في بيئات يغلب عليها الانسداد السياسي وسطوة قوى طائفية ورجعية، تتفشى فيها مظاهر الفساد واستغلال المال العام، تبرز التحالفات السياسية كأداة مهمة وضرورية لإعادة رسم المشهد السياسي. في الفهم الماركسي، لا تُختزل هذه التحالفات بتفاهمات مؤقتة، بل تُعدّ وسيلة تنظيم واستقطاب وتوسيع لجبهات الصراع. ومع ذلك، يمكن أن تتحول بسهولة إلى واجهات فارغة يعاد عبرها إنتاج الشكل دون مضمون، خاصة حين تتصدرها كيانات حزبية وإعلامية بلا امتداد شعبي حقيقي، لكنها تُقدَّم كبدائل معارضة.
من هنا، يصبح النظر إلى التحالف من منظور نقدي أمرًا ضروريًا، لفهم ظاهرة ما يسمى بـ”تحالفات الدكاكين”—تحالفات شكلية تدّعي تمثيل مشروع التغيير، لكنها فعليًا تعزز واقع الهيمنة وتُفرغ العمل السياسي من جوهره.
التحالف السياسي في المنظور الماركسي: أداة نضال لا واجهة زائفة
يُنظر إلى التحالفات السياسية باعتبارها أدوات تنظيم وتعبئة، وليست مجرد ترتيبات شكلية. إنها تعبير مرحلي عن توازنات القوى الطبقية، تُستخدم لتوسيع قاعدة النضال الجماهيري ورفع مستوى المواجهة مع البنى القائمة. لكنها، كما هو الحال اليوم، قد تتحول إلى مجرد آلية لإعادة إنتاج نفس العلاقات السلطوية القديمة بوجه جديد، حين تفتقر لمضمون شعبي وتنظيمي حقيقي.
التحالف لا يُقاس بعدد الأحزاب المنضوية فيه، ولا بزخم البيانات أو الظهور الإعلامي، بل بمدى قدرته على إحداث تغيير حقيقي في ميزان القوى. وفي هذا السياق، فإن أي تحالف لا يرتكز إلى قاعدة جماهيرية فعلية، ويكتفي بالصوت العالي أو الصورة الإعلامية، فهو تحالف هش، فارغ، لا يملك قدرة التغيير.
تحالفات تُبنى من فوق لا من الأرض
هناك فارق جوهري بين التحالفات التي تُبنى من “أسفل”، أي من واقع اجتماعي نابض بالتنظيم والتعبئة الشعبية، وتلك التي تُفرض من “فوق”، حيث تُصاغ بناءً على تفاهمات بين نخب معزولة أو رغبات في البروز الإعلامي. النوع الأول يخلق فعلًا سياسيًا حقيقيًا، أما الثاني فلا يتعدى كونه أداءً مسرحيًا يعيد تدوير نفس المنظومة.
وغالبًا ما تنشأ هذه التحالفات الشكلية في لحظات سياسية حرجة، لتبدو كأنها “بديل” أو “معارضة”، بينما هي في الواقع، إما أدوات احتواء للغضب الشعبي، أو مشاريع شخصية تتخفّى خلف شعارات التغيير.
أهداف التحالف السياسي: بين النظرية والتطبيق
التحالفات السياسية ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لتحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية والمرحلية. أول هذه الأهداف هو تعبئة قوى جديدة، أي ضمّ فئات اجتماعية غير ممثلة تنظيمياً إلى مشروع تغييري منظم. ويتطلب ذلك تمثيلًا فعليًا لمصالح هذه الفئات، لا مجرد خطاب شعبوي يُستخدم لاستدراجها ثم يُهمَّش لاحقًا.
كما تهدف التحالفات إلى تعظيم الموارد، سواء كانت بشرية أو لوجستية أو رمزية. بمعنى أن التحالف الناجح يعيد توزيع أدوار التنظيم والنضال، ويخلق حالة من التنسيق الميداني تسمح بتوسيع الأثر الجماهيري والضغط السياسي. كذلك، تسهم التحالفات في بناء جبهة مقاومة موحّدة، أي كتلة قادرة على مراكمة القوة والتأثير في المجال العام، لا مجرد منصة خطابية أو إعلامية.
أخيرًا، فإن أحد أهم أدوار التحالف السياسي هو إعادة صياغة أفق التغيير. وهذا يتطلب تجاوز الأطر التقليدية للتمثيل الحزبي المقيد بمنطق الدولة، نحو بلورة أدوات جماهيرية بديلة تعبّر عن المصلحة العامة وتنطلق من قاعدة اجتماعية حقيقية، لا من مواقع نخب معزولة.
أحزاب الدكاكين: الواجهة بلا مضمون
في قلب هذا المشهد، تطفو ظاهرة “أحزاب الدكاكين”. وهي كيانات سياسية تفتقر للقاعدة الشعبية والتنظيم الفعلي، يقودها أفراد أو مجموعات ضيقة، وتعيش على الإعلام واطلاق الشعارات، بدلًا من التغلغل في المجتمع والميدان. هذه الأحزاب لا تمتلك أي قدرة فعلية على التأثير السياسي أو الجماهيري، وتُدار غالبًا وفق منطق الزعامة الفردية والنرجسية السياسية.
يُلاحظ أن هذه الكيانات غالبًا ما تظهر في لحظات سياسية فاصلة، لا لتبني مشروعًا تغييريًا حقيقيًا، بل لتُعيد تقديم النظام بصيغ جديدة. وقد تنضم لتحالفات تُسوَّق كـ”جبهات تغيير” أو “تحالفات وطنية”، لكنها في الحقيقة لا تمثل سوى تقاسم رمزي للأدوار، بلا مضمون حقيقي.
نحو تحالفات تملك المعنى والقوة
الخروج من هذا المأزق يتطلب إعادة بناء التحالفات على أسس واقعية، لا إعلامية. المطلوب تحالفات تنطلق من احتياجات الناس، من الحركات الاجتماعية الحقيقية، من المنظمات الجماهيرية والنقابات الحقيقية التي تنظم مئات الالاف وقادرة على تحشيد الملايين، من الفعل الجماهيري لا من المؤتمرات الصحفية. كما يتطلب وضوحًا في الخط السياسي، وجرأة في قول ما هو جذري، ورفض ما هو زائف، حتى لو حمل شعار التغيير.
هذه التحالفات يجب أن تكون واضحة في برامجها، جذرية في مواقفها، صادقة في علاقتها بالناس. فالقوة السياسية لا تُقاس بعدد الأطراف ولا براديكاليتها الشعاراتية، بل بمدى قدرتها على تنظيم الناس، مئات الالاف من الناس، لإحداث التغيير في واقعهم.
لا يكفي رفض هذا الواقع، بل لا بد من تجاوزه تنظيميًا وسياسيًا. المطلوب هو بناء تحالفات نابعة من الواقع، ترتكز إلى قواعد شعبية، لا إلى زعامات أو مصالح نخبوية. تحالفات تُبنى على برامج واضحة، وتخوض صراعات حقيقية.
فالتحالف السياسي، في زمن الهيمنة الرمزية، لا يُقاس بعدد الأطراف ولا بثورية الشعارات، بل بمدى القدرة على إحداث تأثير فعلي في ميزان القوى. وتحالفات الدكاكين، بكل ما تحمله من شعارات، ليست سوى إعادة تدوير للنظام بشعارات جديدة. الوعي الثوري يبدأ برفض هذا النمط، وفضحه، والعمل على تجاوزه ببناء بدائل تنظيمية حقيقية تُعيد السياسة إلى أصحابها: الجماهير.