القوات الكردية في شرق سوريا وتوفر مساعدات عسكرية للجيش اللبناني، على احتواء الصراع لمنع انهيار الاستقرار الإقليمي، خاصة في ظل التوترات المستمرة في غزة وجنوب لبنان، واحتمال تدخل إيران وتهديد مصالحها من قبل الحوثيين.

الموقف الثالث: لماذا يجب امتناع القوات السورية عن التدخل في لبنان وإثارة حزب الله؟

أولًا: الهشاشة العسكرية:

الجيش السوري الجديد لا يزال في مرحلة إعادة تشكيل، وهو يواجه تحديات كبيرة في فرض سيطرته على كامل الأراضي السورية، وإن أي تحركات عسكرية خارج الحدود قد تُرهق قدراته وتُثير ردود فعل داخلية، تُفتح المجال لاستغلالها من قبل بعض القوى الدولية.

ثانيًا: الضغوط الدولية:

يسعى المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة والدول العربية مثل السعودية، لتثبيت الاستقرار في سوريا ولبنان، بدليل اتفاقيات مثل تلك التي رعتها السعودية في مارس 2025 لترسيم الحدود بين البلدين، والتي تهدف إلى تقليل التوترات ومنع التصعيد. لذا، فإن أي تحرك سوري في لبنان قد يُعرض هذه الجهود للخطر، ومن المرجح ألا توافق هذه الدول على هذا النوع من التحركات لما ينطوي عليه من مجازفة وخطورة.

ثالثًا: وجود الجيش اللبناني:

تلقى الجيش اللبناني، رغم هشاشته، تعليمات من الرئيس اللبناني جوزيف عون بالرد على أي مصادر نيران لتعزيز سيطرته على الحدود، بدعم من قوات الأمم المتحدة (يونيفيل). قد يحد ذلك – بنسبة ضئيلة – من التصعيد، الذي إذا تم، فإن الجيش اللبناني سيواجه خسائر كبيرة.

رابعًا: الوضع الداخلي لحزب الله:

يعاني حزب الله من إضعاف كبير وتحجيم لترسانته العسكرية، التي تكفيه لقتال إسرائيل على المدى المتوسط، ولكن دخوله في مواجهات برية مع قوى أخرى قد يُنهكه دون مقدرة على استخدام صواريخه النوعية متوسطة وبعيدة المدى، بعد خسائره في مواجهة إسرائيل وسقوط حليفه الأسد. هذا الوضع قد يدفعه إلى تجنب التصعيد العسكري المباشر مع الجيش السوري، خوفًا من استنزاف موارده أكثر أو خسارة دعم قاعدته في لبنان من خارج القوس الاثني عشري.

بالنتيجة، إن دخول الجيش السوري إلى طرابلس – إذا تأكد – يحمل مخاطر كبيرة تشمل تصعيد التوترات الطائفية، تقويض سيادة لبنان، وإضعاف حزب الله، مع احتمال توسع الصراع إلى مواجهات إقليمية تشمل إيران، إسرائيل، وتركيا. ولكن عوامل مثل الهشاشة السياسية والعسكرية في كلا البلدين، إلى جانب الضغوط الدولية ودور الجيش اللبناني، قد تحد من احتمالية التصعيد الشامل. ويكمن الحل الأمثل بالنسبة للقيادتين السياسيتين في لبنان وسوريا، في تعزيز التنسيق الأمني، ودعم الجهود الدولية لترسيم الحدود، ومنع تدفق الأسلحة والمقاتلين، وتجنب الخوض في صراع عبثي مع حزب الله، وأخذ إيران بعين الاعتبار في أي تحرك ضد حزب الله وقاعدته الشعبية، وحرمان القوى الدولية من توظيف ورقة الخلاف السياسي والديني والعسكري والاجتماعي لصالح ضرب القوى ببعضها، وتجنب دخول سوريا في أي نوع من المفاوضات التي تتضمن مقايضة من قبيل توظيف قواتها لتحقيق مكاسب لصالح طرف ثالث مقابل مكاسب سياسية أو أمنية وغير ذلك، ووضع احتمال نشوء حرب طائفية في حال أُسيء التقدير بخصوص أي تحرك ينتهك السيادة، لأن هذه التحركات تقود جميعها إلى تهديد الأمن والاستقرار الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط عامة، والمنطقة العربية خاصة.

ما تقييمك لهذا المقال؟
⭐ متوسط التقييم: 4.8 من 5 (5 صوت)
📂 التصنيفات: تحليلات, مقالات

أضف تعليقًا

الحقول المشار إليها بـ * إلزامية.